السبت 5 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مسألـة السلطان سليــم

مسألـة السلطان سليــم
مسألـة السلطان سليــم


اهتمت جميع الوسائل العربية والأجنبية بإعلان المهندس عاطف عبد الحميد محافظ القاهرة عن اعتزام المحافظة تغيير اسم شارع سليم الأول، وهو الشارع الأشهر فى منطقتى الزيتون وعين شمس بشرق العاصمة. أرجع السيد المحافظ قراره إلى الدراسة التى أعدها الدكتور محمد صبرى الدالى وهو أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان والتى انتقد خلالها تسمية أحد الشوارع باسم أحد المستعمرين الذين قتلوا ما يقرب من 50 ألفاً من المصريين فى معركة طاحنة أثناء دخول جيش السلطنة العثمانية المحتل للقاهرة مختالاً بانتصاره على السلطان المملوكى قنصوه الغورى فى موقعة مرج دابق ظناً أنه سيقهر مصر بعد استيلائه على سوريا دون معركة، فأراق جنوده فيها دماء المصريين الذين استقبلوه كجيش أجنبى غاصب ودافعوا عن بلادهم تحت راية سلطانهم الأخير طومان باى.

شارع سليم الأول
أكد السيد المحافظ أنه سيتم إطلاق حوار مجتمعى من خلال رئاسة حى الزيتون مع الأهالى لاختيار اسم جديد للشارع، ومن المتوقع أن يتم اختيار اسم أحد الشهداء الذين سقطوا فى المواجهات مع الإرهاب. للأسف الشديد، غفلت غالبية الصحف ووسائل الإعلام المصرية عن تسليط الضوء على تلك الواقعة المهمة فى حد ذاتها.
تكمن الأهمية البالغة لقرار السيد محافظ القاهرة فى دلالاته الضمنية وليس مجرد الاستنتاجات وبناء التصورات التى سارعت بها بعض المنصات الإخبارية العربية والتى دفعت المسئول الرسمى لنفى وجود خلفيات سياسية للقرار!، يساورنا القلق من ذلك التصريح فلا يوجد مانع على وجه الإطلاق فى أن يكون الباعث على تغيير اسم شارع مر على تسميته أكثر من مائة عام توجهًا سياسيًا واضحًا ويطرح للمناقشة أمام الرأى العام وليس أهالى حى الزيتون فقط مع خالص الاحترام والتقدير لهم. الأمر الذى ينبغى النظر له بصفة أولية الاسم الجديد للشارع، والذى سيقطع الشك باليقين حول حقيقة المغزى من تغيير تسميته فى التوقيت الراهن.
هل نُطلق عليه طومان باى؟
أكاد أسمع بعض الأصوات المتحمسة تنادى بتسمية الشارع باسم السلطان طومان باى الذى واجه جيش الاحتلال العثمانى، ومثّل به عدوه سليم الأول بأن جعل رأسه المقطوع على باب زويلة أحد منافذ القاهرة الرئيسية آنذاك. لا أقصد إحباط أولئك المتحمسين إلا أن حى الزيتون العريق يضم شارعًا باسم السلطان طومان باى ولا عجب فتلك التركيبة المصرية الفريدة التى تضع الشىء ونقيضه فى مكان واحد، سواء كان مرجع ذلك لتسامح مجتمعى غير منكر أو عدم إلمام معرفى من بعض الأجهزة المحلية.
وماذا عن شارع قمبيز؟!
بكل تأكيد إن طرح مسميات بعض شوارع القاهرة التى تبعث على الحيرة والدهشة من الموضوعات المهمة والدالة على حيوية المجتمع، فمن غير المقبول أن يطلق على أحد شوارع مصر الجديدة اسم (قمبيز) وهو أحد أكاسرة فارس قام بغزو مصر فى القرن السادس قبل الميلاد وجرد جيشه لهدم معبـد الإله آمون رع فى صحراء سيوة، كما عمد إلى تدنيس جثمان الفرعون المصرى أبسماتيك الثالث -من الأسرة السادسة والعشرين المعروفة بالأسرة الصاوية نسبة لعاصمتهم (صان الحجر) التى تقع حالياً فى محافظة الشرقية- بعد قتله بصورة وحشية لا تليق بأعراف الملوك وآداب الحروب.
بين سليم الأول والحاج نابليون
