الجمعة 30 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

هل الحرب على الأكاذيب أكذوبة؟!

هل الحرب على الأكاذيب أكذوبة؟!
هل الحرب على الأكاذيب أكذوبة؟!


هذا خبر لا يمكن أن ننسبه إلى سرطان الأخبار الكاذبة الذى يجتاح العالم الآن:
هناك جهود حثيثة من أطراف متعددة فى أكثر من مكان فى العالم، تقوم بمهمة مكافحة الأخبار الكاذبة وكشفها والتخلص منها.
وهذه الجهود والمبادرات بدأت منذ نحو عشر سنوات وليس الآن، وتزايدت مؤخرا بمشاركة كيانات دولية كهيئة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى، وبعض الحكومات، وهى فى الواقع جهود غير موحدة ولا منسقة، وتشبه جزرا منعزلة.. لكنها تحقق قدرا لا بأس به من النجاح فى الحرب على الكذب الإلكترونى.

وبالتأكيد، فإنه سيكون لها مفعول أكثر لو تمت عمليات تنسيق بينها أو إقامة ما يشبه «التحالف الدولى ضد الأخبار الكاذبة».
ونحن نرى أن بعض حكومات العالم المستنير، بدأت بالفعل فى إقامة وكالات وهيئات مهمتها فقط مكافحة الأخبار الكاذبة، وآخرها ما أنشئ فى بريطانيا واتخذ هيئة تشبه أجهزة المخابرات وربط عملها بخطورة انتشار الأخبار الكاذبة على الأمن القومى للبلاد.. وهناك دعوات لوضع قوانين جديدة تحكم أعمال النشر خاصة على منصات ومواقع ومدونات الإنترنت. كما نرى فى فرنسا وألمانيا وغيرهما، وهناك تهديدات من دول أوروبية لأكبر ناشر للأخبار الكاذبة فى العالم «فيس بوك» بفرض الحصار على إرساله فى هذه الدول.
لكن هناك نقاش دائر الآن حول دور الحكومات فى مكافحة الأخبار الكاذبة ومخاوف من استغلال الأمر فى الاعتداء على حرية التعبير، أو السيطرة على مصادر المعلومات والأخبار، وبعض المعارضين لتدخل الحكومات يتهمونها صراحة بذلك، ونقاد آخرون يرون أن الأمر يجب أن يترك لمنظمات المجتمع المدنى وهيئات الإعلام والصحافة المستقلة، وأن مهمة أى حكومة هى نشر الوعى من خلال التعليم وتربية الأجيال من خلال تنمية روح العقل النقدى التى تمكن كل فرد من أن يكون قادرا على «كشف» زيف الأخبار الكاذبة والشائعات.
• مطلوب وضع مبادئ عامة
وهناك من خبراء الإعلام من يقترحون على الحكومات وحتى على هيئة الأمم المتحدة من خلال منظمة اليونسكو مثلا، وضع مبادئ عامة وأسس مهنية تكون ملزمة للمنصات الإلكترونية مثل «فيس بوك» وغيرها. وتضمن الحد الأدنى من المعايير اللازمة للنشر عبر هذه المنصات.
 ومن بين رواد عمليات مكافحة الأخبار الكاذبة «فاك نيوز» منظمات وهيئات مستقلة عن الحكومات وتعمل بنظام الجمعيات الخيرية والشركات التى لا تستهدف الربح، وتعتمد على التبرعات والمساهمات المجانية من خبراء وعلماء الإعلام والصحافة والنشر، وهذه لها تأثير كبير فى دحض أكاذيب تنتشر عبر المواقع المتخصصة فى ترويج الأخبار الكاذبة، إذ تقوم أولا بأول بكشف هذه الأخبار الملفقة.
 وأصبحت المواقع التى تفضح الأكاذيب تحتل اهتمامًا ومتابعة الصحف العالمية الكبرى بصفة فورية ودورية وتلقى كل ترحيب ومساندة منها.
ومن أبرز المهتمين بالحرب على الأخبار الكاذبة «الكسيوس مانتزارليس» مدير شبكة التحقق من الأخبار فى معهد «بوينتر» الدولى الذى يقول: هناك كثيرون الآن يحاولون «تنظيف» كل منصات نشر الأخبار، لكنها منصات تتسع بحيث يصبح من الصعب ملاحقتها كلها، ما العمل إذن؟
يجيب: تدقيق الحقائق فعال، لكن استعمال الخوارزمات والحلول المبرمجة سلفا، ليس الحل. لقد أبلغنا منذ نحو 20 سنة بالمعالجة الروبوتية لكشف الحقائق ومكافحة الأخبار الكاذبة، لكننا لم نصل لشيء، ما يمكننا أن نفعله هو مساعدة الناس والصحفيين على الكشف عن المروجين والمزيفين بوتيرة أسرع. وأرى مزايا رائعة للتكنولوجيا فى مساعدة واستنفار عمليات تحرى الحقائق وكشف الأخبار الكاذبة، لكننى أرى أنه لافائدة كبيرة من وراء استخدام التكنولوجيا كمقياس واحد يناسب علاج الانتشار الكونى لهذه المشكلة. فكل هيئات تدقيق الأخبار وكشف الكذب حول العالم لن تكون قادرة أبدا على مكافحة كل شائعة أو كذبة. وبينما تبدى بعض وسائل الإعلام شكوكا فى مدى كفاءة عمليات كشف الأخبار الكاذبة، يتمسك «مانتزارليس» بقناعة بأن أعمال الشبكة التى يديرها لها تأثير ملموس.
