السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

‬سيدة الإيموبيليا تنتظر القتل‮ ‬

‬سيدة الإيموبيليا تنتظر القتل‮ ‬
‬سيدة الإيموبيليا تنتظر القتل‮ ‬


أمام عمارة الإيموبيليا توقفت سيارة التاكسى التى أستقلها فى إشارة مرورية بشارع شريف‮.. ‬تأمل السائق الثلاثينى حركة المارة فى ملل‮.. ‬تنبهت إلى صوته الغاضب‮ «‬ياشيخة روحى شوفيلك موتة بدل اللى أنت عملاه‮»‬
اتجهت عيناى ناحية‮ «‬الشيخة‮» ‬التى استفزت السائق‮.. ‬لم أجد إلا سيدة ستينية وقورة وأنيقة فى‮  ‬ملابسها تقف أمام عمارة الإيمـــــــوبيليا‮.. ‬منحتنى ملابسها والخلفية المعمارية كادراً سينمــائياً هـــــــــارباً من أربعينيات أو خمسينيات القرن الماضى‮. ‬

ازداد‮ ‬غضب السائق بلا سبب مفهوم‮ «‬ياولية روحى شوفيلك سجادة صلاة فى آخر أيامك‮.. ‬والله الأشكال دى تستاهل القتل يا عم الحج‮».‬
الحج أمام شارع شريف
فجأة وجدت نفسى شاهدا على تربص بالقتل من سائق لسيدة لا نعرفها نحن الاثنين‮.. ‬وأديت شعيرة الحـــج فى شارع شريف‮.‬
انطلق السائق بسيارته وهو مازال يتوعد السيدة التى لا نعرفها متجاوزا بصوته آيات الذكر الحكيم المنسابة من راديو السيارة سألته بدهشة عن سبب‮ ‬غضبه من هذه السيدة التى لم تفعل شيئا سوى أنها خرجت للشارع مرتدية ملابس محترمة وأنيقة‮.‬
صمت السائق‮.. ‬الإنسان الطبيعى لم يعرف لماذا يريد قتل هذه السيدة‮.. ‬لكن المشوه داخله أنفجر‮ ‬غضبا موجها كما محترما من السباب البذيئ للسيدة ومن تركها من أهلها تخرج إلى الشارع على هذه الشاكلة‮.. ‬أعتقد تلك هى المرة الأولى وأيضا الأخيرة التى يقابل فيها سائق التاكسى سيدة الإيموبيليا واستمر اللقاء ثوان معدودة لم تدر فيه السيدة أن هناك إنسانا آخر لا تعرفه يتمنى لها القتل‮. ‬
طرحت هذه الثوانى المعدودة مئات الأسئلة منها‮.. ‬لماذا تحولت سيدة الإيموبيليا إلى هدف يستحق القتل فى عينى السائق؟ من هو العقل الـــذى صاغ‮ ‬وصنع هذه الثوانى القاتلة؟ الأخطر استهانة السائق بحياة الآخر لدرجة القتل؟‮ ‬
محاورة هذه الأسئلة تلزم تحليل شخصيتى الصراع السيدة والسائق أو المقتول والقاتل‮.‬
سيدة نموذج للإنسان السوى
تعطى سيدة الإيموبيليا نموذجا للإنسان السوى  من وجهة نظرى على الأقل ـ كما رأيتها فى تلك الثوانى،‮ ‬سيدة تهتم بأناقتها ترتدى ملابس تناسب مستواها العمـــــــــرى والاجتماعى تتصرف بعقلانية وفق السلوك العام المنضبط،‮ ‬لم تجنح إلى فعل أمر خارج عن المألوف‮.‬
لا يلفت النموذج السوى عين الإنسان الطبيعى لأنه متسق مع المجتمع‮.. ‬فقط النماذج الشاذة هى ما تأخذ نظره،‮ ‬فلن تتوقف عينى الإنسان الطبيعى أمام آلاف السيارات التى تسير أمامه فى الطريق ينتبه عندما يجد مثلا سيارة ذات مواصفات خاصة وفارهة أو متهالكة تماما وتلوث البيئة‮.‬
يستشعر هنا بوجود أمر خارج عن الخط العام لحركة السير بوصول هذه السيارة وصاحبها أو يتساءل‮: ‬كيف سمحت الدولة بسيارة على هذه الدرجة من الرداءة من السير فى الشارع فيدرك وجود خلل‮.. ‬أما لو استمرت حركة السير فى رتابتها المعتادة فلن يستوقفه شىء‮.‬
تطبيق هذا المنطق على سيدة الإيموبيليا يجعلها ارتكبت فعلا شاذا فى نظر السائق جعله يتمنى زوالها من الحراك العام للمجتمع حتى تستقيم حركته من جديد‮. ‬
تصورى السابق يقول ــ حسب وجهة نظرى ونظر آخرين ــ أنها سيدة طبيعية تماما إذا الخلل جاء من الطرف الثانى أو سائق التاكسى خــلال تلك الثوانى المعدودة التى لمح فيها السيدة واقفة أمامه‮.‬
