الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الدولة الجديدة

الدولة الجديدة
الدولة الجديدة


كتب صاحب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد الشيخ عبدالرحمن الكواكبي فى جريدة المقطم أغسطس 1899 «لوسألت عامتنا اليوم لوجدتهم يعتقدون أن الدين لا يقوم إلا بالدولة، والدولة لا تقوم إلا بالدين وأنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر وهذا خطأ مبين، أن الغاية التي تسعى إليها الدولة فى زماننا هذا هي دنيوية محضة وأن التمييز بين الدين والدولة فى عصرنا هذا أصبح من أعظم مقتضيات الزمان والمكان».

 الكواكبي
سطر الكواكبى هذه الكلمات قبل 118 عامًا، ودفع الشيخ ثمن إصراره على مشروعه التنويرى، فبعد تناول قهوته وسط أصدقائه فى مقهى يلدز بالقاهرة شعر بألم شديد ومات مسموما وهو فى بداية الخمسينيات من عمره.
اختفت فى ظروف غامضة مخطوطات كتب كان يعدها الشيخ، وبدلا من أن يكتب فى المقطم من جديد دفن جثمانه عند سفح جبل المقطم، تعددت التفسيرات حول اليد التى دست السم فى فنجان الشيخ، لكن المؤكد أن هناك من كان يترصد الشيخ أو بالأدق مشروعه التنويرى واستشعر خطر كلماته الهادفة إلى إحداث تغيير حقيقى فى الأمة يخرجها مـــــن ظلمات التخلف إلى أنوار التقدم.
بذل كثر من أبناء هذه الأمة ــ المصرية، العربية، الإسلامية ـــ فكرهم وبحثهم ثم كانت أرواحهم ودمائهم لأجل تحقيق مشروع الدولة الحــديثة فى مرحلة أولى وبعدها تطوير المشروع حتى تستقر وتحدث أثرًا فعــالاً فى بنية الأمة.
بذرة الدولة الحديثة
بعد مرور خمسة أعوام من القرن التاسع عشر وضعت بذرة الدولة الحديثة فى مصر على يد محمد على باشا والدولة الحديثة التى بدأت الظهور كانت إحدى صور الدولة المصرية لأن مفهوم الدولة لم ينقطع فى الأمة المصرية على مدار خمسة آلاف عام ويزيد.
يأتى عدم انقطاع مفهوم الدولة فى الأمة المصرية لسبب يسير وهو أن فكرة الدولة هى اختراع مصرى خالص ابتكره الإنسان المصرى مع خطواته الأولـــى على وادى النيل، أصبحت الفكرة هى عقل الأمة الذى ينظم أمورها اليومية والمستقبلية ثم أنتج العقل نظام مناعى ممثلا فى الجيش المصرى العمود الفقرى للدولة والقــــادر فى لحظــــات اهتزاز الدولة التدخل لحماية الأمة.
أعطت الدولة المصرية الحديثة أو دولة محمد على باشا نسبة للمؤسس بأطوارها السياسية المختلفة الخديوية، السلطاوية، الملكية وأخيرا الجمهورية الكثير للأمة المصرية نقلتها من فترات فوضى انقطــــــاع الدولة إلى الانضباط اليومى، وجعلت من الجيش بوتقة تصهر فيهــــــا مكونات الأمة المصرية لتخرج منه سبيكة وطنية صلبة لا تعـــــــرف فروقًا دينية أو مذهبية أو عرقية.
على الرغم من عطاء صورة الدولة الحديثة للأمة إلا أنها ولدت مصابة بمرض التلفيق الذى تولد عنه إلا حسم فى أساسيات البناء خاصة فى علاقة الدولة بمكونها الديني.
دوران الدولة حول نفسها
ظلت الدولة الحديثة فى حالة دوران حول نفسها لا تحسم موقفها من المكون الدينى وبمرو الوقت أصيبت حداثة الدولة بالوهن وفقدت زهو الانطلاقة الأولى وأصبح المفهوم الدينى متداخلا فى النصوص والنفوس.
انقض المتاجرون بالدين بسبب هذا الوهن على الحداثة وأزاحوها مـــن  طريقهم وأكدوا على مرض التلفيق وزيفوا فكرة الدولة الأصيلة ليخلقوا مسخًا مشوهًا باسم الدولة الدينية التى تشمل أمور الدين والدنيا معا وهما أمران ضدان من حيث الثبات للأول والتغيير للثاني.
وإذا عدنا إلى صاحب طبائع الاستبداد الشيخ الكواكبى فقد رأى ضرورة إبعاد الدين عن السياسة وإبعاد الدين أيضا عن الحكومة والمجلــــــــــس التشريعى وقوانين الجيش والبلديات، ولكن أحلام الشيخ المغتال لم تتحقق وإن تحقق جزء منها فكان بنفس التلفيق وإلا حسم.
المتاجرون بالدين
