الأربعاء 23 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكاية على الكوبرى..

حكاية على الكوبرى..
حكاية على الكوبرى..


تخرج وجهها من نافذة الميكروباص الضيقة.. حرارة شهر  أغسطس وأشعة شمسها الحارقة تخترق جبهتها، تتصبب عرقاً، تتمنى أن تغمض عينيها، وتفتحهما فتجد نفسها، قد وصلت البيت لتخلع ملابسها المتعرقة، وتستلقى على سريرها المتهالك، والذى أصبح جنتها بعد شرائها للمروحة.  الأسبوع الماضى بعدما قبضت الجمعية، كان دورها هو الأخير فى القبض، فكل البنات فى المصنع يجهزن لزواجهن وفى نظرهن هى أقلهن احتياجاً للمال وليس وراءها مواعيد أقساط مستعجلة.. «تنهيدة أسخن من حرارة الجو تخرج من صدرها.. لم تستطع كرتونة عم عليش السائق التى يضعها على زجاج السيارة أن تحمى من يجلس بجانبه فى ميكروباص المصنع من ضوء الشمس، صوت ثرثرة المرأة فى السيارة الملاصقة للميكروباص يعلو على صوت الكلاكسات، وباعة الورد والمناديل والسميد على الكوبرى، تزيد من إحساسها بالصداع.. السيارات متراصة فى طوابير متعرجة، لا تتحرك على الكوبرى، رائحة العادم تملأ الجو، وتضاعف من حالة الغضب على وجوه الناس العائدة منهكة من عملها، علا صوت المرأة تشتكى وتحكى بجمل سريعة  غير مفهومة.. بعض الكلمات حول المدير وساعات العمل الإضافية، وصوت خناقة طفلين يخرج من نفس السيارة، أدارت وجها للشباك، وجهها الأسمر التى ذابت عنه  مساحيق التجميل الرخيصة التى تغطى وجهها، ماعدا الكحل الذى سال من عينيها، ويظهرها أكثر سواداً وشحوباً، لتتنفس نسمة قد تمر سهواً من ناحية النيل المستكين تحت الكوبرى، بدا صوت المرأة وولديها أكثر وضوحاً وإزعاجاً، مما جعلها تنظرلهذه العائلة المزعجة.
الزوجة.. بيضاء نحيلة فى أواخر العشرينيات، تغطى خصلات شعرها  البنى القصير معظم وجهها، تلبس قميص أحمر نارى، وتحرك يديها وهى تتحدث بانفعال، الولدان توأم لا يتجاوزان الثالثة من عمرهما، على الكنبة الخلفية يجذبان الموبايل، بجانبها رجل بالتأكيد هو زوجها الذى يتحمل كل هذه الضجة، «ربنا يكون فى عونه.. رغى.. رغى.. «فجأة وقف الكلام فى حلقها وشعرت بأنها باردة كالثلج عندما مال بوجهه للأمام قليلاً ينظر لزوجته فظهر نصف وجهه من وراء يد زوجته التى لا تهدأ من الحركة والانفعال، ثم أرجع ظهره للخلف ثانية، فغاب هذا الوجه وراء اللون الأحمر لبلوزتها، هذه الثوانى كانت كفيلة بأن تتعرف على هذا الوجه الذى تحفظ تقاسيمه وتفاصيله عن ظهر قلب، وكيف لا؟!! وهو هذا الوجه الذى عشقته لسنواتٍ طويلة منذ كانت طفلة كان جارها وكبرا معاً ولكنها ضيعته معقولة!! بعد كل السنين دى أقابله على نفس الكوبرى اللى كنا بنقف عليه نشرب حلابسة!! وقتها كان يسمعنى أحلى كلام فى الحب فشر عبد الحليم «ياااااه.. واحشنى أوى كلامه ونظراته كان بيوعدنى إنه هيفضل دايماً جنبى ومش هيتخلى عنى وعن أمى وإخواتى وهيشتغل ليل نهار عشان إخواتى يكملوا تعليمهم بعد وفاة أبويا» يا ترى اسمنا لسه محفور تحت أسد قصر النيل؟!!! لكن أنا عملت إيه!! مع أول عريس مريش بعته ونسيت كل اللى بينا أو حاولت أنسى.. كان صاحب المعرض اللى بشتغل فيه دخلت مزاجه وعشمنى وافتكرت أنه هيتجوزنى، بحلق دهب وفستانين، وشوية لعب لإخواتى، بعتك يا أول وآخر حب والنتيجة إيه!! إنك طفشت برا البلد، وأنا اتطردت من الشغل أول ما الهانم مراته عرفت.. ماهى صاحبة المال والعز اللى هو عايش فيه.. وخسرت كل حاجة.. وأهم حاجة.. خسرتك).. وبعد أن كانت تتمنى أن يطير الميكروباص فوق العربات لتصل بيتها، أصبحت تتمنى لو ظل لساعات وساعات بالقرب من حبيبها.. إنه لا زال يحب اللون الأبيض فقميصه أبيض ولا يزال يحتفظ بالدبدوب الذى أحضرته له فى عيد الحب إنه على الكنبة الخلفية.. «مؤكد لازلت أحتفظ بمكان فى قلبك».
حاولت أن تمد رأسها للخارج أكثر وترفع وجهها وتنزله لترى وجهه ولكن دون فائدة كانت الزوجة تقف حائلاً.. بدأت السيارات فى التحرك دق قلبها بشدة؛ فهى لاتود أن تتركه  وتفقده ثانيًة.. انطلق هو بسيارته الصغيرة، وأرادت هى أن تفتح الباب وتجرى خلفه فلن يهمها شيء بعد الآن ولن تفقده.. «عم عليش الحق العربية دى.. ولا أقولك أنا هنزل وأشاور له أكيد هيوقف لى.. «أرجوك يا عم عليش» لم ينطق عم عليش وإنما هز رأسه متفهماً وعيناه تنظران لها بشفقة.. «حاضر يا بنتى ماتقلقيش هنحصله» لم يدركه عم عليش السائق، فقد نزلت السيارة من أول منزل للكوبرى، بينما أكمل عليش طريقه على الكوبرى.. «كده ياعم عليش ضيعته.. أختنق صوتها بدموعها:».. أنا كنت خلاص لقيته.. حرام عليك.. كنت هاترمى فى حضنه عشان يسامحنى.. واحكيلوا على الأيام الصعبة اللى شفتها بعد ما سافر.. وعلى المرمطة فى المصنع عشان أكبر أخواتى.. «تعالت همهمات العاملات الراكبات خلفها فى الأتوبيس، واختلفت ردود أفعالهن ما بين شفقة تتجلى فى مصمصة الشفاه وبين تذمر من الزهق.. بينما استمرت هى فى البكاء حتى نامت.. فأمسك عم عليش تليفونه واتصل برقم، ثم تحدث بصوت منخفض.. «ايوا يا أم ريم.. ريم تعبت تانى وقلبت الدنيا، ومصرة إنه هو!! زى كل مرة!!!.. إنت أكيد وقفت الدوا اللى كتبهولها الدكتور.. هاخدها النهارده عند الدكتور تانى يمكن يديها حاجة أقوى تهديها، وجلسات الدكتور متهمليهاش علشان تتقبل حادثة غرقه وتعرف إنه قدر، وتبطل تظلم نفسها، وأن رفضها ليه هو السبب اللى خلاه يسافر على المركب لإيطاليا بطريقة غير شرعية.. وهأحاول أخدلها إجازة كام يوم من المصنع».•