الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

بطولة أمى.. شفيقة رشدى

بطولة أمى.. شفيقة رشدى
بطولة أمى.. شفيقة رشدى


د. أحمد الخميسى
ارتبطتْ بوالدى الفنان الشاعر عبدالرحمن الخميسى وهى فى الرابعة والعشرين من عمرها، لأجله قطعت تعليمها الجامعى فى كلية الآداب. ولم تهنأ إلا بخمسة أعوام من الزواج إذ سرعان ما طوت ظلمات الاعتقال والدى عام 1953، فأدركت أن عليها استئناف الدراسة لتجد عملاً تؤمّن لنا براتبه مقومات الحياة.

ساعدها دكتور لويس عوض على تدبير شهادة طبية بمرض نفسى، فأعادوا قيدها فى الكلية بعد انقطاع أربع سنوات، عشنا معها فى بيت جدى بالجيزة، وكانت تمشى يوميّا إلى الجامعة سيرًا على قدميها نحو ساعة، ترجع تغسل ملابسنا، تكوى. تنظف. تساعد جدتى فى الطبخ. فى المساء تراجع معنا دروسنا.
ننام فتعكف هى على محاضراتها حتى الفجر. تجرعتْ مرارة أنها مُرغمة أن تعيش مع أطفالها عبئًا على معاش جدى الهزيل، وهو الذى قاطعها ثلاثة أعوام بعد أن تقدم والدى لطلب يدها فسأله جدى بعنجهية:«وحضرتك أين تعمل؟». أجابه والدى بسذاجة:«شاعر وكاتب»، فقال له على الفور: «مادمت لا تعمل فى الحكومة يبقى لامؤاخذة شُف لك شوفة أخرى».
 حينذاك اتخذتْ هى قرارًا جريئًا بأن تهرب مع والدى وتعقد قرانها فى بيت خالتها بحلوان. خاصمها جدى وحَرَّم ذكر اسمها أمامه إلى أن ذاب غضبه فى دموع جدتى. أنهتْ الكلية واشتغلتْ مُعلمة فى مدرسة بمدينة طوخ. تبيت هناك فى منزل المعلمات طوال الأسبوع. وتأتى للقاهرة الخميس وتسافر الجمعة.
 شابة حُرمت من زوجها، أمٌ حُرمت من أطفالها، ومع ذلك لم نسمعها تشكو مَرَّة واحدة. كنا نأكل فى الإفطار والعشاء أنصاف أرغفة، وإذا تسللت أصابع أحدنا الصغيرة لأكثر من نصيبه لسعه جدى عليها بكفه الثقيلة. وكان جدى يراقب الجميع بعينين مفتوحتين وهم يأكلون ليضمن أن الخبز سيكفى الأفواه المفتوحة وأن عدالة الفقر ستتخذ مجراها.
يحدث هذا أمام عينيها. تكز على ضروسها ولا تنطق. علّمنا صبرها وصمتها أن ننهض جوعى مبتسمين كأنما شبعنا، مشينا حفاة فى شارع السروجى فلم يطرف لها جفن، ولم تظهر ضعفًا أمامنا أبدًا. فقط كان الصداع النصفى يهاجمها بضراوة. ترقد على جنبها فى حجرة نصف معتمة. تربط رأسها بمنديل تعقد طرفيه بمفتاح باب الحجرة.
تطلب مِنّى أن أجلس على السرير بالقرب منها وأضغط رأسها بجماع يدى الاثنتين. كانت روحها من القوة بحيث لم تجد الطبيعة فيها منفذًا للبكاء فراحت تلطم بدنها بصداع عنيف عوضًا عن دمع لا ينهمر.
كنت أنتظر عودتها من طوخ كل يوم خميس. أصعد إلى سطح البيت، أشب بقدمى وأرتكز بمرفقى على السور. أحدق يسارًا بنهاية الطريق أترقب ظهورها. يطن رأسى الوقوف طويلاً فى هواء ملون بوهج الشمس. أخيرًا تلوح هى من بعيد. ترفع رأسها ناظرة إلى السطح لأنها تعلم أنى أنتظرها، أنتظرها ولا أفقد الأمل أبدًا.
 عندما لا يفصلها عن البيت سوى أمتار قليلة أهبط مسرعًا زاعقًا فى أخواتى: «ماما جاءت». ترانا فتمر ببصرها علينا بلهفة كأنما تطمئن على كل ضلع فينا وكل ذراع. تلمنا بعشق بين ذراعيها المفرودتين. تغوص رؤوسنا فى بطنها. تلمع عيناها وهى تحدّق بنا بنظرة قطة إلى أبنائها بين ألسنة حريق. يلوح فى عينيها سؤال «أهو قدر مكتوب؟ أم أن العالم يمكن وينبغى أن يغدو عالمًا آخر؟.»
 عام 1956 خرج والدى من المعتقل وانتقلنا إلى شقة أخرى، وبدأنا حياة جديدة. كانت أول من شجعنى على كتابة القصة القصيرة بإعطائى خمسة قروش عن كل قصة، ولما انفتح أمامى باب الثراء هذا صرت أشخبط أى كلام لأحصل على القروش الخمسة، إلى أن حل يوم وانتبهت فيه إلى ذلك فقالت لى:«إذا كنت ح تشخبط أنا كمان ح أشخبط ومش ح أديك حاجة»!
وكانت حياة والدى المتقلبة لا تضمن لنا موردًا ثابتًا، فكان راتبها الشهرى هو عماد حياتنا المنتظمة. فى ظلها كان بيتنا رُغم تواضع إمكانياتنا مفتوحًا لكل أدباء الستينيات، أحمد هاشم الشريف، وأمل دنقل، وجمال الغيطانى ويحيى الطاهر، وسلوى بكر، وغيرهم من الأصدقاء.
 ورُغم أننا كنا جميعًا مازلنا فى المدارس، وأنها كانت تراجع الدروس مع بعضنا، فإنها وهى تعمل مشرفة على سلسلة نشر فى دار الكاتب العربى أخذت  تدرس فى معهد السيناريو حتى أنهته، ثم التحقت بمعهد الدراسات الاشتراكية وأنهته.
 وتوفيت رافعة الرأس كما عاشت، كانت جالسة بيننا ثم طلبت جرعة ماء شربتها ومال رأسها فى صمت على كتفها بالكبرياء نفسها التى عاشت بها. وأظن أن أمى نموذج من نماذج كثيرة لأمهات لكل واحدة منهن قصة بطولة وشجاعة. كل سنة وأنت طيبة يا أمى. كل سنة وأنت فى القلب حتى يأذن الله لنا باللقاء. •