الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الأرز المحروق..

الأرز المحروق..
الأرز المحروق..


من بين ثمرات الباذنجان والطماطم المتناثرة يظهر وجهها الطفولى، البرىء بتقاطيعه الدقيقة، وبالرغم من اقترابها من سن الأربعين فإن حمرة وجنتيها، والنضارة التى تكسو وجهها المستدير، المشرق، تجعلها تبدو كأنها فى العشرينيات من عمرها مسحة الأناقة واضحة من منديل رأسها المنقط أبيض وأسود، الذى عجز عن حجب شعيراتها الذهبية الناعمة من السقوط على جبهتها، وهو بنفس لون مريلة المطبخ.. صوت الأوانى المزعج عند تصادمها، عند إخراجها من دولاب المطبخ لم يعلو على صوت الست «وعايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان أرجع يا زمان» حبات الأرز المفلفل تتراقص على الزيت الساخن ورائحة التسبيكة فى الحلة الأخرى تعلو معلنةً عن ست بيت درجة أولى.  الأفكار تتزاحم فى رأسها «عايزة أخلص الأكل قبل الولاد ما يرجعوا من المدرسة.. آه.. وأكلم المكوجى عشان ياخد البدلة بعد ما الولد دلق الكركديه على باباه.. البقال اتأخر، ما بعتش ليه اللبن!! علشان ألحق أعملهم أم على اللى طالباها منى ليلى حبيبتى آخر العنقود.. والغسيل عايزة الحق أنشره فى الشمس..» صوت ضرب الجرس المتواصل قطع عليها حديثها مع نفسها.. «أكيد دى العفريتة سلمى، الحفيدة الصغرى لطنط فوزية جارتنا، من ساعة ما سافر باباها ومامتها العمرة وهى قاعدة قدامنا وعملالنا صداع.. عايزة تفضل تلعب مع ليلى بنتى طول النهار فاكراها خدت الاجازة زيها.. ومطلعة عين جدتها أصلها ست طيبة مش زى ماما الله يرحمها، كانت شديدة تبصلى البصة أتجمد فى مكانى، علشان كده ولادها كانوا متدلعين.. لكن أنا مع إنى وحيدة بابا وماما، كنت مش متدلعة وهادية وماشية جنب الحيط.. «كفااااية ضرب جرس أنا جاية.. أيوة يا ست سلمى خير!!!» بشقاوة وعفرتة ردت الطفلة التى لم تتجاوز الخامسة «طنط.. طنط.. عايزة رسمة فانوس رمضان اللى رسمتها مع ليلى امبارح أوريها لخالو هشام» وبدون أن تنتنظر الرد.. أسرعت للداخل بعد أن رمت فى وجهها «القنبلة».. المفاجأه التى سمرتها فى مكانها شعرت ببرودة شديدة فى أطرافها، وكأنها فى عز الشتا رغم أننا فى مايو.. حدثت نفسها» هشام رجع بعد كل السنين دي؟!!!! يااااه دا عُمر..، «فكت المنديل عن رأسها نظرت للمرآة خلف باب الشقة وتحسست وجنتيها وداعبت خصلات شعرها وعادت بالسنوات فى لحظات.
لأحلى سنوات عمرها وذكرياتها  «بابا وماما فى البلكونة بيشربوا الشاى وأنا بسرح شعرى، وببص وأنا فرحانة بنفسى فى نفس المراية دى قبل ما أفتح الباب وأخبط على نانا بنت طنط فوزية عشان نذاكر الإنجليزى سوا.. أصلى ماكنتش شاطرة فيه لكن هى أخوها هشام كان بيذاكرلها ما هو طول عمره ذكى وموهوب، ومع إنه أكبر منا بسنتين بس، لكن الكورسات اللى بياخدها فى إجازة الصيف خلته بيتكلم إنجليزى بطلاقة، ما هو عايز يكمل دراسته برا ويدخل الجامعة عند خاله اللى عايش فى لندن، طول عمره طموح وعارف هو عايز إيه.. عمره ما لعب مع العيال جيرانا كورة فى الشارع.. ولا وقف على الناصية، ولا عمره زوغ من المدرسة كنت أقعد أنا ونانا يشرحلنا وأنا باصة فى عينيه الخضرا الواسعة وأتوه فيها، لا أسمع حاجة ولا أفهم حاجة، وكنت أرجع من عندهم سرحانة وهيمانة، أدخل