الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

طيف أمى «مقبلة» ووصيتها..

طيف أمى «مقبلة» ووصيتها..
طيف أمى «مقبلة» ووصيتها..


كتب: د. جودة عبدالخالق
ها هى إشراقات عيد الأم تهلّ علينا. وبهذه المناسبة، يطل علىّ طيف أُمّى رحمها الله، مُقْبلة  «بضم الميم وتسكين القاف وكسر الباء وفتح اللام، من الفعل أقبل» وهو اسم يوحى بالتفاؤل والإيجابية والنظر إلى المستقبل.

 تغمرنى حالة من الطمأنينة عندما يزورنى طيف أمّى، بنورانية وجهها الصبوح ودفء صوتها الحنون. ويدور شريط الذكريات. أتذكر محطات عديدة فى حياتى، وكيف كان لتدخُّلها فضل عصمتى من الزلل، ووضعى على الطريق القويم، وأسترجع مواقف مصيرية  لم يسعفنى فيها إلا تحركها الإيجابى بكل ما ملكت من بصيرة وشجاعة، وبكل ما أشاعت من حُب.  فى سنوات طفولتنا غمرتنا بحبها وحُسن تدبيرها، فلم نشعر بالحرمان أبدًا، رُغم قلة المال وكثرة العيال، وعندما كنا نشير إلى ما اشتراه الجيران من مأكل أو مَلبس، كانت دائمًا ترد: الحمد لله أنتم فى أحسن حال ولا ينقصكم شىء، هكذا غرست فينا القناعة وحُب الغير، وكان ذلك أغلى ما ورثناه عنها.
عندما كنت فى السنة الأولى من المرحلة الثانوية، حدث أن انقطعت عن المدرسة رُغم تفوقى. فلأنى أكبَر الأبناء، قررت ترك المدرسة  لألتحق بعمل فى شركة الكهرباء التى كان يعمل فيها والدى لأساعده فى تحمُّل أعباء إخوتى السبعة الصغار. وبينما كنت أجهز أوراقى للالتحاق بالعمل،  تصادف أن مررت بزملائى فى المدرسة يلعبون الكرة عقب انتهاء اليوم الدراسى.
 قلت لنفسى: ألست- وأنا دائمًا أول المدرسة-  أحق منهم باستكمال تعليمى؟ كانت تلك لحظة فارقة، عدت لمنزلنا وأنا أبكى بكاءً حارّا. فأنا أريد العودة إلى المدرسة، لكنهم فصلونى لانقطاعى دون عُذر، والأمر أصبح يتطلب دفع مصروفات لإعادة قيدى. يعنى موت وخراب ديار!
 والدى رفض بشدة فكرة عودتى إلى المدرسة، لأن ذلك سيضعه فى موقف حرج أمام زملائه.  لكن أمى لم تحتمل بكائى وأصرت على عودتى، فباعت ما ملكت من حطام الدنيا رُغم قلّته ودفعت المصاريف واستأنفتُ دراستى. وبفضل حُبها الفياض، كان ما كان.
ماتنساش أهلك وناسك
مازالت وصية أمى ترن فى أذنىّ: عندما تدخل مكانًا، أىّ مكان، لا تتركه إلا وهو فى حالة أفضل مما وجدته عليه أول مرة. حقّا، ما أغلاها من نصيحة وما أبلغها من حِكمة. لقد تعلمت منها كيف يكون الإحساس بالمسئولية والحرص على المصلحة العامة.
  كثيرًا ما يزورنى طيف أمى، يحضُّنى على عمل الخير، ويحذرنى من فعل الشر، ورُغم أنها- رحمها الله- كانت سيدة ريفية بسيطة لم تتلق أىّ تعليم يُذكر، لكنها كانت بالفطرة  ذات إدراك نافذ وحيلة واسعة وتقدير سليم. كم أفتقدها فى هذا العالم المضطرب الذى نعيش فيه، حيث طغت نزعة الأنامالية وتسيدت شريعة الافتراس!
ولن أنسى وصيتها لى عندما كنت أودعها يوم السفر إلى كندا للحصول على الدكتوراه. قالت بعفويتها المعهودة: «خللى بالك من كريمة  يا جودة (تقصد زوجتى)، وما تنساش أهلك وناسك». وقد كان. فعندما أنجزت رسالة الدكتوراه، كتبت إهداءها «إلى الفلاح المصرى الذى دفع فاتورة تعليمى».
وعندما عرضوا علىّ الاستمرار عضوًا بهيئة التدريس بالجامعة الكندية التى تخرجت فيها، شكرتهم ورفضت العرض قائلا: «سوف أعود فورًا إلى المحروسة لتعليم أولاد الفلاحين الغلابة». وعندما تم اختيارى وزيرًا بعد 25 يناير، كان أول قراراتى شراء القمح من الفلاحين  بسعر أعلى من السعر العالمى بهامش معقول، لتحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر فى الريف.
فى يوم عيد الأم، أدعو لأمّى ولكل الأمهات بالرحمة والمغفرة. وأردد قول أمير الشعراء: الأمُّ  مَدرسة إذا أعددتها  …  أعددت شعبًا طيب الأعراق.•