السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ماسبيرو.. الفيـــل الــــذى لا يمكنه الرقص!

ماسبيرو.. الفيـــل الــــذى لا يمكنه الرقص!
ماسبيرو.. الفيـــل الــــذى لا يمكنه الرقص!


يشهد اتحاد الإذاعة والتليفزيون الذى نعرفه إعلاميًا وجماهيريًا بماسبيرو معضلة مالية تراكمت على مدار السنوات العشر الأخيرة على الأقل، ذلك المنبر الإعلامى الرسمى الذى أُطلق عليه مؤخرًا (الهيئة الوطنية للإعلام) عقب إنجاز الاستحقاق الدستورى المنصوص عليه فى المواد111، 112 113، بإصدار القانون رقم 92 لسنة 2016 بشأن القانون المؤسسى لتنظيم الإعلام بتأسيس كل من (المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام - الهيئة الوطنية للصحافة - الهيئة الوطنية للإعلام)، كما أن هناك تحولاً ملحوظًا فى رؤية الدولة لماسبيرو خلال السنوات الخمس الماضية، ارتكزت بشكل خاص على مديونيات الهيئة وأعداد العاملين بها التى تربو على 30 ألف إعلامى وإدارى وفنى والتى تزيد بصورة كبيرة عن حاجتها.

