الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

في ذكري ميلاده الكاريكاتير بلاغة الصمت وخبز الصباح

في ذكري ميلاده الكاريكاتير بلاغة الصمت وخبز الصباح
في ذكري ميلاده الكاريكاتير بلاغة الصمت وخبز الصباح


نحتفل هذه الأيام بذكرى ميلاد الفنان أحمد طوغان (1926-2014) أول من رسم  الكاريكاتير فى الصحافة المصرية بشكل يومى.. نحتفل بعاشق الحياة، والبسطاء، أبو الكاريكاتير الذى خَلَّد مشاهد مهمة من التاريخ الاجتماعى، والسياسى للحياة فى مصر فى لوحاته التى جمع فيها بين فنون عدة كالتصوير، والبورتريه، والكاريكاتير.
يرسم يوميا بغير انقطاع
 كان ينام وعيناه على الفكرة، ويستيقظ ويده على الفرشاة، كانت متعته الحقيقية  فى عمله فقد سألته ذات حوار :  ماذا يفعل الإنسان لكى يتمم قدره ويصنع  مصيره ؟ فقال لى : (أولا أن يعمل، وثانيا أن يعمل، وثالثا أن يبذل قصارى جهده فيما عمل)
رحلته الصحفية والفنية
 بدأ العمل فى مجلة (الجمهور المصرى)، وكان يرأس تحريرها أبو الخير نجيب، وكان معه محمود السعدنى، وكمال النجمى وفتحى الرملى وعباس الأسوانى، وكان مقر المجلة فى شارع الجيش وكان اسمه شارع فاروق بالعباسية، وتحولت الحجرة رقم 8 فى هذه المجلة إلى خلية وطنية تساعد المقاومة بالسلاح ضد الاحتلال الإنجليزى وكانت المجلة تدافع عن قضايا الوطن.
 وكان طوغان أول من رسم الكاريكاتير فى الصحافة المصرية من خلال عمله بجريدة الأخبار، ورغم أنه لم يستمر فى العمل بها إلا أنه ظل يرسم يوميا بغير انقطاع ما يزيد على الستين عاما حتى أصبح ملمحا رئيسيا فى الصحافة  المصرية، وهو الذى جعل ظهور الكاريكاتير عملا  صحفيا يوميا يخاطب عين القارئ ووجدانه مع خبز الصباح.
 وظهرت رسومه التى اجتذبت المحبين لفن الكاريكاتير على صفحات جريدة (الجمهورية) إذ  دعاه الرئيس السادات عام 1952 للاشتراك فى تأسيس الجريدة قبل صدورها بستة أشهر، وقال لى طوغان : (كنا نجتمع كأصدقاء فى مسكنى بشارع 26 يوليو فى وسط البلد : أنور السادات، وزكريا الحجاوى، وأنور المعداوى، وإحسان عبدالقدوس، وعبدالرحمن الخميسى، ومحمود السعدنى، ويوسف إدريس وألفريد فرج،  ومحمد على ماهر، وعباس الأسوانى، والممثل الشهير محمد رضا، وكنا نلتقى دائما ونناقش كل قضايا المجتمع السياسية والثقافية، والاجتماعية، وعندما حدث العدوان على مصر عام 1967  شكلنا مجموعة للمقاومة بمساندة أنور السادات الذى كان عضوًا فى مجلس قيادة الثورة).
ولقد ظلت القضايا الوطنية والسياسية هما الأهم والأبرز  فى لوحات طوغان  الذى جمعها فى عدة كتب منها : (أيام المجد فى وهران)، و(دور الكاريكاتير فى قضية فلسطين)، و(الريح  الصفراء من البوابة الشرقية - عن الحرب العراقية الإيرانية)..  وكان طوغان قد سافر إلى اليمن لينقل فى لوحاته الصورة الحقيقية عن حرب اليمن، وعن ثورة الجزائر.
