الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

Gattaca عالم جاتاكا المثير والمخيف

Gattaca  عالم جاتاكا المثير والمخيف
Gattaca عالم جاتاكا المثير والمخيف


تثير وفاة عالم الفيزياء البريطانى الشهير عن 76 عامًًا شجونًًا وأفكارًا  متناقضة. فقد عانى الفيزيائى الوحيد الذى شغل كرسى عبقرى العصور إسحق نيوتن بجامعة كامبريدج على مدار 55 عامًًا أعراض مرض عضال ألم بعضلاته، فأعاق حركته فى مرحلته الأولى ثم قضى على قدرته على السير، ثم جعله مقعدًًا ومنعه من تناول الطعام بصورة طبيعية، إلى أن أجهز على قدرته عن الكلام  والتنفس فى آخر الأمر.
فيزياء الكم
أنجز الراحل ما لم يُطقه الأصحاء، فمؤلفاته العلمية فى مجال الرياضيات والنظرية النسبية وتطبيقات فيزياء الكم  Quantum Physics التى خاطبت الجميع دون استثناء العالم المتخصص، والقارئ الباحث عن المعرفة التى بيع منها ملايين النسخ تثبت -بلا شك- أن مفاهيم الصحة وسلامة الجسد لا علاقة لها بالإنجاز والإبداع. كما لا ينكر أحد أن إبداع الموسيقار خالد الصيت لودفيج فان بيتهوفن لم يتأثر بإصابته بالصمم، وينقل لنا مؤرخو سيرته الذاتية كيف استقبل تصفيق وصفير الجماهير المُنتشية بمقطوعاته الموسيقية بعيون دامعة لعدم تمكّنه من سماع هتافات الإشادة وهنات الإعجاب.
معايير عنصرية التفرقة
يعترينا التساؤل فى ضوء تلك البراهين عن آفاق عالم الغد القريب، وما قد يحمله لنا من أفكار حول المعايير التى سيتم وفقًًا لها اختيار أولئك الصالحين لتقدم الصفوف من علماء وقادة ورياضيين ومهنيين. فى فيلمه الأكثر إثارة للغرابة والجدل يقدم المؤلف والمخرج والمنتج البريطانى النيوزيلندى المولد أندرو نيكول فكرة كانت فى زمن تقديمها على شاشات السينما غير مسبوقة وجامحة، وهى بأن يكون معيار التفرقة  فى المستقبل بين أبناء البشر على أساس الفرز الجينى! يطرح فيلم جاتاكا Gattaca الذى تم إنتاجه عام 1997 من بطولة الرائعين ايثان هوك وأوما ثورمان وجود لو، تصورًًا لعالم وُضعت فيه معايير عنصرية للتفرقة بين البشر العاديين والنخبة الذين سيقدمون لنيل التعليم الأفضل والمكانة الاجتماعية وفرص العمل المرموق، وذلك من خلال إجراء اختبارات حيوية Bio metrics Tests لكل المواليد عند بلوغهم سن العاشرة.
حق الالتحاق بالمؤسسات التعليمية..
تحدد تلك الاختبارات مؤشرات قطعية عن مستوى الذكاء والقدرات الجسدية (الطول ومعدل نمو العضلات وسرعة الاستجابة) والمناعة من الإصابة بالأمراض المزمنة (الضغط والسكر والقلب)، التى تخول من يحقق المستويات المطلوبة حق الالتحاق بالمؤسسات التعليمية والبحثية المتقدمة. الويل والثبور إذا لم تتمكن من تحقيق الحد المسموح به، وهو ما يتوقع حدوثه إذا ما كان الأبوان يحملان موروثات جينية غير مرغوبة، والأهم كونهما غير قادرين على دفع مبالغ مقننة ومحددة لاستبدال جيناتك غير الصالحة، والتى لا ترقى لمعايير نخبة البشر بأخرى، وذلك حينما تكون فى طور التكوين كجنين فى رحم أمه! يستتبع ذلك التفرقة بين الإخوة حسب منزلة كل منهم فى تراتبية الخريطة الجينية الأكثر تفوقًًا وبالتالى أعلى معدل IQ لقياس الذكاء والقدرات الذهنية. لا داعى لبناء تصورات حول من سيصمدون فى مواجهة تلك الاختبارات من قادة وساسة العالم، ومن منهم سيتم تصنيفه من النخبة الفائزة بكافة الميزات، وإن كنا نظن أن الكثير منهم قد لا يصادفه التوفيق نظرًًا لأدائهم الحالى.
