الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الإعلام فى مصر.. السقوط فى دوامة الصمت (1)

الإعلام فى مصر.. السقوط فى دوامة الصمت (1)
الإعلام فى مصر.. السقوط فى دوامة الصمت (1)


شهدت الساحة الإعلامية فى مصر تغييرات جذرية خلال العقدين الماضيين؛ حيث جاءت مطلع الألفية بموجة غير مسبوقة من الإصدارات الصحفية والقنوات الفضائية والمحطات الإذاعية الخاصة، لتنافس مثيلاتها من الصحف والمجلات الصادرة عن المؤسسات الصحفية القومية والقنوات التليفزيونية والإذاعية الرسمية، وذلك لأول مرة منذ تأميم الدولة للصحف واستئثارها بالبث التليفزيونى والإذاعى خلال مطلع ستينيات القرن العشرين.
 يُرجع المراقبون بزوغ ظاهرة الإعلام الخاص - تحت سمع وبصر الدولة - وجود حاجة لمنابر جديدة لتمثل مصالح وجماعات استجدت على السياق الاقتصادى والسياسى الاجتماعي؛ للتعبير عن توجهاتها وآرائها. فى الحقيقة، كان توقيت صدور تلك المنصات الإعلامية مواكباً لرغبة أجنحة فى الدولة لبث رسائل إعلامية لا تتلاءم مع الطبيعة الرسمية لإعلام الدولة؛ ومن فى وسعه الإنكار أن إحدى القنوات الفضائية الخاصة اُستغلت فى بداية إطلاقها لتوجيه انتقادات كاريكاتورية لاذعة لقناة الجزيرة القطرية.
 استتبع تأسيس المنابر الإعلامية المستقلة وسعيها الدءوب للمنافسة والتفرد لجذب جمهور القراء والمشاهدين والمستمعين ظهور أنماط جديدة من الممارسة الصحفية والإعلامية ودرجات متباينة من الهجوم على السياسات الحكومية، ويُعد عام 2005 تاريخاً فارقاً فى تنامى النبرة الهجومية للإعلام الخاص بجميع صوره ضد النظام القائم آنذاك والتى استهدفت انحرافات أعضاء الحزب الوطنى الديمقراطى المُنحل والتزوير المُمنهج للانتخابات البرلمانية. كان النهج الإعلامى آنذاك نموذجاً للإعلام الشعبوى الذى يعد انعكاساً للسجالات التى تتم على المقاهى وفى المواصلات العامة، سواء باستخدام لغة الخطاب غير الاحترافية، أو الترويج لمعلومات تم الحصول عليها من مصادر مجهلة أو غير موثقة، فضلاً عن تضخيم مبالغ فيه لتفاصيل هامشية.
 خلال الأعوام التالية من 2006 وحتى 2011 واصلت غالبية الصحف والقنوات الفضائية الخاصة نهجها الإعلامى ضد نظام الرئيس الأسبق / محمد حسنى مبارك.. وذلك بالتركيز على قضايا توريث الحكم لنجله / جمال مبارك وتحالف السلطة والثروة ممثلةً فى حكومة الدكتور/ أحمد نظيف التى تضم غالبية من رجال الأعمال، تنامى نفوذ وزارة الداخلية ممثلة فى اللواء/ حبيب العادلى وجهاز مباحث أمن الدولة السابق وإدارتهما للملف السياسى منذ عقد صفقة مع جماعة الإخوان الإرهابية خلال انتخابات مجلس الشعب دورة 2005، وقائع العنف الطائفى وتصاعد الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين، استحواذ أعضاء الحزب الوطنى على الغالبية الساحقة من مقاعد مجلس الشعب عام 2010 وسط اتهامات مؤكدة بتزوير نتائج التصويت لإقصاء أحزاب المعارضة والإخوان.
يعتنق البعض نظرية قائلة بأن الإعلام بنسختيه التقليدية والإلكترونية التفاعلية قبيل وأثناء اندلاع أحداث ثورة 25 يناير 2011 هومن قام بتحريض الجماهير وزيادة السخط على سياسات النظام؛ الذى سقط طواعيةً وبدون مقاومة فى شركٍ صنعه الإعلام الخاص؛ الذى يسيطر عليه رجال أعمال تضخمت ثرواتهم من خلال علاقاتهم مع النظام ذاته، ذلك بالإضافة إلى بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية ذات الأجندات المعلنة. فى تلك المرحلة تبلورت رؤية لدى غالبية الصحفيين والإعلاميين بأنهم تحولوا إلى جماعات ضغط ونفوذ Lobbyists  بوصفهم مراقبين وموجهين بلغوا ذروة التأثير على صناعة القرار السياسى فى البلاد. بكل اختصار كانت فترة ذهبية للإعلام والإعلاميين لكنها لم تستغل لانتزاع مكاسب حقيقية تصب فى صالح الممارسة الإعلامية أو ما يخدم المهنة، فقد انشغل الكثيرون بإعادة صورتهم الذهنية وتوطيد علاقاتهم باللاعبين الجدد على الساحة فى ظل توقعات بحدوث تغييرات مشهودة على جميع الأصعدة. 