 وجمع لوحاته فى كتبه، ومن أشهرها كتابه: (قضايا الشعوب) الذى كتب له مقدمته الرئيس الراحل أنور السادات، وقد صدر الكتاب عن دار التحرير عام 1975
بلاغة الصمت وهتاف الصامتين
 وكان على رأس قضايا الشعوب : قضية حقوق الإنسان وهى القضية الأهم فى فن طوغان بل وفى فن الكاريكاتير بشكل عام فكان يقول (أن حقوق الإنسان تشكل قضية الكاريكاتير الأولى عند كل رساميه فى العالم فمنهم من رسم سطوة الآلة على الإنسان فى عالمنا المعاصر ومن  أشهر اللوحات ما رسمه الفنان اليابانى (سكاى) الذى رسم الآلة وهى تلتهم الإنسان وتعرض بعض رسامى الكاريكاتير إلى قضية الصراع بين المثقف والسلطة فرمز إليها الرسام الكندى (هيريرا) بصراع القلم والعصا).
أما طوغان فقد حصل على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن لوحة رسم فيها سجنا كبيرا كالقفص مكتوبا عليه العالم الثالث، والبوسطجى بيده خطاب مكتوب عليه : الإنسان، ولكن السجان الواقف بالباب يقول له : لا أحد هنا بهذا الاسم)!.
 لقد كان طوغان عاشقا للحرية وفن المقاومة وكان يقول: (الكاريكاتير ليس للهزل والتنكيت وإنما للإسهام فى المقاومة  وفى الأزمات يكون مع الشعراء والأدباء والفنانين فى تنظيف الطريق من الأشواك) لذا ضمت عائلته التى تربطه بها صلات الرسم والقرابة الفنية  فنانى الكاريكاتير فى مصر، والعالم، رخا رسام الكاريكاتير هو كبير العائلة الفنية، وحجازى، ومصطفى حسين رفاق رحلته، وكان الفنان الفلسطينى ناجى العلى، والسوريان خالد جلال وفرزات، واللبنانى حبيب حداد، والأردنى جلال الرفاعى، والبحرينى خالد الهاشمى، والفنان السعودى الوهيبى من اقرب فنانى الكاريكاتير إلى قلبه واتسعت ذائقته الفنية فأحب العديد من اللوحات والخطوط الكاريكاتيرية العالمية.
الكاريكاتير وحقوق الإنسان
 وعن قضايا الإنسان التى صورتها لوحاته قال لى طوغان - فى أحد حواراتى معه - :
 (شغلتنى قضية الإنسان بكل تفاصيلها سواء فى نضاله ضد الاحتلال والاستعمار  أو فى كفاحه ضد الفساد أو فى مقاومته لغول الغلاء والاستغلال، ورغبته فى بناء حياة  أفضل، حقوق الإنسان شغلت فكر رسامى الكاريكاتير  رسومهم التى لم تحمل توقيع من رسموها إلا فى العصور الحديثة، وبالتحديد عقب الحرب العالمية الأولى، الفنان المصرى كان أول من رسم لوحة كاريكاتير، رسمها على ورق البردى قبل الميلاد بعدة قرون كانت لوحة  تمثل طائرا يصعد الشجرة بواسطة سلم !، والفراعنة رسموا لوحات الكاريكاتير على جدران المعابد).
فالكاريكاتير يحقق الانفراج بعدما تضيق الحلقات جميعا، إنه بلاغة الصمت أو كما يصفه طوغان بقوله : (إذا كان الكاريكاتير بلا تعليق يصبح لغة الجميع، وفن الجميع حيث تطل الفكرة العميقة، وتبرق فى نفس اللحظة فى وعى المتلقين)..
فى روزاليوسف
كانت رحلة طوغان الصحفية غنية، فرسم فى (الأخبار)، و(الجمهورية)، و(روزاليوسف)، وكانت السنة التى عمل فيها فى مجلة روزاليوسف علامة بارزة فى إنتاجه الفنى، وعن هذه الفترة قال لى طوغان : (كان زكى طليمات مدير إدارة المجلة، وكانت فاطمة اليوسف تعطينى على الرسمة الواحدة عشرين قرشا، وفى إحدى المرات رسمت مظاهرة فقلت لها ضاحكاً : (هذه المرة.. حاسبينى على الراس !)، كنت أريد عن رسم كل وجه عشرين قرشا!، كانت فاطمة اليوسف تعاملنا كأم، وكانت هذه السنة التى عملت فيها فى مجلة (روزاليوسف) من أجمل أيام حياتى، بعدها عملت فى مجلة (الكاتب)، ومجلة (الملايين).
