عقل موديل 2010

ايهاب فتحي
كتبت فى الأسبوع قبل الماضى مقالًا بعنوان (صور ملونة للعقل الأملس) تناولت فيه طبيعة العقل الذى يتعامل مع المعلومات دون مراجعة أو نقد فيقع فى الخداع، هذا عكس العقل الناقد الذى يحلل ما يعرض عليه ويفرز الصالح والطالح من المعلومات عند التعامل معها.
تصورت أن آفة عدم التحليل والنقد تكمن فى هذا العقل فقط، لكن عندما كتبت الأسبوع الماضى عن كيفية تدريب العقل على مواجهة الشائعة، تبين لى أن هذا الأملس ليس فريدًا فى نوعه، بل فى مجتمعنا نوعيات مختلفة من العقول تمثل عائقًا فى ظهور العقل الناقد الذى نريده.
حواجز امتلاكنا للعقل الناقد
قبل السعى فى التدريب يجب أولًا كشف الحواجز المانعة لامتلاكنا العقل الناقد والممثل فى هذه النوعية من العقول المعطلــــــة للحراك المجتمعى الصحيح فى اتجاه التقدم.
سنقوم برحلة استكشاف مرهقة للتتبع هذه النوعية من الحواجز المانعة والتى تحولت إلى معتقدات مسيطرة على رؤوس شرائح عدة فى مجتمعنا والهدف الرئيسى من هذه الرحلة بعد الكشف هو تفكيك ثم إزالة هذه المعتقدات بما يسمح بفتح الطريق أمام ظهور العقل الناقد أثناء الرحلة الكشفية عثرت على عقل مسيطر على مساحات ليست قليلة من تفكير مجتمعنا لم أجد إلا عالم صناعة السيارات ليمدنى بتوصيف له يمكن أن نطلق عليه عقل موديل 2010.
فى عالم صناعة السيارات تنتج الشركات المصنعة سياراتها مطلقة عليها سنة الصنع حتى نعرف مواصفات هذا المنتج وإمكانياته، وفى كل عام يظهر المنتج بإمكانيات جديدة مع تغير سنة الصنع أى يحدث تطور فى الموديل.
يتصف العقل موديل 2010 بأنه عقل ثابت فى مواصفاته ولم يحدث به أى تطوير أو زيادة فى إمكانياته، وبالتالى لا تظهرأى موديلات جديدة منه تواكب ما يحدث حوله.
تحرك القوى المصرية
ارتبطت سنة ظهور هذا العقل بالعام 2010 وهو العام الذى سبق أحداث يناير ثم ما تلى يناير من وصول الفاشيست الإخوان إلى الحكم وتحرك الأمة المصرية فى ثورة 30 يونيو للإطاحة بقوى الظلام من الفاشيست وبداية رسم خريطة جديدة للمستقبل، وأهم ما فى تفاصيل هذه الخريطة أن المستقبل القادم لا مكان فيه للمتاجرين بالدين.
توقفت بوصلة الزمن داخل العقل موديل 2010 نافيًا تمامًا كل الأحداث التى مرت على الأمة المصرية خلال السنوات السبع الماضية، فهو لا يرى العالم إلا من خلال نافذة العام 2010.
قد نتصور أن المقصود بهذا العقل المنتمين لنظام سابق لا يريدون رؤية حجم ما حدث من حراك مجتمعى فى يناير، أعقبته ثورة 30 يونيو، لكن الرحــــــــلة الاستكشافية تظهر أمرًا غريبًا أن كثيرين ممن يقتنون هذا العقل المتوقف زمنيـــــًا وتطورًا قد شاركوا فى أحداث يناير لرفض النظام الموجود وقتها.
تجمد الرؤية
تجمدت الرؤية عند هؤلاء عند مشهد الإطلالة من نافذة العام 2010 ولا يرون إلا شيئًا واحدًا حراكهم فى العام 2011 كأن الحراك والميدان وتعطــــــل الحياة الطبيعية هى الأهداف المرجوة وليس التغيير الذى تحقق بالفعل.