ويضيف: لقد رأينا خلال العامين الماضيين أنه بصفة مستمرة، عندما تصل الناس أخبار كاذبة، ثم نوفر لهم تصحيحا لهذه الأخبار، تتلاشى ثقتهم فى تلك الأكاذيب. فالعملة الجيدة تطرد العملة الرديئة.. من جانب آخر يقول الخبير الإعلامى «سيلفرمان» تعليقا على إعلان منصات مثل «فيس بوك» و«تويتر» و«جوجل» أنها ستجند أعدادا ضخمة من العاملين لديها لمكافحة الأخبار الكاذبة وإزالتها من مواقعها، وقرض قواعد على النشر «يهمنى أن أرى كيف يمكن أن يحدث هذا فعلا»!
• حلول أوروبية.. «أورويلية»
وإلى جانب القلق من نتائج ما تقوم به الشركات الناشرة للأخبار الكاذبة، يتساءل خبراء الإعلام عن دور وسلطة الحكومات..
وهنا يعود «مانتزارليس» للقول: أحيانا ما تتسبب النوايا الطيبة لدى المشرّعين، مع المعرفة الخطأ بعالم الاتصالات، فى إحداث أضرار تزيد من حجم المشكلة التى يحاولون حلها بقوانين وإجراءات تتعارض مع حق التعبير الحر، وهذا ما يتجه إليه التيار فى عدد من بلدان أوروبا وغيرها. فتتحول مكافحة الأخبار الكاذبة إلى عملية قمع للرأى وخنق لحرية التعبير
كما حدث فى ألمانيا فى أول يناير من العام الحالى، حيث يقضى القانون بأن تقوم المواقع بإزالة كل الأخبار الكاذبة وبيانات التحريض على الكراهية بسرعة، وإلا غرمت بما يساوى 50 مليون يورو (61 مليون دولار). . وفى محاولتها للقضاء على سرطان الأخبار الكاذبة، اتجهت حكومات أوروبا إلى الحل، على طريقة الكاتب البريطانى جورج أورويل فى روايته الشهيرة «1984» فقد قررت مفوضية الاتحاد الأوروبى تشكيل هيئة تضم 39 عضوا لاستكشاف طرق مكافحة الأخبار الكاذبة، هذا فى الوقت الذى قررت فيه عدة حكومات أوروبية أن الطريقة الوحيدة لضمان عدم تسرب أى أخبار كاذبة هى أن يترك قرار تحديد ما هى الحقيقة للحكومة وحدها!
فالحكومة الألمانية أصدرت قرارات وقوانين تسمح لها بالرقابة على وسائل التواصل الاجتماعى «الإنترنت» وتغريم المنصات والشركات التى لا تعتمد ما يراه موظفو الحكومة «حقيقة». ولم تبعد فرنسا كثيرا عن هذا النمط «الأورويلي»
فقد تقدم الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، بمقترح قانون يمنع الأخبار الكاذبة خاصة فى أوقات الانتخابات العامة وقال إن الهدف من ذلك هو «حماية الديموقراطية»!
وفى بريطانيا أعلنت رئيسة الوزراء تريزا ماى، تشكيل هيئة تتصدى للأخبار الكاذبة تحت اسم «وحدة تأمين الاتصالات تعمل كجهاز مخابرات على وسائل الإعلام الإلكترونية».
وفى الولايات المتحدة يريد الرئيس دونالد ترامب مضاعفة  القيمة المالية للغرامة فى قضايا النشر المتعلقة بالأشخاص..
ما العمل إذن؟!
وهكذا بدعوى «حماية الديموقراطية» ومكافحة الأخبار الكاذبة وحملات الكراهية، تعطى بعض الحكومات نفسها حق الانفراد بالحقيقة، والمشكلة الأساسية مع هذه الحلول، هي: من الذى سيقرر أى أخبار هى الصحيحة، الحقيقية، وأيها هى الكاذبة؟!
هل هم الموظفون البيروقراطيون الحكوميون فى وكالات وهيئات الرقابة الكبرى القائمة؟.. أم أن عملهم سيكون مهما وضخما بحيث يقتضى تأسيس هيئات ومجالس جديدة تقوم بهذا العمل؟.. هل سيتم العمل على طريقة «أورويل» فى روايته الشهيرة «1984».. فتنشأ وزارة جديدة تسمى «وزارة الحقيقة»؟!
فمهما كانت خطورة انتشار سرطان الأخبار الكاذبة، فإن التاريخ يعلمنا أن سيطرة الحكومات على تحديد ما هى الحقيقة، هى الخطر المدمر، لأنه يقتل روح المشاركة والمواطنة ويحول الأنظمة السياسية الديموقراطية إلى كيانات ديكتاتورية، تشكل ما هو أخطر على المجتمع من سرطان الأخبار الكاذبة، فالأخبار الكاذبة والشائعات والصور المفبركة «فوتو شوب» لها أساليب أخرى لمكافحتها، ليس من بينها تسلط الحكومات وانفرادها بتحديد ماهية «الحقيقة».
ما العمل إذن؟!
الأسبوع المقبل الحلقة الأخيرة!