مع الناس
 لقد لفت الإنتاج الفنى لطوغان أنظار معاصريه من الأدباء والفنانين فانطلقت أقلامهم تصِّور فنه البديع فيصفه الروائى الراحل خيرى شلبى فيقول فى مقدمة كتاب (مع الناس) لطوغان : (إذا كان الاتجاه السياسى قد غلب على رسوم طوغان فالواقع أن رسومه الاجتماعية هى الأغزر، هى الأعمق فى فهم الشخصية المصرية وفهم محنتها الحقيقية).. وعندما سألت طوغان عن المحنة الحقيقية للشخصية المصرية أجابنى بقوله : (أن لا أحد يهتم بها، لا أحد يتولاها علما بأن الشخصية المصرية ينبغى أن تكون محل اهتمام العالم لأن المصرى يملك إمكانيات فكرية وأدبية واجتماعية قلما تتوافر لأحد فالفنان المصرى من أعظم فنانى العالم، والتراث الفكرى والفنى  للشعب المصرى لم يصنع مثله شعب آخر، لو توافر الاهتمام به  سينتج أشياء عظيمة جدا)
مواكبة حركة المجتمع المصرى
(كل لوحة لطوغان هى عمل فنى إذا توقفنا عنده رأيناه يمثل فترة زمنية من تاريخ الواقع المصرى والعربى المعاصر ولذا يشترك أحمد طوغان رسام الكاريكاتير مع نجيب محفوظ فى هذه السمة الفريدة وهى مواكبة حركة المجتمع المصرى) .. هكذا صوَّر لنا خيرى شلبى فى مقدمته لكتاب (مع الناس) لطوغان عالمه الفنى وسمته المميزة والأصيلة وهو الكتاب الذى ضم رسوم ستين عاما من فنه الكاريكاتيرى.
 الحياة اليومية للمصريين
 وأذكر أننى كتبت عن معرضة (ذكريات) والذى عرض بدار الأوبرا عام 2010 على  صفحات صباح الخير، وكانت لوحات هذا المعرض وحده خير سجل فنى لعادات وتقاليد ومشاهد جرت بها الحياة اليومية للمصريين منذ أربعينيات القرن الماضى، وأغلب الظن أنها أصبحت الآن جزءا حميما من الماضى، لكنها ظلت أيضا أطياف خيال مقيم لأيام خوال قد نسميها الحنين، وقد نسميها ذكريات الزمن الجميل وهى تشير إلى ذلك التكوين الخاص للمصريين والذى شكل مزاجهم وحنينهم وأيامهم الحلوة، ذلك التكوين الذى يمتزج فيه الفرح بالدمع، والضحك بالخوف من البكاء، وخشية ما يأتى به الغد من تصاريف القدر، وما يأتى به المأمول من مجهول..
وفى هذا السجل الفنى وحده نطقت لوحاته بأسرار الحياة فى الريف، أجران القمح وأبراج الحمام وشواشى النخل، وملابس الفلاحات بألوانها البهيجة، جهاز العروسة المحمول على عربة يجرها حصان تتقدمها النساء بالزغاريد، وفى لوحاته العديدة (العمدة)، و(القيلولة)، و(زفة المطاهر) صوَّر عالم القرية، وفى لوحاته أيضا رسم عالم  المدينة بأسواقها ومقاهيها، بنسائها ورجالها، وصوَّر ليالى غناء أم كلثوم فرصد مشهدا مهما من الحياة الفنية المصرية فاستطاع أن يؤرخ للحياة المصرية فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى، إضافة إلى فنه الكاريكاتيرى الذى ظل لآخر لحظة تعبيرا حقيقيا عن مشاهد حضارية ثرية، ومعبرا عن عشقه للحياة وللبسطاء فهو القائل : (الحياة فرصة لن تتكرر)..•