كابتن غزالى.. غُنا السمسية وريحة الأرض

مي منصور
يا مصر يا ندهتى فى الضيق
وغنوتى ع الريق
عاشقك حقيقى
عاشقك أمل وطريق
ناقشك على زنودى بيارق نصر
مهما تدور الدواير الكل فانى
وانتى اللى باقية يامصر
من السويس الباسلة، وأرضها التى ارتوت بدماء الشهداء حتى شبعت، من رائحة الدم والعزة والكرامة والكبرياء، ومن أرض السمسمية، التى تصدح بمجرد وصولك مدخل المدينة، وتحديداً سمسمية «كابتن غزالى».. جعل منه السوايسة أسطورة شعبية، وآمنوا بكلمته التى تطابقت مع عمله، لأن شعره الثائر خرج من نفس جربت الثورة وكافحت ضد الاستعمار الإنجليزى حين كان فى الثلاثينيات من العمر.
غنى يا سمسمية
لرصاص البندقية
ولكل إيد قوية
حاضنة زنودها المدافع
....
غنى للمدافع
وللى وراها بيدافع
ووصى عبد الشافع
يضرب فى الطلقة مية
هذه الكلمات وغيرها الكثير كان وراءها الملتحف بسماره ونبله العنيد الضارب فى الزمان نيفا وسبعة عقود، المولود فى جنوب مصر، الشاعر والفدائى والرياضى والرسَّام «محمد أحمد غزالى»، الذى يؤكد فى كل حواراته أن أهم هواياته: جمع الأصدقاء والنهى عن البكاء على الأطلال، كان لنا معه هذا الحوار قبل وفاته..
• كيف كانت النشأة والميلاد من أبنود إلى السويس؟
- أسرتى من أقدم الأسر فى السويس فوالدتى من مواليد السويس، فى زمنى كانت تقاليد الأسر، تحتم أن الولد البكر يولد فى بيت أسرة الأم، وهكذا ولدت فى أبنود بمحافظة قنا عام 1928 لكنى نشأت وعشت بمدينة السويس وتخرجت من معهد ليوناردو دافنشى بالقاهرة، وبعدأن عدت إلى السويس عملت موظفًا بوزارة الزراعة، وشاركت فى العديد من الاحتجاجات الطلابية ضد الإنجليز، وانضممت لحركة الفدائيين بمنطقة القناة ضد تواجد قوات الاحتلال البريطانى، فيما أسهمت فى العديد من العمليات الفدائية، واستمررت فى العمل النضالى وسط صفوف المقاومة الشعبية، إلى أن أسست فرقتى «أولاد الأرض» بعد النكسة، وكانت الفرقة تقوم بزيارة المهجرين فى معسكراتهم الجامعية ومؤازرتهم فى محنتهم، ننشد الأغانى الداعمة لهم والمؤكدة بأن النصر لهم والعودة إلى بيوتهم التى هاجروها رغما عنهم.
• كيف واجهت هزيمة 1967؟
- بعد هزيمة 67 سارعت إلى تنظيم المقاومة الشعبية، وأسست فرقة (ولاد الأرض) والتى كانت تسمى فى بادئ الأمر «فرقة البطانية» نظرا لجلوس أعضائها على البطانية فيما هم يغنون، وكنت أكتب الأغانى وألحنها فى كثير من الأحيان، هذا بالإضافة إلى العزف على السمسمية والغناء، وكانت كلماتى تشتعل غضبا ورفضا لواقع الهزيمة، بعد ثورة 52 أصبح ضمن تنظيمات الثورة أمينا للشباب، كنا نؤمن حقا بأن مصر أم الدنيا وأن أى تضحية ليست كثيرة عليها.. وكنا نشعر بأننا نستطيع أن نواجه الدنيا كلها بحبنا لوطننا وإرادتنا الحرة، هزيمة يونيو ذبحت قلوب شعب السويس، وكانت السويس ترتدى السواد حدادا ليس على الشهداء، وإنما على وطن كانت طموحاته تصل إلى السماء، هذا الحزن لم يدفعنى إلى الاستسلام، فالشعر لا يستسلم، ولا يركع، وقررت ألا أمارس النواح واللطم وإنما أؤذن للنصر المقبل وأزرع روح التحدى فى النفوس، كان الفدائيون يجتمعون حولى، فيغنون ويقترحون أفكارا أعبر عنها بالشعر، أما الألحان فهى مزيج من ثقافات هؤلاء مصر كلها التى جمعتها السويس، اخترت اسم ولاد الأرض لهذه الفرقة الوليدة لترسيخ الحميمية التى جمعتنا، كانت تلك هى لحظات تأسيس أغانى المقاومة التى تحولت اليوم إلى جزء من تراث المدينة، أو حسب تعبيره «تحول ولاد الأرض» إلى قصة لا تختلف عن قصة بهية وياسين وسيرة أدهم الشرقاوى»، أثناء الحرب اتجهت إلى التعبير عن واقعنا كمقاومين وسوايسة بالغناء، وفى عام 69 لم تكن هناك وسيلة للترفيه على الناس أو للشد من أزر الجنود أو حتى لنقل المعلومات والبيانات العسكرية سوى الغناء، وعندما كان يأتى رمضان كان غزالى ورفاقه يذهبون إلى التجمعات الأمامية، حيث الجنود البواسل الذين يقفون على الخطوط المواجهة لجحافل العدو الغاشم، ويكون ذلك مصحوبا بوجود شيخ لبث روح الإيمان لدى الجنود، كنا نفتعل المواقف لكى نغنى ونبتهج ونقوى من عزيمة الناس، وكان واضحا فى الشعر أن الناس لديها عزيمة وشفافية وكان الهدف واحدا.