تسيطر قناعة أخرى على مقتنى هذا الموديل من هذه الشريحة المشاركة فى أحداث يناير، إن الحراك الذى حدث كان سببه خصومة بين الشعب والدولة، والحقيقة أن من خرجوا فى يناير بعيدا عن شريحة عقل 2010 كان هدفهم الأساسى هو السعى لتنظيم وتقوية الدولة لأنهم رأوا فى النظام المتواجد وقتها عبئًا على دولتهم ويعيق تطورها.
تحولت هذه القناعة عند أصحاب هذا الموديل إلى عقيدة متعالية على الحماهير التى شاركت فى حراك يناير، متهمينها أنها لا تدرك مصلحتها وما هى المصلحة التى لا تعرفها الجماهير وتحتاج أصحاب هذا الموديل ليعطوها دروسًا لتتعلمها؟ عندما توجه لهم هذا السؤال يجيبون بسذاجة مفرطة أنه تفكيك الدولة كأن الجماهير التى تحركت فى يناير كان هدفها الفوضى وليس مزيدًا من الانضباط والنظام.
إنسحاب الموديل للعالم الإفتراضى
يصاب أصحاب هذا الموديل بالدهشة لأن الشارع مخزن الجماهير لا يستجيب لدروسهم البليغة وعاد إلى حياته الطبيعية فانسحبوا إلى العالم الافتراضى للسوشيال ميديا بعيدا عن العالم الواقعى يصبون لعناتهم على الجماهير التى لا تريد الاستجابة لدروسهم فى كيفية صناعة الفوضى.
كيف تحولت الدهشة إلى ضلالات مرضية
تتفاقم الدهشة عند أصحاب العقل موديل 2010 عندما يجدون الدولة عقب ثورة 30 يونيو تستعيد هيبتها وسطوتها فيتصورون أن الأمة المصريــــــة العريقة التى قدمت فكرة الدولة للبشرية كعقل منظم لحركتها سترفض عودة عقلها الى اتزانه ليدير حركتها اليومية.
تتحول الدهشة إلى ضلالات مرضية عند أسرى هذا الموديل، فيتوهمون أن أى إنجاز للدولة التى عادت هيبتها وسطوتها ويتم الآن هو مؤامرة موجهة ضدهم مقصود منها إنهاء مشروعهم الفوضى الذى لا تستوعبه الجماهير التى لا تعرف مصلحتها ويتحسرون آسفين لأن الملايين من الجماهير غير الواعية تشارك فى إنجازات الدولة بكامل طاقتها ولا تفضل مشروع الفوضى.
نترك أصحاب الضلالات فى ضلالهم ونستكمل رحلتنا الاستكشافية لتتبع العقل موديل 2010 تعطينا الرحلة نتائج أغرب، فهناك شريحة أخرى تمتلك هذا الموديل وشاركت فى ثورة 30 يونيو ضد الفاشيست الإخوان وأذنابهم من السلفيين، هذه الشريحة لم تستوعب ما حدث فى ثورة 30 يونيو متصورة أن ثورة 30 يونيو ماهى إلا حراك كان المقصود منه إزالة نظام فاشٍ فقط وانتهى الأمر عند ذلك ويجب بعدها العودة إلى الوضع المترهل السخيف بين الأمة وقوى الظلام من الفاشيست وأذنابهم الذى صنعته سياسات رديئة استمرت 40 عامًا سابقة أدت إلى شروخ وندوب فى الهوية المصرية تعمل الدولة الحديثة التى نبيها الآن على إزالتها وإعادة الوجه الصبوح للهوية المصرية.
