السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أنا بنت فاطمة محمود البكرى

أنا بنت فاطمة محمود البكرى
أنا بنت فاطمة محمود البكرى


د. آمنة نصير
نشأت فى أسرة صعيدية بمعنى الكلمة، ثقافة وتدينًا وثراءً فى الحياة. والدى كبير عائلة آل نصير، ووالدتى فاطمة بنت محمود مصطفى أبو السعود البكرى، قمة فى السخاء وحسن الضيافة للكبير وللصغير وللقادمين من مدن الشاطئ.

تفتحت عينى على ثقافة وحضارة الصعيد، الملتزمة من قبل أمى التى لم تترك كبيرة أو صغيرة فى سلوكى أنا وأختى، إلا وتوقفت عندها، فتقول:«بنات العائلات والأصول لايضحكن بصوت عالى»، وعندما كان يأتينا ضيوف من نساء العائلة، كانت نظرتها تكفى لأن نقرأ فيها ما تريد، فمن ثقافتنا أن الطفلة لا تجلس وسط النساء، أقصد نظرة الأم الدائمة على سلوك أطفالها، وتقبل الأولاد لهذا، لأنها لا تجرح أبناءها أمام الضيوف، وفى نفس الوقت لا تترك الأمر لأن يحدث فيه ما لا يراد منه.. فى الأربعينيات فى «قرية موشا» بأسيوط، كان والدى يوفر لنا صبيًا يأتى لنا بالصحف والمجلات اليومية من المركز، الذى يبعد 15 كيلو عن قريتنا، ويكلفه أن يمر علىّ لأنتقى ما أريده من الصحف والمجلات، قبل أن يدخل البيت، الأمر الذى فرض على القراءة السريعة، منذ كنت فى الصف الثانى الابتدائى.
أذكر أن ناظر المدرسة كان يأخذنى من الصف الثانى، لأقرأ أمام طلاب الصف الرابع وأحرجهم، مما أكسبنى نوعًا من التفتح المبكر، فعرفت أمينة السعيد والمحامية مفيدة عبد الرحمن وسهير القلماوى، التى زرعت فى منذ طفولتى حب أن أعمل بالجامعة.. لم تكن أمى تقرأ أو تكتب، لكن كانت تتحدث الفصحى بطلاقة، ففى قريتنا موشا كان عندنا الكثير من خريجى الأزهر، أيام كان للأزهر دور فى البلاد.
المعركة الأولى
وقفت أمام أبى كبير العائلة، وأنا فى سن 8 سنوات، لأطلب منه أن أكمل تعليمى فى أسيوط، بعد أن أنهيت الأربع سنوات الإلزامية، فنظر إلى باندهاش وغرابة:«ما أنت الولد بيجيب لك الجرايد، اتعلمى منها، وخليكى فى البيت عشان نجوزك».. وهنا انبرت أمى وقالت:«ياحاج، وماله، اسمع كلامها وطاوعها، ونشوف مدرسة حلوة السمعة»، فيقول لها: هنشوف الموضوع ده، فى حوار مؤدب حلو بين رجل وزوجته.. لكنها تأتينى بعيدًا عنه وتقول لى بإشفاق الأمومة وبأسى: «ثقافتنا كده، هيقولوا علينا إيه، إحنا محسوب علينا كل حاجة، اكتفى بما وصلت إليه من التعليم، أنت مثقفة وتقرأى وتكتبى».
لجأت إلى ناظر المدرسة الذى كان يأخذنى للفصول الأكبر لأقرأ لهم، وما زلت أشعر بمذاق تلك اللحظة، رغم مرور 70 عامًا عليها، فجلس مع والدى فى الدوار الكبير، الذى كان يفصله باب ضخم عن مكان النساء، وقال له«ياعم الحاج أنا هدخلها مدرسة داخلى، لن يراها أحد ولا يزورها أحد، سوى أخوها أو أنت لما تيجوا تاخدوها فى الإجازة»، يقصد المدرسة الأمريكية فى أسيوط.. مكثت سنة كاملة فى هذا الصراع، واستعنت بأقاربى الذين كانوا يعيشون فى الإسكندرية وفى القاهرة، خلال زيارتهم لنا، خاصمت البيت كله، وأجلس فى غرفة معزولة، أتعبت أمى وأختى التى تكبرنى بسنة ونصف، وأخى الكبير أحمد الذى كان يكبرنى بـ15 سنة، وكان لى أخ اسمه على، توفى فى عمر العشرين فى ثأر بين عائلتى وعائلة أخرى.. وفى يوم قال أبى لأمى: هى آمنة مقاطعانا ولا إيه؟، فقالت: زعلانة، فرد:ولا يهمك هنوديها المدرسة، الناظر هيقدم لها، كانت مصروفات الإقامة فى القسم الداخلى 200 جنيه، بجانب 50 جنيهًا مصروفات الدراسة، وكان مبلغًا يكفى لشراء فدانين ونصف، كانت أكبر وأفضل مدرسة فى الإرساليات التبشيرية فى الشرق الأوسط، وبقيت فيها 12 سنة، وقال أحدهم ما أنفق على تعليم آمنة كان يكفى شراء عزبة كاملة.. الدراسة فى هذه المدرسة، لا تضاهيها أى دراسة موجودة الآن، حتى فى المدارس الدولية، شكلتنى كإنسانة، وساندتنى أمى فى معركة التعليم رغم قولها: «أروح منك فين، إزاى تتغربى وتروحى أسيوط»، وواصلت معركة التحاقى بالجامعة وساندتنى فيها قريبتنا من القرية، عميدة كلية البنات بجامعة عين شمس وقتها، د. فتحية سليمان التى كان والدها قائد الجيش المصرى فى السودان، وسافرت لتتعلم فى لندن، وزوجة وزير التعليم العالى فى الستينيات د. عبد العزيز السيد.
أمى الثانية
أقنعت طنط فتحية مع أقارب آخرين، والدى بأن ألتحق بالجامعة التى لا يوجد فيها اختلاط، ورفض رئيس قسم اللغة الإنجليزية د. أبو العينين أن ألتحق بقسمه، ودلنى على دراسة الفلسفة وعلم النفس، كى أتوازن مع نفسى، بعد سنوات الدراسة فى المدرسة الأمريكية.. طنط فتحية كانت أمى الثانية فى القاهرة، تعلمت من أصدقائها، د. لطيفة الزيات، ود. حكمت أبو زيد، ود. سمية فتحى، ود. صفاء الأعسر، واختار لى د. أبو العينين أن أدرس فى الماجستير فلسفة جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزى صاحب مدرسة الحنابلة والفكر السلفى.
طوال هذه الرحلة كانت أمى تشجعنى بقولها:«يامطولة رقبتى يا آمنة..يا مشرفانى ياحبيبتى»نجاحى كان فخرًا لها، وكانت كلماتها تعطينى اعتزازًا نفسيًا وأخلاقيًا، والبنت التى تسمع هذه الكلمات تنشأ قوية أبية، متشبعة بالثقة فى نفسها، وبالعاطفة، فلا تكون مشتاقة لسماع كلمات من هنا أو هناك، ولا تقبل لنفسها بالدنية مهما يكن ثمنها، ولا تقبل الهزيمة، وهو ما بقى بداخلى حتى الآن من أمى، السيدة القوية الإرادة التى لا تنكسر أمام أى أحد. •