الجمعة 30 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

منزل التماثيل

منزل التماثيل
منزل التماثيل


ولدت ونشأت فى حى شبرا العريق.. تحمل الجولات أثناء سنوات الطفولة فى شوارع  شبرا دهشة لا يستطيع العقل الصغير فك طلاسمها.. من أين أتت هذه الطرز الأوروبية للعمارات المزخرفة بالنقوش وتزين واجهتها تماثيل لكائنات خرافية وملائكة وعازفات يحملن القيثارة الإغريقية؟


أتذكر منزلاً فى شارع جانبى مغطى بالأشجار، هذا المنزل فى تصميمه المعمارى رحب رحيم، ممر متسع ينتهى بباب خشبى مطعم بالمشغولات الحديدية وملحق بالمنزل حديقة صغيرة تكررت الرحمة المعمارية فى نسخ متعددة بمنازل شبرا.
صمت المنازل والشوارع فى شبرا
كان يحيط بالمنزل والشارع وشبرا عموما صمت وقور لا يزعجه سوى صيحاتنا فى ساعة العصارى عندما نلعب الكرة صغارا، اختلف هذا المنزل الرحيم عن النسخ الرحيمة الأخرى فى حديقته.. تحتضن الحديقة الصغيرة عدد كبير من التماثيل تعكس وجوهًا وأشكالاً من حياة المصريين.
طفل مثلنا يلعب بالكرة، سيدة تشبه أمى تحمل سلة بها خضروات وفاكهة، رجل يجلس يدخن البايب ويقرأ جريدة، فتاة عارية الصدر تمسك بسهم كيوبيد.
حديقة المنزل الرحيم!
أثارت التماثيل شغفنا بشدة كنا نتفحصها فى فضول متعجبين من يستطيع تصوير أجساد البشر على هذه الدرجة من الإتقان؟ لم نكن وحدنا الشغوفين بالتماثيل.. فى كثير من الأحيان نرى سيدة وأبنائها يمرون فى الشارع ثم يتوقفون أمام حديقة المنزل ويشاهدون التماثيل فى سعادة أو يأتى أب مع أبنائه ويتطلعون لهذه القطع الفنية والأب يشبع فضول صغاره بالمعلومات.
كثيرا ما كان أحد ساكنى المنزل الرحيم يطل من الشباك الخشبى الضخم فى الدور الأول وعندما يرى هذه الأسر الشغوفة تقف خارج الحديقة تتطلع إلى متحف المنزل يشير لهم فى رحابة صدر بأن يدخلوا الحديقة ويشاهدوا عن قرب القطع الفنية.
انبهرنا فى صغرنا بالفن ونسينا السؤال عن الصانع؟ ظل الأمر لغزا لى حتى الآن بعد أن اختفت الحديقة والتماثيل والمنزل الرحيم نفسه.
فى ساحة شبرا الثقافة بلا كتاب
تلك كانت شبرا التى وعيت عليها، تعلمك الثقافة دون كتاب بمجرد النظر إلى الزخارف والنقوش والتماثيل.. ففى كل يوم يرن جرس حصة الفن، ودون دروس فى الإتيكيت أو خطب إنشائية عن الوحدة الوطنية وأهميتها تلهمك  شبرا  هذا الحس الرفيع والانتماء فى كوب الماء الذى تشربه يوميا.
تتعلمه من قصيص الزرع الموضوع على سور البلكون والزجاج الملون فى مداخل أبواب المنازل.
ينتعش عقلك قبل بدنك عندما تمر فى الصيف القائظ من أمام نفس هذه المداخل  الرحيمة ويلاطفك الهواء البارد الخارج منها والممزوج برائحة الطهى الشهى يشير عقلك إلى المغزى من اختيار هذا التصميم.
فالمصمم والبانى لهذه المنازل يعلم طبيعة مصر الغالبة والمائلة للحرارة فيلطف بهذا التصميم شهور الصيف القائظ، تعلم هنا أن المصمم والبانى يحبونك ويسعون فى راحتك حتى لو كانوا غرباء عنك فتكن لهم الود.
يجب أن تبتسم ابتسامة لطيفة فى وجه سيدة أو شابة ذات ملامح مصرية أصيلة وتقل الكلمة السحرية التى تحمل خير الصباح أو المساء أنت لا تعرف دينها أو من هى.. فقط تحمل لها الخير.. هكذا علمتنا الأمهات.
الوحدة والتآلف الوطنى
 هذا التآلف الوطنى والوحدة لا يحتاج لحملات دعائية لأننا نتنفسه فى كل يوم.. فالطوابير الطويلة فى شهر الصيام أمام الخيمة القماشية التى يصنع صاحبها الكنافة تتوسطها لوحة ضخمة للسيدة العذراء فالبائع مصرى يذهب للكنيسة والمشترون مصريون يذهبون إلى المساجد.
فى مجالس العزاء لا تعلم ما هى ديانة المتوفى، فالمسلم يقف فى عزائه قسيس الكنيسة يلقى وعظًا، وفى عزاء المسيحى يرتلون القرأن ولا تجد فى هذا غرابة أو دهشة لأنه الطبيعى.
