الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصة جنرالين من فيرجينيا

قصة جنرالين من فيرجينيا
قصة جنرالين من فيرجينيا


قفزت إلى صدارة الشاشات ومانشيتات الصحف الأمريكية والأوروبية خلال الأسبوعين الماضيين مشاهد حية وتغطيات إخبارية لأحداث لم نكن نتوقعها بل نتخيلها أو نحلم بها، نحن قاطنو الشرق الأوسط التعس. هل كان فى الإمكان أن تصور مخيلتك مشهد حشد من الأمريكان الغاضبين يجذبون فى إصرار حبلا ربطوا بآخره تمثالاً لأحد الأساطير القومية الأمريكية فى ولاية نورث كارولينا حتى يسقطوه، وتُسارع سلطات ولايات أخرى بنقل تماثيل لزعماء تاريخيين للجنوب الأمريكى من الميادين الرئيسية! هل يعقل هذا؟ ألا يذكرك بالمشهد الشهير لسقوط تمثال الرئيس العراقى الراحل صدام حسين عقب غزو القوت الأمريكية لبغداد فى ربيع عام 2003.

أثارت سلسلة الحوادث العنصرية المؤسفة التى شهدتها بلدة شارلوتسفيل Charlottesville بولاية فيرجينيا شهية الإعلام المتحفز للهجوم على الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وتصريحاته الملتبسة وموقفه غير الحاسم تجاه المجموعات المتطرفة التى تعتنق أفكار النازيين الجدد وما يسمى باستعلائية العرق الأبيض الذين تسببت مواجهتهم للمظاهرات المناهضة للعنصرية فى مقتل فتاة وجرح آخرين. غاب عن الأذهان فى وسط كل التغطيات والتحليلات للتصاعد «المفاجئ» للأفكار والتيارات المتطرفة إلقاء الضوء على القيم المتناقضة التى تجسدها التماثيل المغضوب عليها فى الذهنية الأمريكية، وهى ليست قاصرة على ولاية فيرجينيا فقط وإنما تمتد لعدة ولايات أخرى كانت تماثيل الجنرال روبرت لى Robert E Lee (1807-1870)  المثير للجدل تعد من معالمها الثقافية البارزة.
من الأمور التى تدعو للفخر لأى جندى محترف كالجنرال روبرت لى تخرجه بمرتبة الشرف ثانياً على فرقته فى أكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، ناهيك عن انتمائه إلى عائلة عريقة هاجرت من إنجلترا خلال القرن السابع عشر إلى المستعمرات الأمريكية، ووالده الملقب بـ«هنرى لايت هورس» ذو التاريخ المشرف فى الجيش الاتحادى الأمريكى وحرب الاستقلال عن التاج البريطانى، رغم أنه لم يترك لورثته مالاً يذكر بعد عدة مغامرات مالية غير ناجحة. يمثل الرجل النموذج المثالى لرجل الحرب المتمرس الذى خاض الحرب الأمريكية المكسيكية الأولى «1846-1848» باقتدار وعاد إلى مسقط رأسه ليدير أملاك والد زوجته الشاسعة والتى ضمت أعداداً غفيرة من المزارعين السود. من المنطقى إذن أن نتوقع إلى أى جانب ينحاز الجنرال لى عقب إعلان ولايات الجنوب انفصالها عن الاتحاد رافضةً إلغاء الرئيس إبراهام لينكولن للرق لتدور رحى الحرب الأهلية 1960-1965. يتولى قيادة القوات الكونفيدرالية بولاية غرب فرجينيا فيحرز القائد العسكرى المخضرم فيحرز عدة انتصارات تؤكد عبقرية غير منكرة فى التكتيكات العسكرية، إلا أنها لا تعفيه من ارتكاب مذابح وحشية ضد السود، حيث ينسب إليه تشكيل المجموعات المعروفة بـالـ«كوكلكس كلان» التى قامت بقتل وتعذيب أعداد من السود خلال الحرب.
لم تمثل الهزيمة التى لحقت بالجيش الكونفيدرالى واستسلامه عام 1965 فرصة للجنرال لى لإعادة النظر فى أفكاره وقناعاته تجاه السود، بل لم يكن حرمانه من حقوقه السياسية بسبب تحريضه ومشاركته فى المذابح والانتهاكات التى شهدتها الحرب الأهلية رادعاً له على التراجع عن مطالبته بعدم إتاحة المجال للسود للتصويت بالانتخابات المحلية بولاية فيرجينيا. يبرر الجنرال لى وجهة نظره بأن تصويت السود الذين حصلوا على حريتهم وحقوق الممارسة السياسية لن يتسم بالحيادية والموضوعية فى الفترة التى تلت الحرب الأهلية مباشرة فى ظل تأثرهم بالظروف التى عايشوها خلال الحرب. رغم محاولته إضفاء الواقعية على رؤيته تلك، إلا أنها فى حقيقة الأمر من قبيل المراوغة السياسية التى تخفى نظرته إلى الناخبين السود، بالإضافة إلى كونها تحمل دلالة واضحة على تجذر الأفكار العنصرية لدى فئة ليست قليلة فى المجتمع الأمريكى، كما أنها تفسر سلوكاً متعنتاً مشابهاً للمسئولين المحليين فى بلدة سيلما Selma  بولاية ألاباما الذين ظلوا يرفضون تسجيل الناخبين السود حتى عام  1965 أى بعد نهاية الحرب الأهلية بقرن كامل، وهو ما دفع المصلح السياسى مارتن لوثر كنج إلى الدعوة إلى المسيرة الشهيرة من بلدة سيلما إلى مدينة مونتجمرى عاصمة الولاية للمطالبة بتفعيل القانون والسماح للسود بالتسجيل والانتخاب.
