فى المطر

صباح الخير
بقلم: عبدالرحمن الشرقاوي
لم تقم بسرعة بعد أن صحت من النوم.. فالصباح خارج الدار شديد البرودة والبهائم نفسها لا تحتمله.
وتمرغت فى دفء المكان الذى تنام عليه.. على قبة فرن القاعة المحمية وهى تحتضن أختها الصغيرة مستمتعة بلحظة الكسل الخاطفة التى تسبق القيام من النوم.
وزعقت أمها تلعن كسلها وخيبتها الثقيلة.. فأبوها قام من الفجر ومعه أخوتها الصبيان الأربعة وهى وحدها راقدة فى العسل كبنات العز والأكابر وعمرها الآن ستة عشر عاماً والعدل يفوتها وكل ما هى فالحة فيه هو الأكل والنوم للضحى وغسل الوجه بالصابون مثل البندريات وأمها لما كانت فى عمرها خلفت ثلاثة انخطفوا لسوء البخت، وكانت لوحدها تحرث فدان أرض, ولكن الزمن خاب وجاءتها «آمنة» على أخره لا تنفع فى شىء حتى بيع البرتقال.. ويا خوف أمها من أن تجلب لهم العار.. وروعت آمنة بزعيق أمها وكلماتها هذه على الصبح.
الصبر يا آمنة حكمته قومى يا بنت قبل ما نسمع أكثر من هذا.
وقامت تغسل وجهها بالصابونة التى تخفيها وراء حجر مائل فى حائط الدار وأخذت القفة واتجهت نحو باب الدار وفى نفسها ضيق غامض وعندما بدأت تغيب عن أعين أمها تهدج صوت الأم يدعو الله أن يكفيها شر سكتها..
وفى السكة أحست آمنة تحت قدميها الحافيتين بالوحل وبرودة كالرصاص، كان لصباح أمامها لايبين من الغيوم، والمطر يصنع فى طرقات القرية بركا صغيرة يلعب فيها الأولاد وهم ينشدون للمطر.
وارتعشت آمنة وهى تواجه المطر وبرد الطريق، وتمنت لو أنها تستطيع أن تلعب مع الأولاد فتدفأ... أو لو أنها أصغر منهم.. فترقد كأختها الصغيرة على قبة الفرن.. أو لو أنها لقيت ابن الحلال الذى يريحها ويخبئها فى دار لها قاعة بفرن دافئ.
فلم تكن آمنة تحب رحلتها كل يوم من دارها إلى الجنينة تشترى سقط البرتقال وتقعد به أمام سور المدرسة الابتدائية الجديدة.
وكلما سمعت أمها تتكلم بخوف عن عار البنات طافت برأسها صورة «الشاذلى» غفير الجنينة.. و«الشاذلى» رجل غريب عن القرية يحرس جنينة شيخ البلد فى الشتاء ويرحل فى آخر الموسم.. ويحكون عنه أنه يعيش فى البر الثانى من الترعة، يصطاد الرجال بالأجر فى موسم الذرة ويقتل القتيل ويمشى فى جنازته، وهو ينظر إليها دائما بطريقة تخيفها. وهى لا تحب أيضا الطريقة التى يشترى بها «عبدالعزيز أفندى» البرتقال منها فهذا المدرس أسمر اللون يمسك بيدها ويضغط عليها وهو يأخذ منها البرتقال ويغمز بعينه ويكلمها عن الحبة الفائرة!
ومنذ ثلاثة أيام أعطاها قرشين فى برتقالة واحدة، وفى اليوم التالى طلب منها الوصال.
آمنة لا تحب هذه الرحلة أبدا.. وهى تكرهها اليوم فى المطر أكثر من أى يوم آخر.. ولكن ما العمل يا آمنة؟! الصبر يا بنت حكمته!! حتى الناظر الطيب قال لها مرة إن الله جميل يحب الجمال، وعندما اشتكت له من أن المدرسة كتبت لأبيها غرامة لانقطاع الأولاد عنها وأبوها لا يقدر على دفع الغرامة، ولا هو يستغنى عن مساعدة ابن له فى شغله.. عندها قال لها إن النبى قبل الشفاعة.. وتلجلج وطلب منها أن تأتى إليه فى داره لتساعد زوجته المريضة ويسوى لها حكاية الغرامة.
يجب أن تحتملى يا آمنة فمكسب البرتقال حلو وأنتم محتاجون له ومادمت بشرفك يا بنتى فلا يهمك.