أوضتى، وأغمض علشان تفضل صورته كأنى حضناها فى عنيا، وكل شوية أقف ورا الستارة من شباك أوضتى اللى شايفة الصالة بتاعتهم، يمكن أعرف أسرق لحظات أشوفه فيها معدى وهو طالع من أوضته للصالة.. صحيح كنت بطلع بملحق فى الإنجليزى.. بس ما كنتش بتضايق لأن دا بيدينى فرصة أروح فى إجازة الصيف بحجة المذاكرة.. وأنا كنت زى القمر وشيك ومع أنه عمره ما قالى حاجة، بس عنيه الحلوة كانت بتقول كل حاجة، ويوم ما خلص ثانوية عامة وقرر يسافر يكمل تعليمه عند خاله.. كنت ساعتها فى أولى ثانوى سلم على وقال لى شدى حيلك وذاكرى عشان تحصلينى.. واعتبرت جملته وعد ليا أننا هنتجمع تانى ودا كان دافع ليا عشان أذاكر فضلت فترة مكتئبة بعد سفره ووحشنى أوى وفضلت أتابع أخباره من نانا أخته ودخلت ثانوية عامة وربنا كرمنى ودخلت كلية الآداب لكن الغريب إنى نسيته!! بعد ما اتجوزت نانا وسافرت دبى، وأنا انشغلت فى الجامعة والمذاكرة واتعرفت على جوزى.. كان معيد عندنا فى الجامعة مؤدب ووسيم، وماترددتش إنى أوافق!! وعشت مع أمى بعد وفاة بابا لأنها مالهاش غيرى.. أول مرة أخد بالى إزاى الواحد ممكن ينسى حبه وحلمه بسهولة كده!؟ ويبقى مجرد طيف ييجى ويروح كل ما أسمع أغنية قديمة، أو أقرأ قصة عن الحب الأول.. خرجت سلمى من خلفها مسرعة لشقتهم ممسكة بالورقة وخرجت هى كالطفلة بعدما خلعت مريلة المطبخ وانطلقت وراءها.. دخلت سلمى لغرفة جدتها أما هى فقد تسللت بهدوء للصالة..«إيه اللى بعمله دا!! أنا حاسة رجعت عيلة.. ياترى هيفتكرنى..؟!! يا ترى شكلى عجز أوى.. تساؤلات ظلت تتردد فى رأسها وأخذ قلبها يخفق بقوة.. هل تعود وتلبس البنطلون الجديد الذى اشتراه لها زوجها فى عيد جوازهم؟؟! هل تحتاج لتضع بعضاً من الماكياج التى اشترته ابنتها ووضعته فى دولابها، وسألت نفسها «هو أنا ليه مش عايشة حياتى وبلبس وأتذوق، ما جوزى بيتحايل عليا وهدومى مالية الدولاب!!
كان لازم يعنى هشام يجى علشان افتكر أنى ست!! لازم أروح ألبس وأوضب نفسى دى أول مرة يشوفنى من سنين!!
خرجت الجدة من الغرفة تمسك، حفيدتها بيد، و «الآى باد» الذى يخص الطفلة فى اليد الأخرى.. عندما وجدتها فى بيتها تهلل وجهها وقالت: «أهلاً أهلاً حبيبتى عاملة إيه وازاى ولادك.. تعالى أقعدى معايا شوية.. أنا أصلى متضايقة أوى، لسه مكلمة هشام ابنى على البتاع دا اللى اسمه...... قاطعتها سلمى «السكايب» يا نَّانَّا.. فردت الجدة، «سلمى العفريتة علمتنى إزاى استخدم البتاع دا وأكلم هشام صوت وصورة.. دا واحشنى أوى مع أنى لسه جاية من عنده ما بقاليش شهر بس وحشنى.. بقنعه يجى مصر وهو مش عايز.. تخيلى ما جاش مصر من أكتر من 25 سنة كل شوية يبعتلى وأسافرله.. عاجبه يا ستى الخواجات وعيشتهم.. طبعاً ما مراته خواجاية.. أنا غلطانة إنى وافقت على الجوازة دى.
تسمرت فى مكانها ولم تنطق.. صاحت فيها الجدة: إيه ريحة الشياط دي؟؟؟ جاية من شقتك ولا إيه؟؟!!! «خرجت تجرى كمن لدغها عقرب مسرعة باتجاه شقتها، والدموع متحجرة فى عينيها.. دخلت المطبخ وجدت الدخان الكثيف ووجدت حبات الأرز وقد تفحمت فى الحلة التى تغير لونها للأسود، ونفس الحال للتسبيكة فى الحلة الأخرى نزلت دموعها وأخذت تصرخ «يا خسارة الرز.. يا خسارة الرز» وغطى صراخها على غناء «الست» فى الراديو «وعايزنا نرجع زى زمان!!».