نعود مرة أخرى إلى السلطان سليم الأول الذى نهب مقتنيات قصور السلطان المملوكى القتيل ومنها آثار للرسول التى تم وضعها فى قصر الحكم العثمانى (طوب كابي) ولا تزال فى المتحف الملحق به إلى يومنا هذا، كما قام بترحيل أرباب الحرف والصناع المهرة إلى الأستانة لتسقط مصر فى غياهب الظلمات لأربع قرون متصلة حتى وصول الحملة الفرنسية. لن يستطيع أى من المؤرخين إنكار تلك الحقائق بمن فيهم أولئك الذى يباهون بما يسمى بعصر (الخلافة) العثمانية بعد اغتصاب سليم الأول للقب من المماليك وتسمى بخادم الحرمين الشريفين عقب ضمه للحجاز التى كانت من أملاك مصر المملوكية عاصمة الخلافة العباسية منذ إعلانها فى القاهرة خلال عهد السلطان ذائع الصيت الظاهر بيبرس. بل لن يتمكن أحد منهم من أن يبرر لك بشكل منطقى أسباب غزو دولة إسلامية لأخرى أقدم منها فى اعتناق الإسلام والذود عن دياره وهزمت جيوشها من أبنائها المغاوير الصليبيين والتتار على السواء. لا تدع ذلك يصيبك بالخلط، فما أكثر من حاولوا لقرون إضفاء الصفات الدينية على استعمارهم للشعوب، يستوى فى ذلك سليم الأول أو الحاج نابليون الذى أشاع أنه اعتنق الإسلام قبل بلوغ الحملة الفرنسية القاهرة لتخدير المصريين، لا فارق بين العثمانيين والإنجليز والفرنسيين والإسرائيليين فجميعهم محتلون قتالهم مقاومة مشروعة وعمل وطنى. 
عصر الانكشارية!
الحقائق بازغة كالشمس، سلاطين العثمانيين عن بكرة أبيهم كان همهم غزو الأراضى والشعوب دون تفرقة، وهم من حولوا الدين والعقيدة إلى قومية لا ينافسهم فى ذلك إلا اليهود. منح العثمانيون أعداء الإسلام الذرائع التى يسعون إليها لتشويهه على غير حق، فهم لم يسلكوا فى حكم الشعوب التى قهروها طرق دول الخلافة التى سبقتها كالأمويين والعباسيين. ما زالت كتب المستشرقين والباحثين فى التاريخ الأوروبى خلال العصور الوسطى تتذكر كيف كان العثمانيون ينتزعون أبناء الشعوب المهزومة من عائلاتهم تطبيقاً لما أسموها بضريبة الابن الأكبر ليتم تجنيدهم فى فرقة (الانكشارية) التى كانت تشغل الصفوف الأولى فى كل حروبهم التوسعية. كان تحول العثمانيين بقيادة سليم الأول لغزو الأراضى العربية المستقرة بسبب توقف زحفهم فى أوروبا إلى أبواب فيينا ولم يتقدموا بعدها، بل أخذوا فى التقهقر بظهور القوى الأوروبية البازغة كروسيا القيصرية التى صارت عدوتهم اللدود حتى عصرنا الحالى. ترى هل تذكرنا تلك الملابسات التاريخية بمشاهد شبيهة فى عصرنا؟
أردوغان ورسم خريطة الشرق الجديد
وضع العثمانيون الجدد وعلى رأسهم سلطانهم المزعوم رجب طيب أردوغان على أولوية أجندتهم إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يلائم الإمبراطورية التى يحلمون بها. كانوا يتجهزون منذ صعودهم إلى سدة الحكم عام 2003 فى تركيا العلمانية سابقاً وها هم قد تمكنوا من تغيير الدستور التركى وتحييد الجنرالات بما يضمن لهم السيطرة خلال السنوات القادمة دون منافسة. يرغب العثمانيون الجدد فى ابتلاع سوريا الجريحة وهى لا تزال فى مرحلة النقاهة وإيجاد موطئ قدم لها فى شمالها لعرقلة التمدد الإيرانى من جانب ومنع اتصال الأكراد فى سوريا مع نظائرهم فى الولايات الجنوبية بتركيا ذات العرقية الكردية كديار بكر وكذا كردستان العراق، وذلك وسط أجواء ملتبسة وتدخلات من قوى عالمية وإقليمية جعلت من الميليشيات المسلحة والجماعات المتطرفة مدعاةً لمحاولاتها فرض إرادتها على الشعب السورى الذى تم تشريده بفعل فاعل.
الأمر ليس انتقاماً تاريخياً!!
ألن نرغب بعد كل هذا فى تغيير أسماء شوارعنا بمن يستحقون منا التكريم والتذكير بعظيم أعمالهم لصالح الوطن والشعب؟ ليس فى الأمر انتقام تاريخى أو ما شابه، ولكن تصحيح وضع غير صائب، فإنك لن تجد فى أى دولة فى العالم من يكرم حاكماً أو قائداً أو شخصاً قتل أو شرد مواطنيها وأهان كرامتها الوطنية بتخليد اسمه بإطلاقه على شارع أو منطقة أو مدرسة. لنغير اسم شارع سليم الأول وفى الطريق (قمبيز) كيفما نشاء دون تحسب أو مجاملة، فليس هناك من يمنع إرادتنا الحرة فى وطننا.