ولكنها اليوم فى هذا المطر لن تجد مكانا لتقعد فيه أمام المدرسة فهناك فقط.. الوحل.
ومع ذلك فإن رجعت إلى دارها فلن تخلص من أمها.
وتابعت سيرها والطين يتعلق بأقدامها والمطر ينكسب على جلبابها الأسود الواسع والريح الباردة تنفذ إلى العظام، ووضعت القفة على رأسها ولكن المطر اخترقها وسالت خيوطه على وجهها وغمر عينيها واختلط بالدموع وصوت الريح يملؤها بوجل رهيب.!
وبلغت الجسر الذى تقع عليه الجنينة ولم يعد بينها وبين باب الجنينة إلا خطوات والمطر مازال ينهمر ويغمر الترعة والحقول وبدنها.. وثقلت قدماها بالطين.
وفجأة دوى الرعد فأحست بخوف هائل.. وخشيت أن تنهد السماء فوق رأسها، واحتمت بأول شجرة على الجسر ووقفت ترتعش تحت فرع غليظ وهى تعانق الشجرة كطفلة تخفى نفسها فى أحضان أبيها من خوف المجهول.. وعندما سكت الرعد انطلقت تجرى على باب الجنينة والمطر من حولها يهوى كسياط طويلة فضية.
ووقفت على باب الجنينة تخبط وتنادى على الشاذلى الغفير وماء المطر ينفذ إلى يديها، ويلسع لحمها ببرودته، وانكمشت فى بعضها وهى ترتعش كأعواد البرسيم الغضة التى تملأ الحقول..
وأخيرا أجابها الشاذلى فى ضيق وهو يلعن الجنينة وأصحابها والبرتقال والذين يشترونه: أنا مش فاتح لحد أبقى ارجعى لما المطرة تخلص، ولكنها سألته فى استعطاف أن يفتح لها فجسمها كله مبتل من المطر وهى لا تقدر على الانتظار أو العودة وسط هذا السيل، وجاء الشاذلى متثاقلا يفتح لها وقد لف رأسه وكل جسمه بحرام من الصوف الأحمر وعندما رفع رأسه أمام الباب ورآها أمسك عن شتائمه وتلقاها مرحبا، وسألها فى لطف لماذا لم تقل له إنها هى من أول ما اخبطت على الباب.
واندفعت آمنة إلى الجنينة وراء الشاذلى وهو يسرع أمامها إلى العشة التى كان يختبئ فيها من المطر.
كانت العشة من أعواد الذرة الجافة وفى وسطها حفرة مليئة بالنار والخشب المحترق وعندما دخلت آمنة شعرت بلذة الدفء فى المكان المظلم.. واتجهت إلى النار ووقفت بلا كلمة تمد يديها وتحكمهما فى بعضهما وتكحت قدميها من الطين وتعرض رجليها على النار وتخلع منديل رأسها وتنشره أمامها ثم تمسك بطرف جلبابها المبتل أمام النار.. ولاحظ الشاذلى لهوجتها واندفاعها إلى النار بكل نفسها وكل ملابسها مرة واحدة.. كانت ما تزال ترتعش وكان هو أيضا على باب العشة يمسك قفتها ويرتعش.
ورمى القفة خارج العشة وجلس إلى جوار النار وألقى بحرامه المبتل وسألها وهو يدفئ يديه وعيناه فى اللهب أن تخلع جلبابها المبتل وتجففه على النار.. وكانت هى تتمنى أن تعمل هذا.
ووقفت ووقف الشاذلى ونظرت إليه ليخرج من العشة حتى تخلع جلبابها ولكنه لم يتحرك وأخذت تنظر إليه فى خوف وحذر وكأنها ترى فيه أشياء جديدة، فهو أقصر منها وأنحف نحيل اليدين والوجه.. وهو يرتعش مثلها من البرد ويخاف مثلها من المطر.. هذا الرجل الذى يحكون عنه أنه يقتل القتيل ويمشى فى جنازته. وطلبت منه أن يخرج من العشة لتخلع جلبابها.. وكانت أسنانها تصطك وهى تتكلم وتقول له إن نيته سيئة.
وأجابها الشاذلى:
- يعنى مش حرام عليك تخلينى أرصرص من البرد بره العشة.. ما انتى لابسة تحت الهدمة قميص زيها سوا.. مش كفاية فتحت لك وأخدت النطرة فوق دماغى.. عايزة تحكمى عليَّ أقف فى النطرة تانى برة الخص على ما تقلعي؟! يعنى البرنسيسة ياخية.. اوعى كده الوعى طب دا الواحد لما بيبعد عن الراكية وهو جوه الخص، بياكل البرد فى عضمه، أصل الحطب مش كفاية.