فى صباحات الأحاد عندما تدق أجراس الكنائس معلنة بدء الصلاة ثم يخرج المصريون من كنائسهم لا تفرق بينهم، فالنساء المصريات يرتدين نفس الزى المحتشم الأسود والشابات فى فساتينهن الملونة المرحة لا تفرقهن ولا تعرف أيهن خرجت من الكنيسة أو صلت صلاة الصبح فى منزلها قبل النزول إلى الشارع.
دولة الدور الواحد
داخل البيوت الرحيمة تجد فى الدور الأول عائلة المصرى الذى يذهب للكنيسة وفى الدور الذى يليه مصرى يذهب إلى المسجد، لذلك كانت تنتابنى السخرية عندما أسمع فكرة تقسيم مصر على أساس طائفى وأتخيل أبناء شبرا وهم يقيمون المتاريس بين الدور الأول والدور الثانى ليدخل فى علم السياسة مصطلح جديد.. دولة الدور الواحد.
قلاع الهوية المنتشرة
هذه شبرا التى وعيت عليها صغيرا إحدى مصانع غزل الهوية المصرية تتنفس روحها حتى تصبح مصرى الهوى والهوية، أتكلم عن شبرا لأنها الحى الذى أعرفه لكن قلاع الهوية المصرية منتشرة فى القاهرة من السيدة إلى الجمالية ووسط البلد وحول مراكز القديسين والأولياء الصالحين الذين أستلموا العمل على الوجدان المصرى من المعابد فى مصر القديمة.
هناك مدن بكاملها تغزل هذه الهوية فى دأب لا ينقطع كالإســكندرية الموغلة فى المصرية، وتصب فى هويتنا رافد بحرى منفتح على العالم الواسع وتقدم لنا خلطة كزموبولتانية شرقية غربية بنكهة مصرية خالصة.
محاصرة قلاع الهوية ومقاومتها
حال هذه القلاع الآن لا يسر فهى محاصرة وترسل إشارات استغاثة متواصلة منذ عقد على الأقل محذرة من سقوطها لأنها واقعة تحــت حصار شرس من ميليشيات الظلام التى تعلم جيدا أن بسقوط القلاع الأخيرة ستسقط الهوية المصرية ويتحقق الانتصار الأسود ويســــود الظلام.
رغم ما عانته هذه القلاع من هجمات تدميرية طوال أربع عقود من تحالف السياسة الرديئة مع الفاشيست الإخوان وأذنابهم السلفيين، إلا أنها استجمعت آخر ما تمتلك من قوة وخرجت فى 30 يونيو لتصد هجمة كادت أن تقتلع الأمة المصرية من جذورها.
لا أحكى عن وقائع خيالية ففى هذه الأيام الصعبة والخالدة من الثورة، كانت شبرا قلعتى الحبيبة تزحف منها الجماهير المؤمنة برحابة المنـــــــــــــازل والتسامح والنقوش والزخارف والابتسامة فى وجه الإنسان لتطارد الظلام وتمتد المظاهرات متواصلة غير منقطعة من دورانها الشهير حتى ميادين وسط البلد الامتداد الاستراتيجى لشبرا كما كنا نطلق عليها.
لم تتوان قلاع الهوية فى اللحظة الفاصلة رغم حصارها وضعفها من الإسراع إلى نجدة الأمة التى هى مكون أصيل فيها نعم تحقق الانتصار على قوى الظلام لكن الحصار مازال يحيط بالقلاع ويجب أن نرفعــــه عنها.
هذا الحصار تقوده قوى الظلام والفاشيست وأذنابهم من المتسلفة الذين ذبحوا الصمت الوقور بضجيجهم وميكروفوناتهم وكلماتهم المسمومة فأنطلقوا يزرعون الفتنة ويفصلون مكونات الأمة الواحدة باسم الدين ويغطون النقوش والزخارف والتماثيل بملصقاتهم الرديئة ويستولون على المنازل الرحبة ويحولونها إلى بنايات مشوهة تعكس ظلامهم.
هل نقف نشاهد حتى تسقط القلاع فى أيد الظلام؟ يجب أن نسرع  لنجدتها ونرفع هذا الحصار عنها، ثم بعد ذلك تستعيد قوتها وتعود إلى دورها الطبيعى.
الحراك المجتمعى لرفع الحصار
يستلزم رفع الحصار حراك مجتمعى لا يعرف التردد أو الخوف من الظلاميين يعيد للحياة داخل القلاع حيويتها.
فى زيارة أخيرة لقلعتى الحبيبة شعرت بالحنين إلى منزل التماثيل تحول الشارع وأرف الظلال إلى صحراء مخيفة، أما المنزل نفسه فأزيل وتوغلت على أرضه بناية قبيحة ويتصاعد من ميكرفون بجانب البناية صوت غليظ شرس يعلن قدوم ميعاد الصلاة.. لم أعرف لماذا قررت سؤال رجل ملتح متجه إلى حيث الصوت الغليظ عن مصير منزل التماثيل؟ تلقى سؤالى فى ريبة لكنه تذكر بعد فترة قائلا: «آه البيت اللى كان هنا.. ده غار هو والتماثيل اللى كانت فيه من زمان.. إنما بتسأل ليه؟