الخميس 19 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الفاتنة

الفاتنة
الفاتنة


هالة ساحرة تحيط بها أينما طلَت، تخطو بدلال فى فستان أضفت عليه من الجمال أكثر مما منحها هو، يتراقص قلبى فرحا عند رؤيتها فى كادر دون أن تنطق، شاهدتها فى طفولتى مرارا وبدأت أتعلق بتلك الهانم.. الفاتنة.
لم أكن أدرك معنى كلمة إغراء أو كيف تكون المرأة أيقونة أنوثة، لكنى وقعت فى حب تلك المرأة ودلالها، وتلك الهالة البراقة المحيطة بها مع كل لفتة استحوذت على كل تفكيرى حتى يومنا هذا.
 بالطبع لست وحدى، فمن لم يعشق تلك الفاتنة واعتبرها نموذجا للأنوثة وأيقونة لها، المرأة كما يجب أن تكون، وصف عباس العقاد شخصية سارة «حزمة من الأعصاب تسمى امرأة، استغرقتها الأنوثة فليس فيها إلا الأنوثة» هذا هو الوصف الأدق والأقرب لهند رستم.. استطاعت هند أن تضع نفسها فى منطقة لا يشبهها فيها أحد، تميزت عن جميع فنانات هذا الجيل وحتى من سبقوها، غيرت مفهوم الأنوثة على الشاشة، مزيج مصرى أوروبى أضفى عليها نكهة تختلف عن كل الموجودات على الساحة وقتها، وجعلت كل من جئن بعدها فى اختبار، ومحل للمقارنة خاصة من تم تصنيفهن كنجمات إغراء.
«هنومة».. «شفيقة القبطية».. «نرجس»، شخصيات قدمتها من خلال  81 فيلما قامت ببطولتها، بخلاف مشاركتها فى بعض الأفلام فى بداياتها قبل مرحلة البطولة.
بنت مساعد الحكمدار
 ولدت في 12 نوفمبر 1931، فى حى محرم بيك بالإسكندرية، لأب لواء شرطة حسين مراد رستم، مساعد حكمدار شرطة السكة الحديد، ثم مدير شرطة النقل والمواصلات.. كانت طفلة شقية لدرجة أنها صرحت أكثر من مرة أنها كانت تتمنى أن تكون ولدا تلعب كرة القدم وتلبس أحذية الصبيان، عاشت فى الإسكندرية إلى أن وقع الطلاق بين الأب والأم، وهى فى التاسعة، ليأخذها الأب لتعيش مع والدته فى حى جاردن سيتى، لتلتحق بعدها بالمدرسة الألمانية بباب اللوق ثم مدرسة الفرانسيسكان بشارع الأنتكخانة.
فى أحد حواراتها على صفحات مجلة الكواكب عام 1977 قالت هند عن بدايتها: «كأى فنانة فى بداية حياتى الفنية قبلت كل الأعمال التى عرضت على حتى أحقق لنفسى الانتشار ويعرفنى الجمهور، وبعد أن قطعت هذه المرحلة وحققت الأمل الذى أنشده، كان عليّ أن أدقق الاختيار فى جميع الأعمال التى تُعرض على، فمن غير المعقول بعد هذا التاريخ أن أقبل أدوارا لا تتلاءم مع إمكانياتى وقدراتى الفنية».
الإغراء عايز مجهود
سُئلت أيقونة الإغراء والدلال فى السينما المصرية هند رستم عن مفهموها لهذه الأدوار وكيف ترى هذا اللقب فكانت إجابتها: «الإغراء من أخطر الألوان فى السينما، ويحتاج إلى مجهود كبير، ومن العجيب أننى لم أمثل فى حياتي سوى ستة أفلام فقط تعتمد على الإثارة، ومع ذلك أطلقوا على ملكة الإغراء، فالإغراء ليس مجرد عرى وقبلات وألفاظ بذيئة كما يحدث الآن، بقدر ما يعتمد على الحركة والتعمق فى الشخصية بصدق».
الألقاب التى تفضلها هند رستم؟
تجيب هند: النقاد أطلقوا عليّ «مارلين مونرو الشرق» لاقتراب شكلى من هذه النجمة الراحلة، والفنان محمد عبدالوهاب أطلق عليّ لقب «الهانم» وكان يتعامل معى بأدب واحترام شديدين، لكن هناك ألقابا كثيرة أطلقت عليّ لا أعرف من وراءها (الدلوعة، القطة)، لكن كل هذه الألقاب لم تشغلنى لأن كيانى واهتماماتى موجه نحو تقديم فيلم يعجب الناس.
