الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أحلام عبدالناصر للفقراء

أحلام عبدالناصر للفقراء
أحلام عبدالناصر للفقراء


كتب: د. عاصم الدسوقي
حين طيرت الأنباء خبر وفاة جمال عبدالناصر (الاثنين 28 سبتمبر 1970)، خرجت مندفعًا وبكل سرعة من منزلى، لأجد نفسى وسط طوفان من البشر من كل الأعمار، رجالاً ونساءً وشيوخًا وأطفالاً، تجمعوا فى ميدان التحرير والشوارع المحيطة، يبكون وينتحبون انتظارًا لتشييع جنازة الزعيم إلى مثواه.


ومن بين العبارات التى كانت تتردد على ألسنة الناس ما كانوا يقولونه مخاطبين عبدالناصر: سايبنا ورايح فين يا جمال.. سايبنا لمين بعدك.. يا جمال يا نصير الفقراء.. إحنا بقينا أيتام.
وجاءت تلك العبارات الصادقة، امتنانًا وتقديرًا لكل الإجراءات التى قام بها الزعيم لصالحهم، فاستحق أن يسكن فى قلب كل منهم، فلما علموا بنبأ وفاته وضعوا أيديهم على قلوبهم وداخلتهم مشاعر الغربة والخوف من المصير.
 وأثبتت الأيام صدق مشاعرهم عندما بدأت الدولة تتخلى عنهم لصالح الأغنياء، وكانت انتفاضة 18-19 يناير 1977 أول تعبير عن هذا الخوف من المستقبل الأسود الذى بدا واضحًا للجميع.
لقد سكن جمال عبدالناصر قلوب الفقراء من واقع الإجراءات السريعة والحاسمة التى اتخذها عقب نجاح الثورة واستلام السلطة، ففى التاسع من سبتمبر من عام الثورة صدر قانون الإصلاح الزراعى، الذى رفع من مستوى صغار المستأجرين- فقراء الريف- حين تقرر منح كل منهم خمسة فدادين.
وحدد عدد الفدادين الخمس على أساس أن ما تحتاجه الأسرة الريفية المكونة من سبعة أفراد (متوسط الأسرة فى الريف عمومًا) كحد أدنى لمواجهة متطلبات المعيشة 116 جنيهًا فى العام، بأسعار عام 1952، وأن إيراد خمسة فدادين فى الظروف العادية آنذاك يبلغ 120 جنيهًا سنويًا. وبفعل تلك السياسات انخفضت نسبة الأسر المعدمة فى الريف من 44% عام 1950 من إجمالى عدد أسر الريف، إلى 30% عام 1961، ثم إلى 28% عام 1965.
كما كان لتحديد إيجار الأرض الزراعية بسبعة أمثال الضريبة (21 جنيهًا للفدان)، وتحديد المزارعة بنصف المحصول، تأثيره الكبير على الانتعاش الاقتصادى لصغار المستأجرين، إذ تمكنوا من الانتفاع الحقيقى بجزء من ناتج قوة عملهم، لينفقوه على احتياجاتهم الاجتماعية، وكان قبل ذلك يذهب إلى جيب المالك.
كما ضمن القانون للمستأجر عدم الطرد من الأرض التى يزرعها مادام يدفع الإيجار فانتعشت أحوال الفلاحين، كما أتاحت الجمعيات التعاونية الزراعية فرصة أوسع لصغار الفلاحين للإفادة من الخدمات التعاونية بشكل أكبر، وخاصة فى مجال تسويق الحاصلات الزراعية.
أما بالنسبة لرعاية أبناء الفلاحين من عمال الورش والمصانع وحمايتهم، فقد تم إلغاء الفصل التعسفى للعمال (12 سبتمبر 1952)، وكان أصحاب المصانع يمارسونه دون حسيب أو رقيب، بحيث لم يكن العامل يأمن على يومه، إذ كان من السهل على صاحب العمل أن يعلن لعامل أو أكثر عدم المجيء فى اليوم التالى للعمل.
وفى 17 سبتمبر 1952 تقرر تخفيض إيجارات المساكن 15% للمبانى التى أنشئت منذ أول يناير 1944 وتوالت سياسة التخفيضات وتجريم دفع «خلو الرجل»، وقد قصد بتلك الإجراءات التيسير على عمال المدن والحرفيين والموظفين. كما تم إنشاء صندوق تأمين للعمال وآخر للادخار (31 أغسطس 1955) تحول إلى مؤسسة للتأمين ضد الشيخوخة والوفاة والعجز وأمراض المهنة والبطالة والمرض بشكل عام، كما نظم القانون التعويض عن إصابة العمل (18 ديسمبر 1958) ثم صدر قانون جديد للعمل (5 أبريل 1959).
ومع إنشاء القطاع العام بعد قرارات التأميم الكبرى فى يوليو 1961 استوعبت وحداته العمالة المتزايدة من خريجى الجامعات وحملة المؤهلات المتوسطة مما كان له أثره على الاستقرار الاجتماعى، وفى هذا الخصوص يكفى أن نعلم أن خريجى الجامعات العاطلين عن العمل منذ عام 1956 وهم أبناء الفلاحين والعمال والموظفين بلغ عددهم تسعة آلاف، فعناصر النشاط الاقتصادى كانت لاتزال آنذاك فى يد الرأسماليين من المصريين أو الأجانب، وهؤلاء عادة لا يسمحون إلا بتوظيف الحد الأدنى من القادرين على العمل، تحقيقًا لأكبر قدر من الأرباح، فتم تعيين هذا العدد الكبير اعتبارًا من يناير 1962 وتوالت سياسة الدولة فى توظيف الخريجين أولاً بأول.
ولم يكن القطاع العام يستهدف الربح، وإنما كان يستهدف منع الاستغلال الرأسمالى، ولهذا كانت السلعة تقدم للمستهلك بتكلفتها تقريبا ولو كان يستهدف الربح لكان من السهل تسعير منتجاته تسعيرًا رأسماليًا، وأكثر من هذا أن دولة عبدالناصر كانت تراقب الأسعار وتحارب التجار الجشعين فحفظت كرامة الفقراء ومحدودى الدخل.
وفى يوليو 1962 أصبح التعليم مجانًا فى جميع المراحل تمشيًا مع مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع، وكل إنسان بعد ذلك حسب قدراته الذهنية، ذلك أن النظام الرأسمالى لم يكن يسمح إلا للأغنياء بمواصلة التعليم واكتساب الخبرات المعقدة، على حين يذهب الفقراء إلى الحرفة.. ولاشك أن تلك الإجراءات التى اتخذها ناصر حفظت كرامة غالبية الشعب المصرى، ومن ثم كان شعورهم بالخوف على مصيرهم بعد غيابه.