قدم كابتن غزالى من خلال الفرقة أشعارا خلدها التاريخ عن الوطن والمقاومة والهزيمة والمقهورين والفقراء، وكان الفنانون يتهافتون عليه لتقديم أشعارهم لما احتلته الفرقة من مكانة كبيرة، فهى أحد رموز المقاومة الشعبية ومن بين هؤلاء الشعراء «عطية عليان، كامل عيد رمضان» وغنت الفرقة واحدة من أشهر أغانيها «ياريس البحرية» من كلمات كامل عيد رمضان.
كانت تجربة ولاد الأرض مبهرة لعدد كبير من المثقفين المصريين والعرب، فكانوا يتوجهون إلى السويس من أجل مقابلة الشاعر غزالى، فشهدت دكانته الصغيرة التى تعج بالكتب لقاءات مع صلاح جاهين وأمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى وغيرهم، وقال الشاعر محمود درويش عن الفرقة: «عندما سمعت هذه الكلمات شعرت أننى أتحول إلى تلميذ مبتدئ فى مدرسة شعر المقاومة».
والله.... والله.... والله... والله
هترجع تانى لبيتــــــــك ولغيطك يا خال
وها تلقى الرملة خضرة على طول القنال
والله... والله... والله... والله
هترجع تانى لبيتك وبنصرك تتـــــــخايل
وخروجا على المألوف عند تأسيس الفرق الموسيقية الغنائية اختار الكابتن غزالى أعضاء فرقته من رجال المقاومة فى تلك الفترة، أمثال مصطفى أحمد غزالى وضيف محمود خليل ومصطفى محمود حنفى وحافظ أحمد غزالى وعز الدين منسى ورمزى عثمان وشحتة أبو الجدايل وذكى عبدالعظيم، وغريب عبد اللطيف وعلى صبرة (جلويس) وعبده عبدالرازق وفتحى السيد طه، وفرج سيد أحمد وعبدالله حسن خليل، وبعد أربعة أشهر من انطلاق الفرقة تحديدا فى شهر سبتمبر 1967 انضم إلى عضوية الفرقة عدد من شباب السويس وعمال الشركات، كان أشهرهم صلاح عبد الحميد آدم وغريب محمد سالم ومحمد محمد عويضه وإبراهيم حسن بدران ومحمد حسن حسين وعبدالله صقر ومنصور نصارى ومحمد سعد وأبوالسعود أحمد وسعيد الفلسطينى.
لم يفقد الثقة لحظة فى أن لحظة تعمير بلاده ستأتى من بعد نصر مبين، فها هو يصرخ فى جيرانه مانعا إياهم من النظر إلى مشاهد الخراب التى عاشتها السويس فى تلك الفترة، ناصحا إياهم بالتفكير فى سبل تعميرها بعد نصر سيأتى لا محالة، غير أن شعره كشف أن النصر لم يكن كافيا لإطفاء النار المتأججة فى قلبه، فكتب: «تسلموا فوق السفاين زى موج الضى بيشق السدود، تسلموا ع الأرض يا أشجع أسود، شدوا بكره.. من باب الديابة، غيروا يوم الغلابة.. بانتصار».
• ماذا عن خلافك مع عبدالحليم حافظ بالرغم من حبه لك؟
- كان من الطبيعى أن أنقم على الأغانى التى لا تحث على حب الوطن، وتفتقد المقاومة الشعبية، والشعب كان فى أمس الحاجة لمثل تلك الأغانى، حيث انتقدت الإعلام المصرى فى تلك الفترة، وما تبثه الإذاعة المصرية من أغانٍ عاطفية، حتى إننى سخرت من أغنية عبدالحليم حافظ «سواح،
لأ لأ لأ لأ لأ مش ح أغنى للقمر
ولا للشجر
ولا للورد فى غيطانه
ولا نيش سواح
ولا هقول للهوى طوّحنى
طول ما فيكى يا بلدى شبر مستباح
ومن لحظتها نشأ خلاف بينى وبينه ظل بيننا إلى يوم رحيله.
تحدث معى أيضاً عن ثورة يناير، وأبدى غضبه من الشعراء لعدم تواجدهم الفاعل خلال ثورة 25 يناير مؤكدا دور الكلمة فى دفع وحث الشعوب على الانتفاض ضد الظلم والفساد، مشيرا إلى أهمية الشعر السياسى والثورى فى بث روح النضال وكيف كانت تجربة فرقة «ولاد الأرض» ذات آثار إيجابية فى نفوس الجنود والجماهير خلال الحرب.
ويرى غزالى أنه خلال الـ30 عاما الماضية كان هناك نوعية من الشعراء رضيت على نفسها دخول الحظيرة والصمت، خاصة فى عهد فاروق حسنى فتغيب المحرك وبالطبع كانت هناك استفادة متبادلة بين نظام يريد تكميم الأفواه بأى ثمن وشعراء مستفيدين بشكل ما، ومن ثم استكانوا فى كنف النظام.
ولايزال الكابتن غزالى تجربة شعرية وفنية نابضة بالحياة على الرغم من رحيله عن عالمنا فى الثانى من أبريل 2017 عن عمر يناهز 89 عاما، بعد صراع طويل مع المرض، ليبقى أيقونة وعلامة فى تاريخ المقاومة الشعبية بالسويس.
الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، ولكنها كلمة ولحن وطبيب ومهندس وفلاح وسمسمية «كابتن غزالى» التى ستظل بيننا مهما طال الزمن، وبالرغم من رحيله جسداً عن هذه الحياة.•