يكشف القرار الجمهورى رقم 567 الصادر بتاريخ 18 نوفمبر 2017 بشأن ربط الحساب الختامى للهيئة الوطنية للإعلام عن أرقام وحقائق مجردة بشأن موازنة الهيئة. يشير القرار إلى أن الأجور السنوية للعاملين بالهيئة بقيمة 2.18 مليار جنيه أى حوالى 180 مليون جنيه شهريًا. تبلغ قيمة التكاليف والمصروفات للعام المالى الحالى دون الأجور 5.21 مليار جنيه؛ بإجمالى 7.39 مليار جنيه، بينما لا تتجاوز الإيرادات مبلغ 1.96 مليار جنيه، أى أن الخسائر خلال العام المالى الحالى فقط تبلغ 5.43 مليار جنيه. تتضمن الأرقام الإشارة إلى أن الحساب الختامى للهيئة (يشير لإجمالى المديونيات) تبلغ قيمته 13.43 مليار جنيه!
لا تكاد تمر أزمة أو واقعة تتعلق بالإعلام سواء بسبب تغطية لحدث ما أو واقعة بعينها، أو تطرق رئيس الجمهورية أو أحد المسئولين لسلبيات الممارسة الإعلامية إلا كان ماسبيرو أحد المحاور الرئيسية للجدل فى المجتمع وبالأوساط الإعلامية المختلفة. تصدى الكثيرون من خبراء الشأن الإعلامى والأكاديميين والسادة الصحفيين والإعلاميين لتبرير تواضع مستوى الإعلام بصفة عامة وماسبيرو خاصة، من وجهة نظر قائلة بأن مصر لم تخلُ من الكوادر المؤهلة، ولكن مشكلتها الإدارة الناجحة، كما يرجعون المشكلة للقيود التى تكبل حرية الإعلام سواء القوانين السالبة للحرية أو غياب تشريعات تتيح المجال لتداول المعلومات. لا مناص من الاعتراف بعدم اكتمال منظومة التشريعات الإعلامية وأهمها حق الوصول للمعلومات، إلا أن قانون التنظيم المؤسسى للإعلام صار رهن التطبيق وتم تشكيل الهيئات الإعلامية بالفعل، ويجرى مناقشة مشروع قانون الإعلام الموحد بين البرلمان والحكومة حاليًا. فى الحقيقة، قد لا تكمن المشكلة فى الكوادر المؤهلة أو المنظومة التشريعية فى ظل عدم ثبوت صحة قدرة التشريعات الحالية والمنتظرة أو توافر الكوادر الإعلامية على تحقيق الأداء المرجو من وسائل الإعلام.
غاب عن غالبية المحللين لإشكالية إعلام الدولة أنه يجب التعامل مع القضية على وجهين: الأول أن الإعلام الرسمى للدولة الذى تمثله الهيئة الوطنية للإعلام (اتحاد الإذاعة والتليفزيون سابقًا) يهدف إلى تقديم محتوى إعلامى لخدمة المجتمع بالدرجة الأولى، أى ليس هادفًا للربح فى حد ذاته، وهو ما يعرف لدى المختصين بالمنتج عالى الجودة merit product. الوجه الثاني: أن الهيئة الوطنية للإعلام مؤسسة (ضخمة) بمفهوم علوم إدارة الأعمال، والتى أُفردت لها كتب وأبحاث عديدة لاستعراض استراتيجيات وأساليب إدارية تمكنت من خلق نماذج عالمية ناجحة. يسعى أكثرية المناصرين للتليفزيون والإذاعة الرسميين خاصةً من المنتمين للأجيال التى شهدت تجربة التليفزيون العربى منذ مطلع الستينيات لإثبات القيمة الوطنية لجهاز إعلامى رائد عُرف بتأثيره الطاغى فى عصره الذهبى، إلا أن الخطاب العاطفى المختلط بالشعارات لم يعد محفزًا لجيل من الشباب فقدوا ذلك الرابط منذ سنوات والتى تعلقت خلالها أعينهم بشاشات هواتفهم المحمولة ليطلوا على العالم.
فى كتابه ذائع الصيت (من قال إن الفيلة لا تستطيع الرقص) يستعرض لويس جيرستنر Louis V. Gerstner, Jr.  رئيس مجلس إدارة شركة IBM متعددة الجنسيات الأسبق (أبريل 1993- مارس 2002) تجربته الفريدة لانتشال إحدى شركات التكنولوجيا والبرمجيات فى العالم من شبح الإفلاس، وهى التى يبلغ عدد العاملين بها 414000 شخص. يشير الكتاب الذى يُعد بمثابة مرجعية للدارسين بمجالات (التخطيط الاستراتيجى - التنظيم المؤسسى - تخطيط وإدارة العمليات - تقييم الأداء) إلى أن أبرز القرارات الاستراتيجية التى اتخذها جيرستنر هى عدم تقسيم ذلك الكيان الضخم إلى عدة شركات كما نصحه عدد من الخبراء. أكد جيرستنر أن نجاحه يُعزى إلى تنفيذه عملية جراحية شديدة الصعوبة والقسوة لهيكلة المؤسسة وتمكنه من تعليم ذلك الفيل الرقص!
يضعنا هذا التحليل أمام خيارات محددة لحل أزمة ماسبيرو، أولها أن يوجه خبراؤنا فى الإعلام جهودهم لدراسة نماذج المؤسسات المعروفة بالخدمة الإعلامية الجماهيرية Public ServiceBroadcasting  على غرار مؤسسات الإعلام الألمانى القومية الست (NDR,WDR,RBB,SWR,BR,MDR)  والتى تم تأسيسها وفقًا لطبيعة المناطق الجغرافية الألمانية ذات الثقافات المحلية الخاصة، كما يمكنهم الإفادة أيضًا من تجارب كثيرة أقدمها هيئة الإذاعة البريطانية BBC، فهى نماذج متكاملة ذات إطار تشريعى ومؤسسى بحسب ظروف مجتمعاتها، ومعظمها تحصل على دعم مالى ثابت من الدولة ويشرف عليها البرلمان أو مجالس أو لجان متخصصة، كما يتم تمويل بعضها من خلال المواطنين أنفسهم بدفع مبلغ شهرى عن كل منزل Household يستخدم التلفزيون على غرار النموذج الألمانى.
 خيار آخر يضع الإصلاح المؤسسى وخفض النفقات كأهداف ذات أولوية، الأمر الذى يستتبعه إجراء عملية إعادة هيكلة لجميع قطاعات وادارات وأنشطة الهيئة Business Process Reengineering ووضع خطة زمنية لإنجازها، وهو ما لا يعنى بصورة قاطعة التخلص من العاملين الحاليين بماسبيرو كما يردد غير المتخصصين فى مجال الإدارة. تتطلب عملية الإصلاح الهيكلى وضع عدة مبادئ تتعلق بالأهداف المطلوب تحقيقها، فالمؤسسات الإعلامية لا تختلف عن غيرها فى منهجية التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقييم، كما أن عوامل مثل السرعة فى إنجاز التغيير، وإمكانية إيقاف المؤسسة لفترة ما حتى انتهاء عملية الإصلاح، أو وضع أو تطبيق معايير محددة لجودة الأداء الإدارى والإنتاجى.
الخيار الأخير يتضمن تطبيق منهجية وضوابط الإدارة الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية الخاصة الهادفة للربح، وهى للأسف الشديد تبدو مفقودة فى تحليلات الأكاديميين وممارسى المهنة فى بلدنا. فى معظم الحالات، يصبح من اليسير وضع الأمور فى نصابها الصحيح عندما تدير كيانًا يهدف لتحقيق الربح، فتقييم النجاح والإخفاق ونسبتهما يصير جليًا وفقًا للقيمة المالية المستهدفة. على سبيل المثال، استقر القائمون على إدارة العمليات الإنتاجية على مصطلح سلسلة القيمة Value Chain وهى مجموعة العمليات الفنية التى تبدأ بالحصول على مدخلات الإنتاج Production   Inputs، وهى المواد المطلوب إنتاجها أو شراؤها (المحتوى الجاذب للمشاهدين - المادة الاعلانية)؛ وتنهى بالمخرجات Outputs، وهى توصيل أو توزيع ما تم إنتاجه للجمهور المستهدف (بثها على القناة ذاتها - بثها على وسائط اتصالية أخرى Multimedia - بيعها لوسائل إعلامية أخري). يحتاج تصميم سلاسل القيمة إلى توافر دراسة سوقية جيدة لفئات الجمهور والوكالات الإعلانية وشركات الإنتاج الفنى والإعلامى، ويسبق ذلك وضع نموذج للعمل Business Model يحدد كيفية الحصول على الأرباح الكفيلة بتغطية تكاليف الإنتاج والتشغيل Revenue Streams، فضلاً عن حساب التكاليف الثابتة Fixed Costs  والتكاليف المتغيرة Variable Costs لاتخاذ أفضل القرارات الاستراتيجية لتوفير النفقات.
فى النهاية، ينبغى على صناع القرار حسم خياراتهم وفقًا لرؤية واضحة للهدف من ذاك المبنى الضخم الرابض على أحد أروع الأماكن على ضفاف النيل، ولا مجال لانتظار الأزمة تلو الأخرى لتذكرنا بأن لدينا ماكينة إعلامية هائلة نستخدمها لبث التهنئة بالمناسبات الدينية والوطنية، فى نفس الوقت الذى نبحث فيه عن وسيلة ليصل صوتنا للعالم من حولنا!

المصادر:
?http://www.youm7.com/story/2017/11/20/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%89-%D8%A8%D8%B1%D8%A8%D8%B7-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D8%A6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-2016-2017/3517721
?https://www.ibm.com/developerworks/rational/library/2071.html
?https://en.wikipedia.org/wiki/Public_broadcasting#Germany