تخيل نفسك من غير المتميزين!
قد تبدو الفكرة لأول وهلة عادلة ومستحقة لكثيرين ممن سينبرون للدفاع عن نظرية أن المناصب والحظوة والمكانة الاجتماعية للأصلح والأفضل، إلا أن الأمر سيختلف تمامًًا إذا ما تخيلت نفسك من هؤلاء غير المتميزين جينيًًا، بل سيسبغون بالدونية منذ ميلادهم حتى وفاتهم. هل يمكنك تخيل أن مصيرك سيتحكم به التركيبة الكيميائية للحمض النووى الوراثى DNA المكون من عدد 46 كرموسومًا تحمل صفاتك الجسدية؟ الشيء الآخر الأكثر أهمية إهدار كل ما حققه أجدادنا على مدار قرون لاقتناص الحرية من النخبة الحاكمة بالمفهوم الثيوقراطى ثم الأوتوقراطى لإقرار مبادئ الديمقراطية السياسية والمسئولية الاجتماعية وعدم استئثار أيًا من كان بالسلطة. يمكننا التصور وفقًًا لعالم جاتاكا المستقبلى  فإنه حتى حق الانتخاب النيابى لن يكون ذا معنى ولو كان مسموحًًا به، وهو أمر منطقى فما الداعى لصناعة نخبة سياسية تمثل المجتمع، بينما تخلق النخبة بالميلاد وبالإرث، وذاك طبيعى أيضًًا فالنخبة لن يتزاوجوا سوى من بعضهم البعض لاستيلاد أبناء أنقياء لا يحملون شوائب البشر الأدنى منزلة أولئك العاديين.
إكتشاف د. أحمد مستجير
منذ نحو 15 عامًًا نظمت دار الأوبرا المصرية ندوة مهمة تحدث خلالها العالم الجليل الراحل أحمد مستجير عن تمكن علماء الهندسة الوراثية فى أوروبا من اكتشاف الخريطة الجينية للجنس البشرى،  وحذر خلالها مشددًًا من أن يكون ذلك الكشف العلمى والذى لم تعلن تفاصيله حتى هذه اللحظة وبالًًا على الأجناس والأعراق غير الأوروبية. برر عالم الوراثة المخضرم مخاوفه بأنه فى إمكان من يحوز التركيبة الجينية البشرية تخليق أنواع من الفيروسات والأمراض التى تهاجم حاملى تركيبة جينية بعينها؟ أى أنه يمكن استهداف أصحاب البشرة السمراء أو الصفراء على سبيل المثال بأسلحة بيولوجية تم صنعها معمليًًا باستخدام علوم الوراثة. من الصعوبة ألا أن نأخذ هذا التهديد على محمل الجد.
حكم رفضه أبناء المحروسة
بكل صراحة، تختلج المشاعر فى ظل ما تثيره هذه الأفكار من ذكريات عن واقع عايشناه على مدار سنة كان سوادها كقطع الليل المظلم، إلا أن إرادة السماء شاءت ألا يستمر ذلك الظلام وأبناء المحروسة الكرام أبوا أن يقبلوه. حدث ذلك عندما سُلطت علينا فى غفلة من الزمن جماعة فاشية تبغى فرض أبنائها سادة علينا باسم الدين والرب وهما منها براء.كما تدفعنا تلك الأفكار أيضًًا إلى انتهاز الفرصة السانحة لعوام البشر من أمثالنا للإدلاء بأصواتنا فى الانتخابات التمثيلية للمحليات والمجلس النيابى ورئاسة الجمهورية كمواطنين سواسية غير ناقصى الأهلية. تلك دعوة مفتوحة للمشاركة الفاعلة فى اختيار من يتولى تصريف شئوننا، دون غرض  منها سوى التمتع بشعور الحرية والمساواة قبل مجيء زمان آخر نواجه فيه خطر تصنيفنا ككائنات أدنى دون ذنب أننا فقط أبناء آبائنا الذين لم يجرموا فيما ورثونا إياه.