الأربعاء 12 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مات وعنده أمل فى مصر

مات وعنده أمل فى مصر
مات وعنده أمل فى مصر


بقدر السكينة التى كانت تختبئ بين أحضانه، والحياة الهادئة التى عاشها، بقدر الضجيج الذى أحدثه رحيله المفجع، بعد رحلة طويلة، أثرى خلالها الحياة الثقافية والأدبية بعشرات من المؤلفات المترجمة من وإلى العربية، توفى مساء الجمعة الماضى، المترجم الكبير طلعت الشايب، إثر أزمة قلبية، خلال إحدى المحاضرات التى كان يتحدث فيها عن تجربته الشخصية فى عالم الترجمة، بمدينة دمياط.

نشر الكاتب الكبير سمير الفيل، عبر صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعى «الفيس بوك» عن الدقائق الأخيرة فى حياة المترجم المصرى الكبير طلعت الشايب يقول: كنت أول من حضر الندوة التى تعقد فى مدينة دمياط الجديدة مساء أمس الجمعة، حوالى الساعة السابعة وعشر دقائق، وقابلنى فى منتصف الطريق القاص الدكتور فادى طرابولى. صعدنا معا إلى مقر الندوة الذى تحيطه مكتبة عامرة بالكتب، وخريطة العالم، ولوحات عدد من الفنانين التشكيليين المصريين والعرب والعالميين. قابلت الأستاذ طلعت الشايب وتعانقنا.
يضيف الفيل: بدأ توافد أعضاء الصالون، والتقط لنا تلميذه الأستاذ وليد عبدالعزيز عدة صور، جلس الأستاذ طلعت الشايب على مقعد المحاضر وبدأ فى الحديث عن مفهوم الترجمة بشكل سهل وسلس ثم تحدث عن تعليمه فى المنوفية والتحاقه بجامعة الإسكندرية، ومكتبة والده التى احتوت على كتب عظيمة، وتحدث عن معلم المدرسة الابتدائية الذى كان يملأ جنبات مصر ثقافة ومعرفة ونورا.
يتابع: الشايب قال إنه عمل فى بداية حياته معلما بالثانوى ومن تلاميذه فى الإسكندرية الفنان محمود عبدالعزيز والفنان محمد وفيق، كما انتقل إلى العمل فى المنوفية ومن طلابه الشاعر حلمى سالم.. وتحدث عن التحاقه بالجيش واختياره مع نحو 40 خريجا متميزا من كليات الآداب والألسن ليتعلموا الروسية فى 8 أشهر، وقد كان مقررا له السفر إلى موسكو لتحسين اللغة غير أن وزير الحربية محمد فوزى لغى قرار السفر لأنهم تقدموا فى دراستهم. وتناول أسماء القادة المصريين والروس الذين عمل معهم وذكر بالتحديد قيادات سلاح المدرعات ومنها أعظم قادة الجيش، أثناء ذلك شعر بألم فقال: «أنا حاسس بشوية تعب». أمسك صدره لثوان ثم سقط مغشيا عليه.
كان يوجد بالندوة ثلاثة أطباء كبار، هم: الدكتور عيد صالح والدكتور ماهر القشاوى والدكتور أسامة خضر. على مدار عشر دقائق قاموا بعمليات الإسعافات الأولية ريثما تأتى سيارة الإسعاف. نقله الإسعاف إلى مستشفى دار الحياة وبدأ طبيبان وثلاث ممرضات محاولة إسعافه، ولكن بعد جهود استمرت نحو 15 دقيقة فارق الحياة. اتصلت بعدد من الأصدقاء لأبلغهم بالخبر: عزت القمحاوى، سيد محمود، وحيد الطويلة، شعبان يوسف، سيد الوكيل، فالراحل مثقف مصرى كبير وعطاؤه وفير.
اتصل الأستاذ وليد عبدالعزيز بابن شقيقه الأستاذ مرسى الشايب كما اتصل بابنته الأستاذة منى، وكان السؤال: هل تتحرك السيارة على المنوفية أم إلى القاهرة؟ جاء القرار بالتحرك إلى مدينة نصر، وبعد الحصول على الأوراق الرسمية صعد شادى التوارجى ووليد عبدالعزيز وأشرف سعد علوش وعدد من شباب الندوة لمرافقة الجثمان.
يختتم الفيل حديثه بالقول: «مازالت الجملة التى نطق بها تتردد فى المكان: أنا لسه عندى أمل فى مصر».
وقال الدكتور عيد صالح «أحد الأطباء الذين حضروا الندوة»: لا أكاد أصدق ما إن نلتقى بعد طول غياب لنستعيد ما انقطع من حكايات ونتعاتب على ما ليس بأيدينا من بعاد فرضته ظروف الحياة حتى تمتد يد الموت خلسة وتستل روحه فى صمت وذهول، وآه يالوعة القلب، حين تعجز عن أن توقف أو تؤخر الروح التى تتسحب فى وداعة وإصرار، وكأنها جاءت فقط بعد غياب السنين، لتودعنا فى ابتسامة خجلى، كما لو كانت تعتذر عن فراق موجع أليم.. وهكذ ببساطة ودون فذلكة أو تفاسير، هذا الذى كان يعطينا الأمل فرحا بجمعنا مبتهجا بإصرارنا على قهر الكآبة والحزن المقيم.
جاء طلعت الشايب كالمعلمين العظام ليقول لنا عليكم بالحب لتقهروا الدمامة والغطرسة والأحقاد.
كما كتبت الشاعرة ندا ناصر فى يوم الرحيل تقول «رأيت أحدهم اليوم لأول مرة لمدة ساعة واحدة تقريباً».