بالتأكيد لا أمتلك تاريخ حياة هذا الرجل أو أعرفه معرفة شخصية لكن ما فعله يشير لوجود خلل ما فى رؤيته للفعل الطبيعى فى المجتمع ممثلا فى هذه السيدة‮.‬
يبدأ الخلل من التدخل فى شئون الآخرين دون وجه حق بالسلب أو الإيجاب‮.. ‬فالخصوصية المفقودة فى مجتمعنا آفة لم نسع لعلاجهــــــا وهذه إشارة واضحة لعدم احترامنا لمساحة الحرية لكل منا وعدم اهتمامنا بالعلاج‮.‬
تؤدى الخصوصية المفقودة إلى حالة من الانفلات المجتمعى وتعدى كل منا على الآخر ولو بالتلميح أو بالفعل الشائع الذى نعانى منه جميعا وهو التلوث السمعي‮. ‬
احترام الخصوصية!
تستشعر على الفور عندما تذهب إلى بلد متقدم أن أساس هذا التقدم والتطور احترام الخصوصية كحق كامل للمواطن يستعمله فى حمــاية نفسه من التلوث السمعى والبصرى وأيضا ممارسة حرياته الشخصية فى الملبس والتحرك حتى يصل إلى الاعتقاد فيما يراه‮. ‬
خالف السائق هذا المبدأ الإنسانى عندما علق على سيدة الإيموبيليا ويمكن إرجاعه إلى قلة الذوق الشخصى أو عدم انضباط سلوكى،‮ ‬لكن عندما يتمنى لها القتل فهنا نخرج عما هو شخصى إلى ما هو عام فهذه الأمنية المسمومة صنعها فكر تدميرى يسعى للخراب‮.‬
استشهد السائق بعد كم السباب المحترم الذى وجهه للسيدة وأهلها بأقوال مأثورة ومرويات دينية لا أعلم مدى صحتها أو من أين أتى بها تدور كلها حول التزام المرأة بيتها وبقائها خلف ألف ساتر يحميها من الساعين إلى نهشها‮.‬
نزع الفكر التدميري‮ - ‬مجازا هو فكر‮ - ‬الذى لوث دماغ‮ ‬السائق الطابع الإنسانى عن السيدة فلا حزن أو ألم عندما تموت أو تقتل فهى مجرد شيء يجب تدميره ليتطهر المجتمع‮.‬
يرتفع معدل التلوث فى هذه الأدمغة ولا يتوقف عند حد الكراهية بتمنى الموت بل يتجه إلى العنف والإرهاب عندما يرى قتلها‮.. ‬لو امتلك هذا السائق السلطة ثم القدرة على التنفيذ سيحقق‮ ‬غرضه المجنون بيسر وسرعة‮.‬
الوكيل الإلهى الأزمة والحل
يحول هذا التلوث العقلى الآخر الذى يخالفه حتى بالمظهر إلى عـــدو يشيطنه ويعطى لأمثال السائق الحق فى الوصاية على الجميع بصفته الوكيل الإلهي‮.‬
يقسم بمرور الوقت هذا التلوث المجتمع إلى أخيار وأشرار وتوصيف الخير والشرير لا يعود إلى قواعد عقلانية أو قانونية بل إلى رغبـــة الأمير أو المرشد فهو يضع قوالب يسلمها إلى وكلائه دون أدنى تدبر ليأبلسوا الآخر فى كل لحظة‮.‬
تصنيع العدو يعطى لهذا التلوث والمصابين به القدرة على إخضـــاع الآخر عن طريق تحقيره وإدخاله فى دائرة المنبوذين ثم فرض حالـــة ‬من الترهيب على المجتمع بكامله بإخافة الجميع من إدخالهم هذه الدائرة الجهنمية‮.‬
عندما يصل المجتمع إلى هذه النقطة من الخضوع تصبح إدارته أمـــرا يسيرا ويسمح بإنشاء شبكات المصالح الخاصة بهؤلاء الملــوثين وتبدأ لعبة صكوك الغفران بتطهيرك من النبذ والتحقير مقابل ما تدفعه‮.‬
يظن الكثيرون أن الهزيمة السياسية لهذا التيار الظلامى تعنى إنهاء سيطرته على المجتمع‮.. ‬العكس هو الصحيح فابتعاد هذا الظــــــــلام‮ ‬عن كرسى السلطة سيجعله أكثر شراسة تجاه قواعد المجتمع فـــــى محاولة لتعويض ما فقده‮.‬
فى نفس الوقت هذه السيطرة على قواعد المجتمع تعطى للتيار الظلامى مخزونا يسعى لاستخدامه فى ألعابه السياسية وأملا بحلم العودة‮.‬
تغيير هذه الثوانى أو نظرة السائق القاتلة لسيدة الإيموبيليا تسلتزم إرادة حازمة فى تطهير المساحات التى يتحرك فيها هؤلاء الملوثون والوصول إلى مخزونهم الذى يمنحهم الأمل ليتم تفريغه‮.‬
بالتأكيد هذا التغيير ليس سهلا أو هينا لكن هناك ما يمكن فعله لتحقيقه ورسم خريطة واضحة نسير عليها حتى يتم ولهذا حديث آخر‮.. ‬وإلا ستظل سيدة الإيموبيليا تنتظر‮.‬