 واصلت غالبية وسائل الإعلام فى أعقاب ثورة يناير توجيه هجومها على مؤسسات ورموز النظام الأسبق فى ظل قناعة عدد كبير من الصحفيين ومقدمى البرامج الحوارية المسائية بأنهم جزء من العمل (الثورى)، كما تبنت أيضاً توجهات (الثُوار) فى جميع الأحداث التى شهدها عاما 2011 - 2012 التى شملت وقائع مؤسفة كحرق مبنى المجمع العلمى بشارع قصر العينى ومحاولات اقتحام مقر وزارة الداخلية فيما عُرف بأحداث شارع محمد محمود. إلا أنه مع تغير المزاج العام لعب الإعلام دوراً فى إبراز السخط الشعبى على سياسات الرئيس المعزول / محمد مرسى وكشف سيطرة مكتب إرشاد جماعة الإخوان على مقاليد الأمور بالبلاد حتى سقوط النظام الإخوانى على أثر ثورة 30 يونيو وإعلان خارطة الطريق فى 3 يوليو 2013. تزايدت قناعة الجماهير بمدى السطوة التى يمتلكها الإعلام، فهو عصا موسى والإعلاميون هم السحرة القادرون على قلب المجتمعات على حكامها ونسف أنظمة وأحزاب وجماعات كانت نموذجاً للقوة والسيطرة. السؤال هنا، هل تلك القدرات السحرية للإعلام حقيقية؟ هل تنساق المجتمعات والشعوب خلف عناوين الصحف ومقالاتها وشاشات التليفزيون؟ معقول!
 تعددت النظريات والمفاهيم التى تم طرحها خلال المائة عام الأخيرة بشأن دور وسائل الإعلام وتأثيراتها، فقد تأثرت تلك النظريات بالتطور الذى شهده المفهوم العلمى لسلوك وإدراك الفرد والجماعة والطبقة الاجتماعية والمجتمع ذاته. جاءت بعضها لتفترض تأثيراً قوياً لوسائل الإعلام على الجمهور كنظرية (الرصاصة السحرية - الحقنة تحت الجلد) خلال أربعينيات القرن الماضى،وأبرزها على الإطلاق مفهوم (دوامة الصمت) Spiral of Silence للباحثة الألمانية اليزابيث نيومان فى الستينيات والتى تفترض إمكانية استخدام الإعلام للسيطرة على الجماهير متأثرةً بممارسات الدعاية النازية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. وبتطور العلوم الاجتماعية أثبتت النظريات الحديثة التأثير الانتقائى لوسائل الإعلام على الجمهور بفرض أن الأفراد يختارون ما يناسب احتياجاتهم وتطلعاتهم والذى يجسده مفهوم (الاحتياجات والإشباعات) Uses and Gratifications ونظرية (تدفق الاتصال على مرحلتين) Two Step Flow of Communication التى تعظم من دور قادة الرأى فى توعية الجماهير.
ليس من اليسير اعتماد إحدى النظريات أو المداخل لفهم تأثير وسائل الإعلام فى ظل ثورة المعلومات والاتصالات وبث القنوات الفضائية والإنترنت عبر الحدود الدولية، مع الوضع فى الاعتبار جهود المؤسسات البحثية الأكاديمية والتسويقية لمراجعة نظريات تأثير وسائل الاتصال سواء نظريات التأثير المحدود Limited Effect Theory أو التأثير المعتدلModerate Effect Theory أو التأثير القوى Powerful Effect Theory والتى أصبح من الواجب تطويعها لفهم تأثير الاتصال على المتلقى فى ظل السياق الحديث والتركيز على المتغيرات المرتبطة بالبيئة التفاعلية الجديدة، لذا فإن رؤيتنا لمدى تأثير وسائل الإعلام فى جمهور المتلقين تستدعى منا نظرة أكثر شمولية لفهمها. لكن.. هل لذلك الجدل العلمى علاقة بدور وسائل الإعلام فى مجتمعنا؟
دون مبالغة، مارست الصحف القومية منذ الستينيات وحتى مطلع التسعينيات ثم القنوات الفضائية فى العقد الأخير أدورًا سياسية تتعدى وظيفتها الإخبارية والتثقيفية فى البلاد. لعبت طبيعة النظام السياسى السائد خلال الستين عاماً الماضية دوراً واضحاً فى استمرار ذلك، بحيث يحقق عدة أهداف أبرزها الاستعاضة عن المعارضة السياسية ممثلة فى الأحزاب السياسية والتى تم إلغاؤها لمدة ثلاثين عاماً فى ظل التنظيم السياسى الواحد (الاتحاد الاشتراكى) وهامشية دورها عقب عودتها للحياة السياسية فى مطلع الثمانينيات. كما تم استغلال وسائل الإعلام بمثابة (صمامات لإفراغ شحنة الجمهور) تجاه احباطات الحياة اليومية العادية أو عدم تلبية سقف التوقعات والطموحات.
مازال الجدل دائراً حول أسباب سقوط إعلامنا فى دوامة الصمت التى خلقها، فلنكمل الحديث فى الأسبوع القادم.