استمرأ المتاجرون بالدين لعبتهم الخبيثة ولم يكتفوا بالعمل تحت مظلة الدولة الواهنة بل مزقوا هذه المظلة وأسسوا كيانات موازية للدولة من خلال جماعات وتيارات رجعية كان الناتج مشوهًا ومرعبًا ممثلا فى جماعة الإخوان الفاشية عدو الدولة والتيار السلفى عدو الحداثة.
ننتقل إلى أمر آخر لم يفلت من مرض التلفيق وإلا حسم تعلق بالهوية، فالهوية المصرية الثابت الرئيسى فى تكوين الشخصية المصرية لأنها سابقة للمعتقد الدينى الذى تغير على مدار تاريخ الأمة المصرية.
شن المتاجرون بالدين حربا لا هوادة فيها على الهوية المصرية ساعدهم فى هذا الوهن الشديد الذى أصاب الدولة الحديثة وجعلها مستباحة أمام هويات لقيطة قادمة من بيئات صحراوية، وللأسف تمكن اللقطاء مــــن الشخصية المصرية والأصلاء تحولوا إلى غرباء فى بيوتهم.
اللحظة الفارقة
الآن نحن فى لحظة فارقة من عمر صورة من صور الدولة المصرية أو دولة محمد على باشا، فبعد 212 عامًا استنفذت هذه الصورة كامل طاقتها وتغلب عليها مرض التلفيق ولاحسم وحان أن نسلمها للتاريخ بكل إجلال تقديرا لما أعطت للأمة.
أصبح واجباً علينا وضع صورة جديدة من صور الدولة تتوافق مع الحراك المصرى الداخلى بمستوياته المتعددة سياسيا واجتماعيا وثقافيا ويتعامل بجدية وتحد مع إنجاز حضارى بشرى يشهده العالم لم تعرف الإنسانية مثله من قبل.
بدأت لحظتنا الفارقة فى الـ30 من يونيو 2013 فى تلك الأيام أعلنت دولة محمد على عجزها الكامل أمام التلفيق ولا حسم ممثلا فى تمكن الفاشيست والرجعية من كل مفاصلها، لذلك تحركت الأمة بقيادة الجيش لتنقذ مفهوم الدولة الحديثة أو البنية الرئيسية وليس الصورة التى يمكن تعويضها.
الصورة المهترئة
خرجنا من الحرب النهائية رابحين جسد الدولة الحديثة، أما الصورة فقد اهترأت بعد 212 عامًا وتمزقت نتيجة المعارك المستمرة بين المشروعين التنويرى والظلامى على أرض التلفيق ولا حسم.
تصنيع الصورة الجديدة يستلزم منا ألا يستدرجنا التاريخ الماكر إلى حيله ويخدعنا بتجارب إطلاق صورة الدولة الحديثة قبل قرنين.. لا نستكين لمعسول الكلام حول حقنا فى التجريب واحتمالية الصــواب والخطأ لن يعطينا التقــــــدم الحضارى البشرى المتسارع حولنا أو الحراك الداخلى المنــطلق بقاطرة الشباب فرصة لهذا التــــجريب المزعوم.
الأخطر من الاستكانة التربص القائم والفاعــــــــل من قوى الفاشيست والرجعية المدعومة بمشروع استعمارى هدفه الدولة المصرية ســـــواء فى صوراتها الحديثة أو على أى وجه آخر وعلينا ألا نستسلم لفرح الانتصار فى 30 يونيو، فالعدو يتألم ولكن لم يمت.
فى تلك الأوقات الفارقة فى تاريخ الأمم يبدو الأمر غريبا عندما نلجأ لحكمة علوم الطب ونبتعد عن انتهازية السياسة والسياسيين الــــــذين يستمتعون بخيرات الدولة مادامت قوية ويتاجرون بضعفها فى أسواق المزايدة ولا مانع عندهم  فى تمزيقها وبيعها بالقطعة لو حققوا من وراء ذلك مكسب وضيع.
تقول حكمة علوم الطب أن أصل العرض والمرض السبب عندما نعرف السبب يشفى المرض ويتوقف العرض عن الظهور عندما نبحث عن سببنا نجده فى هذا التلفيق ولا حسم.. الداء العضال الذى أصاب صورة الدولة المصرية الحديثة منذ ظهورها قبل قرنين.
مفتاح الشفاء
مفتاح الشفاء من الداء العضال وصنع صورة جديدة صحيحة من الدولة الحديثة هو السؤال.. وبالتحديد سؤالين:
الأول ماذا نريد من المكون الدينى فى الصورة الجديدة للدولة؟
الثانى كيف نسترد هويتنا المصرية الأصيلة لتأطر الصورة الجديدة للدولة؟
يستلزم السؤالان إجابات مستفيضة لم تعد تحتملهما المساحة الحالية فلنتركهما محلقين حتى نلتقى قريبا.
......................
الاستشهادات بمقولات الشيخ عبد الرحمن الكواكبى من كتاب «الإمام الكواكبى .. فصل الدين عن الدولة» تأليف جان دايه.