السبت 17 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ابن النيل

ابن النيل
ابن النيل


ريشة الفنان: شاهندة تعلب
«القروى الساذج الذى أبهرته أضواء المدينة».. تعبير دائماً ما يطلق على أبطال السينما والأدب القادمين من الريف لتسحرهم العاصمة بكل ما تحتويه من انفتاح وتنوع، ولكن فى فيلم «ابن النيل» ليوسف شاهين، تظهر المدينة كشبح يسرق أرواح الناس، بينما تصبح سذاجة أهل الريف هى الملاذ اليوتوبى الذى يبحث عنه كل من أراد أن يحمى روحه من فساد وصخب المدينة.
 
«ابن النيل» هو الفيلم الثانى ليوسف شاهين والذى أخرجه وهو لم يتجاوز الـ24  عاما من عمره، إنتاج عام 1951 وبطولة شكرى سرحان، فاتن حمامة ويحيى شاهين. وعلى الرغم من أن تلك الفترة فى عمر السينما كانت تحتفى بالثقافة الإنجليزية بكل ما بها من مظاهر ثقافية تتجسد فى الأفلام المصرية فى الملابس والموسيقى، ولكن كعادة شاهين - ابن النيل حقاً- فى ميله للمقاومة، جاء الفيلم ليقدس زى الفلاحين وعاداتهم وتراثهم لتصبح هى البطل الذى تحتفى به الكاميرا  وتضىء الصورة عند تجسيده ليتم اختياره فى النهاية للمشاركة فى مهرجان «كان»!
• حكاية ابن النيل
يحكى الفيلم عن «حميدة» الذى يجسده شكرى سرحان، وهو شاب قروى متمرد يشعر بالملل والضجر من حياة الريف الذى لم يعرف غيرها منذ الصغر واعتاد كل تفاصيلها، تقع فى حبه «زبيدة» التى تقوم بدورها فاتن حمامة والتى تحاول أن تجذب انتباهه بلا طائل، حتى يتمكن منه غروره ويعتدى عليها. يجبره أخوه التقيّ يحيى شاهين فى الفيلم على الزواج منها ليتزوجها بالفعل ويعاملها بقسوة حتى ينجب منها ولده وأثناء عملية الولادة تغيب «زبيدة» عن الوعى فيعتقد الجميع أنها ماتت، الأمر الذى لا يتحمله «حميدة» الذى ضاق بكل شىء يخص الريف فيرحل إلى القاهرة، أو كما يسميها «مصر»..وفى القاهرة، يرتاد حميدة إحدى الحانات والتى يقابل فيها «استيفان روستى» صاحب الحانة وتاجر المخدرات، الذى يورطه فى شرب الخمر ويسرق محفظته أثناء غيابه عن الوعى، ليكتشف حميدة سرقته عند استيقاظه ويواجهه وبعد إنكاره للسرقة، يعرض عليه أن يعمل معه حتى يستطيع كسب المال والعيش فى العاصمة. ويعرض عليه أن يعمل معه بدون أن يطلعه على أنه يتاجر فى المخدرات!
يتغير حميدة وتغويه راقصة الكباريه وتتحايل عليه فى الاستمرار فى العمل معهم باسم الحب، حتى يكتشف حميدة فى يوم حقيقة عمله بعد مطاردة الشرطة له ليواجههم ويتدخل فى معركة تنهى حياة أحد أفراد العصابة!
وعندما يشعر حميدة بأنه قاتل، يموت معه بقايا أمله فى الفضيلة. حتى عندما يأتى أخوه بحثاً عنه، يرفض مقابلته خجلاً من أن يعرف حقيقته الآن. يشعر بالنفور من المرأة التى ضحكت عليه، حتى تأتى الشرطة فى يوم وتقبض على العصابة بأكملها وفى يوم المحاكمة، يقول الجميع بأن حميدة هو رئيس العصابة والمدبر الأول لكل تلك العمليات!
لا يستطيع حميدة أن يدافع عن نفسه، ولكن عندما رأى الرجل الذى ظن أنه قتله وهو موجود فى القاعة، يفهم أنهم احتالوا عليه حتى يشعر بأنه مجرم، ويصرخ بأنه «برىء».
• ««الأرض الطيبة عاملة زى الأم الحنونة، اللى تغفر لولدها مهما اتنكر ليها».. يقابله صديقه الأزهرى، الذى يجعله يستوعب معنى الدرس من رحلته، ويقول له بشكل خطابى بالعودة إلى قريته وأهله وإلى مصدر العطاء والتعاون والمحبة وأخلاق أهل القرية الطيبة، ليغسل خطاياه بماء النيل ويرجع صفحة بيضاء كما ولد. ليعود حميدة بعد انتهاء حبسه ليجد النيل قد فاض بأهل القرية، فى إشارة لعدم تحمله الفساد الذى وصل إليه الناس، ويبحث عن أهله وينقذ ابنه من الغرق ويعود إلى أسرته ليبدأ مرحلة أكثر نضجاً ووعياً فى حياته.. كان النيل حاضراً دائماً كرمزية أخلاقية فى الفيلم، وليس مجرد طابع جمالى. فعندما كان يحزن البطل من الحال الذى وصل إليه يذهب إلى النيل، وعندما أراد أن يتطهر البطل من ذنوبه نزل إلى النيل. وحتى كل معانى البطولة والشهامة المرتبطة بأهل الريف كانت مرتبطة بالنيل. فيصبح النيل رابطا أكثر قوة بالمصريين، فهو يذكرهم بهويتهم ووطنيتهم وأصالتهم وتميزهم بالخصال الطيبة المتأصلة فى أرضهم.
وعلى الرغم من أن مخرج الفيلم، يوسف شاهين، هو ابن مدينة الإسكندرية والذى كرس لها العديد من أفلامه ليحكى عنها، ويعتبر ابناً للبحر وتشرب العديد من خصاله مثل الانطلاق والجموح والحرية والبوح. فإنه نجح فى التعبير عن خصال أولاد النيل بجدارة، فعكس أصالتهم ومثابرتهم وقوتهم فى شخصية الأخ الكبير يحيى شاهين، وعكس تدفقهم ورقتهم وشغفهم فى شخصية الزوجة فاتن حمامة، وعكس حنانهم وحبهم غير المشروط فى الأم، وحتى عكس الجانب العميق والمعقد فى شخصية شكرى سرحان.
كان هناك نص شهير يردده المصرى القديم، فى عصر الفراعنة، ورد فى الأدبيات الفرعونية خصوصاً فى كتاب «الخروج إلى النهار» وكان يوزع هذا النص من الأجداد إلى الأحفاد حتى يعلموهم أهم القيم والأخلاق الحميدة التى يجب أن يتبعوها وكانت من بينها: «لم أشِب عاملٍ عند رئيسه، لم أتسبَّب فى تعاسةٍ، لم أترك جائعًا، لم أتسبَّب فى دموعٍ، لم أقتُل، لم أحرِّض على القتل، لم أعذِّب أحدًا، لم ألوِّث ماء النهر».
لا يظهر هذا النص فقط أخلاق المصريين القدامى وإخلاصهم لنشر الخير والسلام والمحبة، ولكن يظهر أيضاً مدى تقديسهم لماء النيل الذين يقسمون على عدم تلويثه، بل الحفاظ عليه والتبرك بسحره وعظمته. •