وارتمى الشاذلى على الأرض بجوار النار يحرك الجمرات بأصابعه وينفخ عليها بجلبابه وعيناه تتردد بالنظرات بين باب العشة التى يدخل منها تيار بارد وبين جلباب آمنة المبتل الذى يلتصق ببدنها الطويل الملفوف المكسم.. المرتعد!
كان وجهها الرائق الحزين يضىء فى المكان الداكن وخيوط المطر تتساقط فى وشوشة بغيضة على سقف العشة.
وقال الشاذلى بصوت خافت ووجهه إلى الباب:
- اقفلى الباب ده خليه يحوش صاروخ الهوا.. وإن شاء الله عنك ما قلعتى ولا نشفتى هدمتك.
أهو أنتى تعرفى خلاصك فى نفسك.
ولم تجب آمنة وظلت واقفة.. وساد صمت رهيب لم يكن يسمع فيه إلا صوت المطر، ووحوحة الشاذلى فى تلذذه من دفء النار.
وفجأة دوى صوت الرعد، وصرخت آمنة وهى تقعد منهارة وتكاد تمسك بالأرض:
حوش يا شاذلى السما رايحة تنهد.. اقفل الباب.. اقفل باب الخص.
وقام الشاذلى فقفل الباب فى هدوء يخالجه خوف مبهم وقال:
متخافيش دا جمل الشتا بيجرى ورا حمل الصيف.
وقعد إلى جوارها وهى تنتفض من البرد وأنفاسها تتتابع ولم يجد الشاذلى كلاما يقوله وتمنت هى لو تخفى وجهها وكيانها كله فى أحضان قوية تحميها وعندما سكت الرعد أحست آمنة بيد الشاذلى تحيط كتفها بقوة وشعرت بلذة الدفء، وبالطمأنينة وذراع الشاذلى تلف من وراء ظهرها وتضغط عليها ولكنها اهتزت من رعب خفى وكأنها تعانى وخزات الشوك وابتعدت عنه، فقال لها فى صوت حنون.
- خليكى قريبة من الولعة.. ما تبعديش كده عن الراكية.
وخفق قلبها بانفعالات غامضة وبدأت تتأمل وجهه وسألته:
- أنت صحيح قتال قتلة؟ بيكروك فى أيام الذرة؟
وابتسم دون أن يرفع وجهه إليها وقال: اعتمدى.. اتكلى على الله.
ثم استمر ووجهه فى النار:
- طب اتجوزينى كده وأنتى تشوفى!
واضطربت آمنة ولم تعرف ماذا تقول ونصبت طولها واقفة وقلبها يدق بسرعة واتجهت نحو الباب وأوشكت أن تتعثر بالنار.
ودوى الرعد من جديد فملأها الهلع وكادت تقع من طولها على الجمر، أمسكها الشاذلى وأقعدها والتصقت به والنار تسكب حرارتها الهادئة فى بدنها وذراعه القوية تحيط بها ويدب من خلالها شعور بالراحة إلى بدن آمنة.
وعندما سكت المطر كان الشاذلى يضحك فى سعادة. وكانت رأس آمنة تدور وهى لا تعرف أتضحك مثله أم تبكى ولكنها كانت تشعر بالدفء والسخونة فى جسدها على كل حال!
وتذكرت كلمات أمها عن العار، ولكن الشاذلى كان يخبطها على كتفها ضاحكا وهو يقول:
- الله! طيب ما أنا عايز أتجوزك يا مقصوفة الرقبة.
وخرج الشاذلى يملأ لها القفة وهو يقسم أنه سيعطيها البرتقال من على فرعه لا من سقط الشجر وسيكون نصيبها منه اليوم ضعف كل يوم.
وأحنت رأسها.. ولم تقدر على أن تنظر إلى شىء.
وظلت تبكى، وتبكى، وهى تحس لكلماته بوخز، ثم توقفت عن البكاء وهى تعانى وقوف شىء مجهول فى حلقها وانفجرت فى نفسها الرغبة فى أن تزيله من الدنيا فلا تراه مرة أخرى.