لقاء العقاد
عُرض على العقاد قائمة بأسماء ألمع نجمات السينما وقتها وطلبوا منه أن يختار واحدة منهن لتحاوره، كانت فكرة جديدة وجريئة، خاصة أن العقاد معروف عنه مواقفه السلبية تجاه المرأة.
وعن هذه التجربة قالت هند: «عندما أخبرونى أن العقاد اختارنى كدت أطير من الفرح، ولكنى فجأة وسط الفرحة التى تغمرنى تذكرت الهول الذى ينتظرنى فكيف أحاور رجلا بهذه الهيبة وفى أى شىء أسأله؟ وماذا سيكون موقفى إذا تطرق الحوار إلى الفكر والفلسفة وهذه الموضوعات الكبيرة التى يبحر فيها العقاد بقلمه وجعلت منه مفكرا موسوعيا لا يقدر على الجلوس والوصول إلى قامته إلا أصحاب القدرات القليلة والثقافية الفذة».. حدث هذا اللقاء فى نهايات عام 1963 وأتذكر وأنا فى طريقى إلى بيت العقاد فى منتصف ديسمبر فكرت فى تلك المواجهة وطرحت على نفسى عدة أسئلة، ولكن رهبتى وخوفى من العقاد دفعانى إلى الطلب من السائق أن يتوقف فقال لى «خير يا فندم»؟
لف وارجع
هكذا وببساطة وعلى بعد أمتار من منزل العقاد فى مصر الجديدة، سألنى السائق وماذا أقول للأستاذ العقاد.. قل له إن هند رستم جاءها مرض مفاجئ أو حتى قل له إنها ماتت، وراح السائق يهدئ من روعى، ويخفف عنى هذا التوتر وما هى إلا دقائق حتى خرجت من السيارة لأفاجأ بالمفكر العملاق نفسه يقف فى انتظارى على باب البيت، وينزل السلالم ليكون فى استقبالى، فبدأت أهدأ واطمئن.. وخرجت من هذا اللقاء التاريخى بعد أن رأيت الفراعنة فى شخص العقاد لأنه بحق يشبههم فى هذا الشموخ العظيم وفيما يتميز به من بساطة وكبرياء.. أتذكر أننى لم أنم ليلة لقاء العقاد خوفا من مواجهة هذا الرجل الذى لم يكن يملك أى سلطة سوى سطوة الفكر وسلطان القلم، وهو خوف لم يتكرر مثلا فى حالة المشير عبدالحكيم عامر مع أن عامر كان صاحب سطوة وسلطة جعلت الكثيرين يصفونه بأنه كان الرئيس رقم 2 فى عهد عبدالناصر.. تحكى هند أن عباس العقاد فى حوارها معه أدرك من أول لحظة عصبيتها وقال لها يا هند إنت بتفكرينى بمى «فيه شبه كبير بينك وبين مى» لكن إنت عصبية وهى كانت هادية.. هذا اللقاء كان فى 12 ديسمبر، كنت انتفض وأشعر أننى صغيرة جدا أمام عملاق كبير، وقفز قلبى من شدة الفرح عندما قال لى أنه معجب بى فى شفيقة القبطية.. العقاد شاهد فيلمى ومعجب بى، ثم قال لى يا هند إنت بتشتغلى بأعصابك زيادة وده خطر عليكى لازم يكون عندك حتة حرفنة تمثيل، يعنى تمثلى بدون ما تحرقى أعصابك.. إحساسى وأنا مع العقاد أننى أمام إنسان قادر وقوى تستطيع أى امرأة أن تعتمد عليه، لأنه يرد عنها كل مخاوفها ويتحمل عنها كل أعبائها وتشعر معه أنها فى أمان.
 الجاذبية فى الرجال أن تشعر المرأة أنها فى حماية رجل كبير نعيش فى ظله وفى ظل قوته وقدرته وكم تمنيت أن أحقق أمنية العقاد وأن أمثل دور «مى».