ثم احتُضر أمامى وأمام الجميع وسط ذهولنا وارتجاف قلوبنا، وهو يتحدث عن مشواره الطويل فى الترجمة ورحلة عطائه وآخر ما ذكره هو مكتبة أبيه التى تربى عليها وكانت بداية طريقه نحو الاطلاع والتحصيل.
هكذا هى الحياة..
أما سالى عادل وهى إحدى المثقفات التى حرصت على حضور الندوة الأخيرة للمثقف والمترجم الكبير طلعت الشايب وكانت تعرفه من ترجماته وكتبه ولكنها المرة الأولى التى تلتقيه فيها ولا تعلم أنها كانت الأخيرة كتبت عقب الندوة تقول: تعرفت عليه اليوم فقط. كان ضيفا خفيفا ضحوكا. أول سلام بيننا وقف ليمد يده لى بالتحية، وهوالرجل المسن، وأنا الشابة الصغيرة. قلت له: «أقعد حضرتك، خليك مرتاح. لكن فى الحقيقة أنه أوجع قلوبنا جميعا بفراقه الأبدى».
كان يتحدث ليعطينا الأمل والنشاط لمواجهة الحياة، ويستبشر أن الآتى أفضل. رحل وهو فى قمة تألقه، وكان يتحدث بكل دقة ورصانة حتى إن قال: «أنا بس تعبت شوية»، ولم نشعر بعدها ولم نفهم، حتى انتقل إلى المستشفى وقالوا: البقاء لله. فى دقائق.. فى هدوء.. وسط محبيه.. وسط كتبه. أمامه نظارته وأوراقه، كل هذا فى دقائق.
مع السلامة يا أستاذ يا جميل.. لقنتنا درسا جميعا لن ننساه، ولن نلهو عنه بسبب ضغوط الحياة.. «إن الإنسان على لحظة».
نجح قلب الشايب الذكى فى اختيار محطة النهاية بين الأصدقاء والكتب والموسيقى والأرواح والقلوب الجميلة عرف أن يختار آخر مكان تشاهده عينه ويودع من خلاله هذه الدنيا وينطلق إلى عالمه الآخر.
بينما كتبت إحدى تلميذاته «كارمن التوارجى» فى وداع أستاذها تقول: «حبوا بنيكم.. حبوا ذويكم.. حبوا الأصدقاء والرفاق.. وليكن فى كل يوم صديق جديد.. اغمروا الأحبة بفيض من مشاعر قبل أن يتوقف كل شىء.. غمضة عين! من كان اليوم بيننا ضاحكاً مازحاً يشجعنا على التفاؤل ويشد على أيدينا لنواصل الحياة.. قال فجأة: «أنا تعبت يا جماعة» وأغمض عينيه.. واستغرق فى نوم أبدى!.. كان كصديق عرفناه منذ أبد الأبدين.. ورحل وترك لنا ذهولاً وصدمة.. ومحبة وسلاما! رحل وسط عالم من الكتب والمحبين والفخورين والناظرين إليه إعجاباً واطمئناناً.. نظر إلى المحيط وإلى أيدى الأطباء الأصدقاء الذين حاولوا إسعافه وإفاقته وإلى الذين حملوه على الأعناق إلى المستشفى.. ورحل إلى اللانهائى الممتد خلف كل المحيطات. مع السلامة يا أستاذ طلعت الشايب، وسلم على كل الأحبة.
قدم الكاتب الكبير والمترجم طلعت الشايب العديد من الترجمات المهمة منها:
كتاب «صدام الحضارات»:
هو من أهم المؤلفات فى العصر الحديث، التى ألفها صمويل هنتنجتون، وترجمها الراحل طلعت الشايب، ويتحدث عما قد يدور فى العالم بعد الحرب الباردة، وأن صراع الثقافات هو من سيتحكم فى إعادة صنع النظام العالمى وليس الصراع السياسى أو صراع القوميات.
وكتاب «حدود حرية التعبير»
أحد مؤلفات الأديبة السويدية مارينا ستاج، التى تتحدث فيه عن تجربة كتاب القصة والرواية فى مصر خلال حكم الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر، ومحمد أنور السادات، وما واجهوه من تضييق خلال تلك الفترة، وقد ترجمه «الشايب» عام 1995، لدار شرقيات للنشر والتوزيع.
وأصوات الضمير
وهو 50 قصيدة ترجمها طلعت الشايب، بشكل بديع من ديوان الشعر العالمى، وتدور معظمها حول مواجهة العنف والإرهاب والاستغلال والاضطهاد والقمع، سواء كان ذلك من قبل أفراد أو جماعات أو دول بأكملها.
وكتاب «مكتوب»
كتبه الروائى والأديب البرازيلى باولو كويلو، عام 1994، وترجمه «الشايب» لدار ميريت، عام 2002،  وهو مجموعة من المقالات التى كتبها «كويلو».
ورواية «عاريا أمام الآلهة»
ترجمة لإحدى روايات الشاعر والروائى الهندى شيف كومار، التى مزج فيها بين طقوس الموت ومحارق الجثث، وحلم الخلود والأبدية فى العالم الآخر، والحديث عن بعض العادات الهندوسية.
وكتاب «نحو فهم للعولمة الثقافية»
صدر ترجمته عن المركز القومى للترجمة بالقاهرة، وهو تأليف الكاتب بول هوبر، ويحاول من خلال فصوله السبعة، فهم العولمة الثقافية والنقاط الجدالية الدائرة حولها.
ورواية «فتاة عادية»
من أهم وأشهر الروايات التى ألفها الروائى والكاتب الأمريكى آرثر ميلر، لدار «دال» السورية.
وكتاب «الاستشراق الأمريكى»
من الكتب المهمة التى يراها عدد كبير من المثقفين كاشفة ومخيفة، وكتاب «من الذى دفع للزمار». •