بعد نحو 70 عاماً من رحيل الجنرال روبرت لى يبزغ نجم جنرال آخر ولد وترعرع فى ولاية الشمس المشرقة كاليفورنيا إلا أن أصول عائلته ترجع إلى ولاية فيرجينيا أيضاً، وهى من ضمن العائلات التى قدمت إلى المستعمرات من أسكتلندا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. تخرج الجنرال ذائع الصيت جورج باتون George S Patton  فى أكاديمية ويست بوينت العسكرية بتفوق كسابقه الجنرال لى. يبلى الجنرال باتون بلاءً حسناً فى الحرب العالمية الأولى كأحد الضباط المتميزين بسلاح المدرعات، إلا أن شهرته كقائد عسكرى جاءت عقب انتصاراته على قوات ألمانيا النازية فى فرنسا ثم اندفاعه إلى عمق الأراضى الألمانية فى زحف مظفر عقب ارتدادها إلى داخل حدودها انتهاء بسقوط الرايخ الثالث واستسلامه عام 1945. يؤكد الجنرال باتون فى مقولاته الشهيرة دائماً على انتمائه لتلك الطبقة من أبناء كبار تجار ومزارعى الجنوب الأمريكى المتدينين الذين ينظرون بعين الواجب والالتزام اللامتناهى تجاه الدفاع عن وطنهم الأم، إلا أنهم لا يخفون نظرتهم الاستعلائية على كل من ليس أنجلوساكسونياً. يستعرض باتون بعفويته المباشرة مواصلة عرق الأنجلوساكسون تولى مسئولية إدارة العالم أمام جمع من السيدات البريطانيات، فتثير تصريحاته حفيظة الروس شركائه فى الحرب فلا يلقى لهم بالاً. تفجر كلماته أزمات متلاحقة عندما يشير بأنه يفضل كتيبة ألمانية بمقدمة جيشه بدلاً من فرقة فرنسية فى مؤخرته! الرجل لا يوارى انطباعاته ولا يخفى قناعاته ولا يستخدم الدبلوماسية على غرار الجنرالات إيزنهاور وماك آرثر ومونتجمرى إلى أن يقضى نحبه بعد حادث مرورى مريب، زعمت التليجراف البريطانية بأنه مدبر لاغتياله بتعليمات من مدير مكتب الخدمات الاستراتيجية OSS» عرف فيما بعد بالمخابرات المركزية الأمريكية «CIA بيلدونافانBill Donavan  ونفذه العميل دوجلاس بازاتا Douglas Bazata.
ما هو المشترك إذن فى قصة الجنرالين؟ إنهما بوضوح نبت طبيعى لمجتمعهما بلا زيف أو تزلف أو قشرة هشة من اللغة الدبلوماسية التى تتسم بها تصريحات المسئولين فى واشنطن، فضلاً عن تلك المحاذير الرقابية والأخلاقية التى تمنع «غير السود» من التفوه بلفظ «زنجى Niger» العنصرى وإلا نصبت له المشانق فى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى. لا يدعى المجتمع الأمريكى أنه لا يعانى من مشاكل عنصرية، بل يحاول أن يعالجها من خلال قوالب إعلامية وسينمائية من آن إلى آخر، إلا أنها حقيقة لا يمكن تجاهلها لم تسفر سنوات التعايش بين مختلف أعراق المجتمع ذوبانها فى أمة واحدة كما تروج الآلة الدعائية الأمريكية الجبارة تلك المشاعر المتأصلة تاريخياً لدى بعض وربما قلة من البيض ليست المشكلة التى تزايدت حدتها خلال السنوات الأخيرة، بل هى التركيبة المجتمعية التى تشهد تفاوتاً ملحوظاً بين أصحاب البشرة الأوروبية الذين كانوا ومازالوا إلى حد ما يمتلكون الثروة والنفوذ ويشكلون النخبة إلا أنهم يشيخون وتتناقص معدلات مواليدهم مثل أبناء عمومتهم على الجانب الآخر من الأطلنطى، وأكثرية من ذوى الأصول الأفريقية واللاتينية والآسيوية ستشكل خلال عام 2020، 86% من سوق العمل الأمريكى. هذا التبدل الديموغرافى أثار -وما زال- قلق البيض خاصة خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما من تحولهم إلى أقلية مما أثمر عن احتشادهم أو من يسمون بالـ White Trash خلف ترامب للفوز بسباق الرئاسة. نسرف كثيراً عندما نظن أن القوة العظمى الأمريكية تدرك تماماً نتائج حالة القلق والتربص العرقى على مجتمعها بعيداً عن الأرقام والإحصاءات، كما نتوقف عند تنبؤات بعضها تحمل قدراً من الخيال عن تحلل الإمبراطورية الأمريكية التى لم يسبقها فى قوتها العسكرية والاقتصادية سوى الإمبراطورية الرومانية. على أية حال لا يزال المستقبل القريب حافلاً بالمفاجآت، فلننتظر وسنرى!•

المصادر:
http://www.history.com/topics/american-civil-war/robert-e-lee
http://hosted.ap.org/dynamic/stories/U/US_CONFEDERATE_MONUMENT_PROTEST_STATUE_TOPPLED_VAOL-?SITE=AP&SECTION=HOME&TEMPLATE=DEFAULT
http://www.independent.co.uk/news/world/americas/charlottesville-robert-e-lee-statue-heather-heyer-murdered-anti-hate-protester-neo-nazi-car-white-a7904876.html
http://www.generalpatton.com/
http://www.history.com/topics/world-war-ii/george-smith-patton
http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/northamerica/usa/3869117/General-George-S.-Patton-was-assassinated-to-silence-his-criticism-of-allied-war-leaders-claims-new-book.html