الثلاثاء 24 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أمرٌ قضائىّ

أمرٌ قضائىّ
أمرٌ قضائىّ


كتبت: سماح الشريف وريشة: أسماء النواوي
«أخدتِ بخت أمك»..
كوخز الضمير آلمت تلك العبارةُ «منى» وهى تجلس متأففة مترقبة مجىء «أيمن» طليقها داخل قاعة فى أحد مراكز الشباب، تنفيذًا لحكم رؤيةٍ قضت به المحكمة. مضى من الوقت الكثير، بصحبة محاميها وطفلتها التى راحت تلهو فى أحد الأركان.
أبغضُ شىء إلى نفسها الانتظار، إنه يعرف ذلك، لهذا تعمَّدَ التلكُّؤَ ليثير أعصابها كما تعود، ثم ينكر ويتهمها بالمبالغة واختلاق المشاحنات.
فكرت أن ترحل، لكن المحامى سبق وساقَ لها العواقب، فى كل مرة تحضر وابنتها، ويمضى الوقت ولا يأتى، فعليها أن تثبت حضورَها، إذ ربما كان ينتوى غدرًا ما، ويجد فى عدم حضورها مبررًا.
رمت ببصرها نحو ابنتها، بدت صغيرةً وضئيلةً، تبدو كملاك فى ثوبها الورديّ المزركش، تشبهها إلى حدٍّ كبير، ذات ملامح دقيقة متناسقة، لا أحد يصدق أنها تزوجت وأنجبت وطُلِّقت.
لسه صغيرة، والنبى حرام!
خدتِ بخت أمك!
أطلقت ضحكة استنكار، من أنفها بالطبع!
لن تكون مثل أمها.
ثم تحولت إلى محاميها الجالس على مقربةٍ منها، فألفتْه يدق الأرض بقدمه بضيق، بدا ضخمَ الجثة، يخط الشيب رأسه، فلم تلبث أن أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، والتوتر يتملكها.
وتاهت فى فضاء القاعة المتهالكة التى تحوى عدة مقاعد بلاستيكية متناثرة، بالكاد وجدا بينها كرسيين يصلحان للجلوس.
ألا يحق لنا أن نواجه أوجاعنا.. فى مكان يتمتَّع بشىء - ولو قليل - من الترف؟! بدلًا من هذا المكان الردىء الكئيب الذى تفوح منه رائحة عطنة، تثير فى النفس التقزز والاكتئاب والذكريات المريرة.
يعيد الماضى نفسه، كانت تذهب للقاء أبيها بأمر من المحكمة، فى مكان يشبه هذا!
ضاقت ملامح وجهها، مرددة بينها وبين نفسها كأنها لافتة تحذير تضعها نصب عينيها: «لن أكون مثل أمى» حادة وقاسية وتنفجر فجأةً بلا مقدمات!
وليل نهار.. تسرد منتحبة مأساتها مع أبيها، وكيف أنها تحملت الأمرَّينِ وأعرضت عن الزواج كى لا تأتيها بزوج أمٍّ.
وبينما «منى» على ذلك.. دنا منها المحامى قائلا:
- اتأخَّر قوى.. أنا ورايا قضايا أهمّ!
اِرْبَدَّ وجهُها من فرْط حنقها، وقالت: هو كدا!
ثم شردت بذهنها، كمنْ يبحث عمّا يدعم شهادته!
وأردفَت غاضبةً:
كلهم كدا..  كلهم زى بعض!
زفر المحامى ساخطًا دون أن يلقى بالا لكلماتها، وألقى نظرةً إلى ساعة يده:
طيب.. أنا هاطلع بَرّا شوية!
ودلف من الباب مسرعًا!
حدثت نفسها:
ماذا ستفعلين الآن؟!  بل دائـمـًا؟!!
نظرت إلى ابنتها بإمعانٍ:
ستصبح أفضلَ حالًا بلا أب!
وهل كنتِ أنتِ كذلك؟! ماذا حققتِ قبل زواجك، وبعد طلاقك؟!
زفرت بصوت مسموع مِلْؤه الحسرة:
لا شىء! تسربتُ من التعليم، وكان عليَّ أن أتزوج لأهرب من سخطٍ لا ينتهى، إلى أول مَن اهتمَّ بى!
ستصبح هبة نسخة جديدة منك!
وهل كنتُ أنا نسخةً من أمى؟!
انتفضت «منى» كمنْ لدغه شىء سام، وهمت تحمل ابنتها وترحل، فلاحت لها العواقب، والمحامى يكيلها لها فى حزم
تبًّا! يأمر ولا يشعر! لنْ يُفيدَ ابنتى لقاءٌ عابر!
اِسألْ مجرب!
لقاء أسبوعى يأتى برجل فى كامل زينته، مبتسمًا ابتسامةً تنُمُّ عن نشوى انتصار أمام غريم بائسٍ، ويبدوان كأنهما عَقَدا اتفاقًا ضمنيًّا، حيث يتباهى هو فى حُلّته المنمقة، وتقذفه طليقته - بين الحين والآخر - كلمةً أو ضحكةً لا معنى لها إلا إعلان عن عدم هزيمتها بَعدُ!
