السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ولما الكروان غنى وصحانا

ولما الكروان غنى وصحانا
ولما الكروان غنى وصحانا


فى البدء كانت الكلمة.. والكلمة نور.. والنور الذى أشرق بميلاد مجلة «صباح الخير»، فض بكارة قلبى وعقلى وملايين أمثالي، ومنحنا صفحات بيضاء للأحلام، وعلمنا الرؤية والاختيار.. فتعاهدنا على الانتماء والولاء للقلوب الشابة والعقول المتحررة.. نقرأ الصورة والكلمة ونندهش من جرأة فض أختام محظورات سلطوية نفعية للقمع والقهر، ثم نقتحم الحياة.. ننهل من أنهار الإنسانية ونغذى روافدها.. لكن المشكلة أن اللى اتربى على الحرية لابد يكتوى بنارها.

ومن زمان ظل الكروان هو المنبه الرباني، أول من ينطلق مهللاً بإشراقة الصباح.. ينقر على نافذتى مسبحًا ويمرق تاركًا خيط الشمس.. كنت محظوظة فى طفولتى بنافذة مرتفعة تواجه مخدعي، تربطنى بالسماء.. فى المساء تذوب حواجز الجدران وتسحبنى النجوم والشهب فى رحلات خرافية تضع النقاط فوق حروف المستقبل.. أحلم بزيارة سكان مدينة البط، بطوط وزيزى وعم دهب البخيل.. أدخل المدينة بعلبة ألوانى أمرح حتى صياح الكروان.. أصحو ونورًا قد أشرق فى نفسى يغمرنى بتفاؤل غامض وطاقة حياة.. كنز المدرسة محفوظ فى صالة الرسم ومكتبة الفصل.. لوحاتنا تعيش وتنمو فى الصالة، ومكتبة فصلنا تتجدد بكتاب من كل تلميذة شهريًا.. تطول قامتنا فنكافأ بحصة مكتبة المدرسة العامرة الشهية.. وتطول قامتى فيرانى صاحب كشك الجرائد المقابل لعمارتنا، يحتفظ لى بنسخة من «ميكى وسمير» ويعرض التقسيط بعد إضافة «حواء» و«صباح الخير».. أشق صفحاتهما كما بمبضع جراح إنسان.. أفتح عالمًا أدلف منه إلى داخلي، ألتقى بذاتي، أرى قيودى وأعزم على كسر قضبانها، أتدرب أولاً على الرؤية لأصل إلى روعة البوح.. ألتفت يمينًا للعجوز القابع على مدخل دكان الكتب.. لا يقرأ، لكنه يبيع كل حكايات وأحلام البشر بقروش قليلة ممتدة الفاعلية بالاستبدال! أدخل حقول الأدب، تنمو مشاعرى وتتفتح مسامى وأتعلم التمييز والاختيار.. تطول قامتى وتتسع خطواتى إلى عالم مكتبات شارع فؤاد، كتب جديدة لها رائحة المطابع ولها بهاء وكبرياء.. لكن تنفرد الصبوحة بالاستحواذ على صداقتي.. الكاريكاتير يكتسح الملعب.. أرسم طريقًا إلى كلية الفنون الجميلة يغلقه والدى لأن الوجاهة والأمان فى الطب والهندسة والتجارة.. أهرب إلى معهد الإعلام، أخطو بوجل داخل قسم الصحافة.. ألتقى وجهًا لوجه مع الحياة فى أروقة الأخبار لتنفيذ جريدة صوت الجامعة، يفزعنى ما خلف الأقنعة وأسماء الشهرة.. ألمس الظلم الاجتماعي، تتراكم الـ «لماذا» وتتصاعد جبلاً راقصًا مستحيلاً تفجره «نبلة وزلطة».. أرى الحكام وأرى ضحاياهم.. الفقراء سجناء الجهل صابرون على حكم الشياطين للأرض يفترشون المساجد والكنائس استنجادًا.. وأجدنى يومًا داخل جدران الصبوحة! أبحث عن الفنان جمال كامل للإشراف على مشروع التخرج.. هنا عالم آخر، ورشة فن مسلحة، كل فنون القتال تطلق صيحات الحرية.. صلاح الليثى يحارب العجول بقِدرة الفول، وبهجت ينحت صلابة الإنسان، وإيهاب حاوٍ يلعب كل الألعاب ويراقب الأسد.. رباعيات جاهين تفتح الزنازين تحرر الأسرى وتداوى الجرحي.. جمال كامل يرسم أرواح البشر ومضات بالزيت والجواش.. هنا مكاني.. ولكن! ولكن، أهدانى رءوف توفيق كتابه «السينما عندما تقول لا» فأسرني، وقررت التضحية بالعمل فى «صباح الخير» ضريبة لاختيارى له رفيق حياة.. وفزت برفيق صديق عنيد، متأكد ومؤمن أنه «لا يصح إلا الصحيح»، ومنحنى سعادة الإحساس بأن المدينة الفاضلة تسكننى ويكفى أن تضيء قلبًا أو عقلاً واحدًا.. علمنى صبر انتظار الحق، وأن الفنون هى طريق انتزاع السلام من مخالب الحياة، وأن المحبة والاستغناء هما الكنز والسلاح.. وعشنا أثرياء.. ودارت الأيام لأكتب فى «صباح الخير»، وأنتظر وصولها كشك الجرائد من جديد.