وحين عاد الشاذلى بالقفة كانت تلبس جلبابها الجاف وتربط منديلها على شعرها وهى تقف على باب العشة تنظر فى مشاعر مختلطة إلى السماء التى بدأت الشمس تملؤها بالأشعة الواهية الصفراء، وحديقة البرتقال تلمع بقطرات الماء وبالثمار المتناثرة وسط الخضرة ككرات من نار، وحمل الشاذلى القفة ووضعها على رأسها كما لم يصنع أبدا مع بنت أخرى وقال لها:
- ابقى شوفينى يا آمنة.. دانا وحدانى فى البلد دى وأنتى مش زى التانينيين... فوتى برضه تعمليلى لقمة ولا تغسليلى هدمة ولا تشوفيلى حالى على ما نتجوز.
ولم تعرف آمنة ماذا تقول.. ومشت فى بطء إلى باب الجنينة وأقدامها تنغرس فى الطين وبرد الوحل يخترق لحمها كالطعنات وفى صدرها تضطرب أشياء مختلطة وفى أذنها ترن كلمات الشاذلى وكلمات أمها وكانت ترتعش.
لو أن أمها تركتها فى القاعة الدافئة على قبة الفرن تحتضن أختها الصغيرة التى تنطق فى حلاوة بأول الكلمات «يا ليت.. أتعرف الأخت الصغيرة ما حصل؟ والصبيان.. وأمها وأبوها أيعرفون كلهم ما حصل فى العشة؟ إنها تحمل الآن فوق رأسها البرتقال الكثير المعتبر ولم تكن لتحمله لولا ما حصل وأحست بنفسها تختنق من جديد وتمنت أن ترمى نفسها فى الترعة وتستريح.. ولكن الحكاية لم تكن هكذا.. ومع ذلك فثمن هذه القفة لا يمكن أن يطوله أبوها ولو اشتغل هو وأولاده بالفأس طول النهار والليل ولكن المال الحرام يروح يا آمنة.. لماذا يروح المال الحرام..... إنها سمعت من صاحبة لها تشغل خادمة فى مصر أن الخادمة الجميلة يحصل لها ما يحصل فتهرب وبعد خمس أو ست سنوات تصبح مالكة لأرض وبيوت وعربة والهيبة والمال بالويبة.. ولكن مالك يا آمنة وكل هذه السيرة؟ أوصلنا لهذا.. لا.. لا!
وزحفت على نفسها الحسرة وهى تقترب من باب الجنينة، وأحست بروحها فى حلقها، ولاحت لها، الترعة بموجها المرتعش حين فتح الشاذلى باب الجنينة.. وانتفضت وهى تتصور برودة الماء.
وعلى باب الجنينة توقفت وقال لها الشاذلى:
البرتقال ده لكى أنت وأخواتك تفرحوا بيه، حاكم المدرسة قافلة النهاردة من النطرة.. روحى بقى على طول.
وغلا الدم فى عروق آمنة ووثبت إلى ذهنها فجأة صور فتيات يقعن فى الموالد بقروش أو ببرتقال أو بكيزان ذرة، ورفعت القفة بكل عزمها وقذفتها فى وجه الشاذلى وانقضت على الأرض وفى أذنيها تصفر كلمات عن الشرف والعار، وجمعت كتلة من الوحل ورمتها فى وجه الشاذلى وحمى الشاذلى وجهه بالقفة وهو يقول:
مافيش راجل فى البر كله عملها فيَّ ولا يقدر يعملها فيَّ يا آمنة.. والله يا شيخة ما ينفعنى غيرك.. وشرف المصطفى يا شيخة لأكلم أبوكى الليلة وأكتب الكتاب بكرة.
ولكن آمنة كانت تجلس مخلفة وراءها البرتقال مبعثرا فى الطين وهى تقسم ألا تسير فى الوحل مرة أخرى وألا تخرج أبدا مع المطر.
واندفعت إلى دارها، ودخلت إلى القاعة تحتضن أختها الصغيرة.
وعندما سألتها أمها عن القفة وعن سر عودتها رفعت رأسها ومسحت عينيها وهى تقول: الشاذلى جاى الليلة وجايب فيها برتقال نفقتى حاكم إحنا حنتجوز يامه واختلجت واستمرت تقول وهى تبكى: إحنا أتجوزنا وكنت حارمى نفسى فى الترعة لكن ما هانتش عليَّ نفسى وذهلت الأم وبعد صمت طويل قالت فى رهبة وإن ما جاش؟
وفتح أمامها السؤال أبواب الهاوية ولم تجب آمنة وتهدج صوتها بالبكاء وهى تخفى وجهها فى صدر أمها.
وسالت دموع أمها وسقطت على رأسها.. بينما كانت الصغيرة تنظر إليها فى دهشة.. وترفع وجهها إلى فضاء القاعة وتطلق الضحكات»