حسن الإمام
 «مخرج الروائع الذى كان يختار الملابس والإكسسوار الملائمة لكل مشهد، والكومبارس يختارهم على الفرازة مش أى حاجة وخلاص، كان فى دقة وتركيز على الكبيرة والصغيرة، من حوارها لمجلة «نصف الدنيا» عن حسن الإمام:
هذا الاسم يعنى لى الكثير، فهو صاحب الفضل الأول والأخير فى ظهورى وانتشارى وانضمامى إلى صفوف النجوم الأوائل ومش بس أنا، ثلاثة أرباع الممثلين هم صناعة حسن الإمام، وهبه الله حاسة اكتشاف النجوم كما أنعم عليه بأسلوبه المتميز المتفرد فى الإخراج، كان اسمه كفيلا بإنجاح أى فيلم ومن منا لم يتعلم شيئا من حسن الإمام.
يوسف شاهين
عشقت العمل مع يوسف شاهين، مخرج كادرات ومناظر، ولديه رؤية خاصة ويجعل من الكاميرا كائنا يتحدث، مخرج متعب بهدلنى فى باب الحديد، قال لى إن القطار سيهدئ من سرعته عند دخول المحطة وطلب منى أن أقفز من سطح العربة  لسطح عربة أخرى، قلت له «أنت أكيد عيان» أنت فاكرنى هنومة ولا إيه! يوسف كان مجنون سينما وكان يريدنى أن أعمل وأمثل حتى لو كنت بموت.  
هند والدكتور فياض
بعد وفاة والدتها عام 1957 بمرض السرطان انتابت هند حالة اكتئاب شديدة وبعدها بفترة أصيبت بورم، تبين أنه حميد، لكنها توقعت وقتها إصابتها بالسرطان وأنها سوف تلحق بوالدتها، وأصابتها هواجس حول هذا المصير، فنصحها الأطباء بضرورة زيارة طبيب أمراض نساء لمتابعة حالتها فتعرفت على الدكتور «فياض» فتأثرت بهدوئه وقوة شخصيته وتطورت علاقتهما إلى إعجاب ثم زواج، استغنت به هند عن عالم النجومية والشهرة والأضواء.. قالت عنه «برنس حقيقى فى كل شىء، فى أدبه فى أخلاقه، فى أسلوب معاملته مع كل الناس، ده زوجى وحبيبى وابنى وصديقى وسندى فى الدنيا، مش عارفة من غيره كنت هاعمل إيه، الإنسان ده هدية من ربنا».
الاعتزال
لم تصرح أبدا هند رستم أنها ندمت على قرار الاعتزال، بل حرصت فى أكثر من حوار على تأكيد أنها سعيدة بالقرار للتفرغ لزوجها وأسرتها، وأنه أعظم أدوار حياتها وأروعها، وأنها اعتزلت فى الوقت المناسب فى قمة تألقها الفنى خاصة بعد حصولها على جائزة تمثيل رشحت لها فاتن حمامة عن فيلم «أريد حلا»..  وأضافت: «اعتزلت ولم أشعر بالمرارة إطلاقا لأنى مازلت موجودة على الشاشة من خلال عشرات الأفلام التى تُعرض لى، وهى الصورة التى تمنيت تركها فى أذهان الجمهور ليذكرنى بها بدلا أن أترك نفسى للانهيار، من الممكن أن يفقد الفنان عقله ويُجن لو فقد كل هذا النجاح لذا قررت اعتزال الشهرة قبل أن تعتزلنى هى.. شعرت أنه يكفى ما قدمته من جهد وعرق وإرهاق وتوتر، وأنه ينبغى على أن أعيش كبقية البشر لأن حياة الفنان مليئة بالقيود، قيود على كل شىء على الضحك وعلى الحزن وعلى الخروج.. على كل شىء.. تمنيت أن أكسر هذه القيود وأعيش حياة بسيطة آمنة هادئة مستقرة، أنام وقتما أشاء وأستيقظ وقتما أشاء آكل ما لذ وطاب، وأتسوق فى المحلات، أجلس مع ابنتى أذاكر مع حفيدى، حياة عادية مافيش فيها أضواء، والحمد لله أنعم الله على بالإنسان الذى استطاع أن يحقق لى ما تمنيت، مفيش أعظم من الحياة الأسرية بعيدا عن ضغوط العمل، يكفى ضغوط الحياة نفسها.
فى ذكرى ميلادها تحية من قلبى إلى روح الحبيبة «هند رستم».•