لا تدرك هذه الشريحة أن تاريخ 30 يونيو تسبقه كلمة ثورة وهذه الكلمة تعنى أن الجماهير التى قامت بالثورة وخرجت من النجوع والقرى ورابطت فى الميادين واستعادت الشارع من قوى الظلام أنهت هذه السياسات الرديئة وحطمت أسر التخلف الذى حاول الفاشيست فرضه على الأمة طوال 40عامًا بدعم خارجى غير مسبوق من الاستعمار.
خروج الملايين فى 30 يونيو
الملايين التى خرجت فى 30 يونيو كان هدفها الأول استعادة الهوية المصرية النقية وإنهاء 40 عامًا من الخداع والمتاجرة بالدين والبحث عن سياســـــــات جذرية تنهى سيطرة الفاشيست الإخوان وأذنابهم من السلفيين على تفاصيل حياتهم اليومية قبل السياسية. لم تلاحظ هذه الشريحة حجم مشاركة المرأة المصرية فى ثورة 30 يونيو وإن لاحظت لم تفهم دلالات المشاركة وحجمها.
شاركت المرأة المصرية بهذه الفاعلية والقوة لأنها كانت الأكثر تضررًا من السياسات الرديئة وسيطرة الفاشيست الإخوان وأذنابهم من السلفيين على تفاصيل الحياة اليومية، فالمرأة المصرية هى روح الهوية المصرية الحافظة لأسرارها وتقاليدها التى تنقلها إلى الأبناء جيلا بعد جيل.
حرب الفاشيست ضد المرأة
تعرضت المرأة المصرية إلى حرب شرسة ممنهجة ومقصودة من الفاشيست وأذنابهم السلفيين بتوجيه من الاستعمار ففرضوا عليها الخرافة والملـــــــبس الغريب فكانت المرة الأولى فى تاريخ مصر القديم والحديث أن يميز دين المرأة المصرية من خلال ما ترتديه وفى النهاية حولوها إلى حرام يجب الخجل منه. قبل الأربعينية الرديئة كانت الأمة المصرية لا تعرف هذا التصنيف ويمكن مطالعة صور النساء المصريات قبل هذه الأربعينية المشئومة وأتحدى أن تفرق بين امرأة وأخرى على أساس زيها فلن تفرق بين مصرية تذهب إلى الكنيسة وأخرى تذهب إلى المسجد. كان غرض الاستعمار وخدمه من الفاشيست صناعة شرخ فى روح الهوية المصرية باسم الدين والدين منهم براء يتبعه الانقسام الذى أرادوا تأكيده فى سنة حكمهم الكارثية. يأتى بعد كل هذا العقل موديل 2010 المشارك فى ثورة يونيو ويرى أن إزالة حكم الفاشيست كان الهدف والحقيقة أن الإزالة جزء من الهدف أما ما أرادته ملايين 30 يونيو فهو التطهير الكامل من آثار عدوان الفاشيست الإخوان وأذنابهم من السلفيين على حياتهم اليومية وهويتهم المصرية النقية.
تطوير عقول 2010
يلزم هذا التطهير سياسات غير مهادنة لا يفهمها الموديل 2010 تبعث النهضة المصرية الحديثة وتسترد كامل طاقة الهوية المصرية سياسات تقتلع 40 عامًا من الترهل عانى منها المجتمع تشمل هذه السياسات جميع أسس النهضة المصرية من حراك اجتماعى وخطاب دينى وتعليم وثقافة وإعلام ويصل حتى إلى فنون العمارة.
لايمكن لمن يمتلكون عقل موديل 2010 تطبيق هذه السياسات فهذا التطبيق يحتاج عقولًا استوعبت ما حدث فى ثورة 30 يونيو فهذه الثورة أهدت للأمة المصرية ما يمكن أن نطلق عليه عقل 30 يونيو كما أهدت حرب أكتوبر المجيدة للأمة المصرية عقل أكتوبر، إن التصدى لتطبيق هذه السياسات يستلزم استدعاء عقل 30 يونيو لينهى تمامًا على قوى الظلام ويمهد الطريق لظهور العقل الناقد .... وتستمر رحلة الاستكشاف.•