والمُشاهد الوحيد يحظى  بعناق بارد لا روح فيه ولا لهفة!و بعض الحلوى!
كم ودَّتْ لو أنها قفزَت يومًا فى الهواء فرحًا وابتهاجًا بعودته.
لو أنها نامت على حلمٍ بالحلوى والدُّمَى الصغيرة.. ثم استيقظت لتجد مزيدًا من الدمى مُغلفةً بحلاوة ابتسامته!
كم اشتاقت إلى صدره الواسع الحنون، ويديه تحتويانها وتَضُمّانٍها إليه، وأذناها تنصت لخفقات قلبه العطوف، وهى تخبرها أنِ اطمئنّى يا صغيرتى، فأنا هنا!
لو أنها تعلقت فى كفه الرحبة، فى أثناء رحلتهما فى تلك الغابات الأسطورية، وراحت تتقافز فى ثوبها الدائرى الأطراف، وهو يحكى لها قصة المكان والأشياء.
بينما تفترش الأمُّ العشبَ، وتعلو وجهها ابتسامةٌ حانيةٌ، وقد أعدت طعامَ الغداء فى انتظار عودتهما، فيطبع الأب قُبْلةً حانيةً فوق جبينها، وتدنو الطفلة من قلب أمها، وتروى لها ما عرفته من أبيها، وتُمضى النهارَ والأيامَ والسنونَ، فى نزهةٍ عائليةٍ.. تمنَّتْ لو أنها عاشت فيها إلى الأبد، وودَّت لو أنها بقيت طفلةً تشتاقه، ولم تكبر وتعرف أنه لن يأتى، ولن يتجسد فى هيئةِ أحدٍ!
حُكْمُ الرؤية كان عندها بمثابةِ استعراضٍ بين والدَيها، مع بعض فُضولٍ بما صنع بهما الفراق، فحسب!
حتى تزوج الأب، وأمسى لقاؤهم شهريًّا ثم سنويًّا، أو عند الضرورة المُلِحّة!
وجاءَها أيمن وكأنه قد قرأ منذ وقعت عيناه عليها أنها بكْرُ المشاعر، وحافَظَ خوفُها الدفينُ على جسدِها من كل رجُل، رغم ما تبديه من حدة طباعٍ تسلَّل إلى تشقُّقات مشاعرها فى حِرفيّةٍ تامّةٍ، فألْقاها النهَمُ الشديدُ بين ذراعيه، تعلقت به، فأغدق عليها منتشيًا فرِحًا بكونه الأول.
لَمْ تعِ متى تُقال «لا»، لم تنطقها قَطُّ، كانتْ دُميتَه التى تبقى حيثُ وضَعَها! أو بالأحرى كانت له جسدًا بلا رأسٍ.. حتى ملَّ التصاقَها الشديدَ به! وتنازلَتْ أكثر، حتى عدمَت ما تقدمه لتُثير فضوله وشهيَّته، ليبقى!
أصرَّ على الطلاق، قائلًا: «دى علّة فى ضهرى، لازم أتخلَّص منها»!
بعض الأدوار تبقى كأخدود غائرٍ، لا يقوى على مَلْئِه أحدٌ، متى فشل المعهود إليهم فى القيام بها!
انتفضت «منى»، و لمحت المحامى مُقبِلًا، فتصنَّعَت أنها تعتدل فى جلستها، وأخفت الدموع المترقرقة فى مآقيها:
- لسه ما جاش؟! أنا مش فاضى، وقتى من دهب! أنا جيت علشان الست والدتك مريضة، لكن مش هينفع كدا! إحنا نروح على القسم، ونثبت إننا جينا، وهو اللى ما جاش زيّ كل مرة!
رفعت عينيها إليه، وقد حجبت نظّارته الشمسية عينيه، فلم تلبث أن أطرقت فى خشوع، وتحولت إلى ابنتها، نادتْها فلم تجِبْ، إذ شغَلَها طابور من النمل راحَت تعبث بانتظامه!
عادت تنادى بصوت أكثر حِدّةً واختناقًا، وقد أتى التوتر والضيق على أعصابها، وحاصرها رجل القانون بجسده القويِّ البِنية، فحجب عنها نسائم عليلة كانت تتسلل من خلال باب القاعة بين الآن والآخر، فتخفف من كآبةِ المكان ورائحته الكريهة.
فأسرعت جاذبةً ابنتها، وصفعتها على صُدْغِها، فانفجرت الطفلة باكيةً، دوّى صوتُها فى جنبات القاعةِ، مُحْدثًا صدًى لم يصل إلا إلى مسامع بعض العاملين فى المركز، وقليلٍ من الرواد، بعضهم التفت، وكثيرٌ منهم لم يكترث!
بينما هرول المحامى خارج القاعة، ليستقبل مكالمة هاتفية من أحد زبائنه، بعيدًا عن ضجيج الأم وابنتها.•