الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

المستشار الدكتور محمد خفاجى: القانون الجديد يسبب الفتنة داخل الأسـرة القضائيـة!

المستشار الدكتور  محمد خفاجى:  القانون الجديد  يسبب الفتنة داخل الأسـرة القضائيـة!
المستشار الدكتور محمد خفاجى: القانون الجديد يسبب الفتنة داخل الأسـرة القضائيـة!


فى ظل الصدام المحتدم بين السلطتين التشريعية والقضائية حول اختيار رؤساء الجهات والهيئات القضائية .. كان لابد من إعلاء  صوت علم القانون والدستور للفصل بينهما، وهو ما وجدناه فى هذا البحث الذى أعده المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة القضاء الإدارى -الدائرة الأولى - بحيرة سابقا، فى العدد السابق نشرنا الجزء الأول من البحث الهمم وإليكم الجزء الثانى.

• المبحث الرابع
سلب القضاة إرادتهم فى اختيار رؤسائهم جريمة قوامها التدخل فى شئون العدالة للانتقاص من إرادتهم تدور رحاها حول النوازع المدبرة والخداع قوامها ذكر مجلس النواب تعقيباً على مشروع قانونه أنه غير ملزم دستوريا ًبما ينتهى إليه رأى الجهات والهيئات القضائية دون إلزامه بالموافقة عليها، وأن مطالبة القضاة بمعيار الأقدمية على خلاف مشروع القانون هو إهدار بمبدأ الفصل بين السلطات وتدخل فى صميم عمل البرلمان وهو ما يحتاج إلى وضع هذا القول فى الميزان الدستورى ليبين مدى رجحانه أو إخفاقه، وهل ثقلت موازينه فينعم رجال العدل  بعيشة راضية أم خفت موازينه فيلقى بالعدالة فى الهاوية، وما أدراك ما هيه فى طريق الصراط  نار حامية.
فلا  يجب على السلطة التشريعية أن تعزل السلطة القضائية عن نفسها فى اختيار من يمثلها بما  تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما يرونه القضاة عدلاً وحقاً قصدوا إليه الأقدمية معياراً مجردا.
وما يجهله مجلس النواب أنه فى ظل النظام القضائى لا يجوز أن يكون المرءوس رئيساً لرئيسه، فهذه النصوص انهدام لعراقة القضاء وتجريده من أقدميته وهى عزته وشرفه وسمعته التى عاش بها جيلاً بعد جيل تحاكى بهم مصر من بين الأمم، ومن ثم ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفاً على ماهيتها، مازال أمراً عسراً، إلا أن معناها - وبوصفها الركن الركين لشرعية نظام الحكم يجب أن تنبع من إرادتهم المستقلة التى حرص الدستور على حمايتها والتصون لها، ويكون مشروع القانون فى هذا الصدد إذ يسلب القضاة إرادتهم فى الاختيار  جريمة قوامها التدخل فى شئون العدالة للانتقاص من إرادتهم - تدور رحاها وفقاً لتلك النصوص  بوجه عام حول النوازع المدبرة malice aforethought أو تلك التى يكون الخداع قوامها fraudulent intent أو التى تتمخص عن علم بالتأثيم فى صيغة التنظيم ،- بالنظر إلى أن التدخل فى شئون العدالة جريمة -  مقترناً بقصد اقتحام حدود إرادة القضاة ، لتدل جميعها على إرادة إتيان فعل بغياً ولا يتصور بالتالى وفقاً لأحكام الدستور انتزاع استقلالهم عدواناً.
ولا يغيبن عن البال ، أن مشروع القانون المتقدم سيثير فتنة داخل الأسرة القضائية الواحدة ، إذ ما هو المعيار المنضبط لهذا الاختيار إلا للولاء لإرادة من اختاره لأن القضاة هم أيضاً ينتمون للطبيعية الكامنة فى النفس البشرية، الغائرة فى أعماقها، التى لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق فى تنظيمها عن طريق قضاتها فى جمعياتهم العمومية، وبدون ذلك  تفرض على هذه الحرية - بطريق مباشر أو غير مباشر - أخطر القيود وأبلغها أثراً بمشروعيتها الدستورية. وهو ما يقتضى أن تكون طريقة اختيار رؤساء تلك الجهات والهيئات القضائية محددة بصورة يقينية لا التباس فيها. ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كى يدفعوا عن حقهم فى خبرة السنين التى تراكمت خلف ظهورهم فانحنت تقديساً لتراب هذا الوطن،  وتلك الهامات والقامات قد عملت فى محراب عدالته سنين عدداً فحق ألا يرى مرءوسيهم  بهم شيئاً نكراً، ذلك أنه من المقرر أن مبدأ استقلال القضاء بات من أعز حقوق الإنسان وأعلاها لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، ومن ثم كان أمراً مقضياً، أن تصاغ النصوص التشريعية المنظمة للسلطة القضائية  بما يحول دون المساس بها أو تباين الآراء حول الانتقاص منها.
• المبحث الخامس
رئيس الجمهورية فى الدستور الجديد لم يعد حكماً بين السلطات ولم يعد يرأس المجلس الأعلى للقضاء وذلك له دلالته الدستورية فكيف يختار رؤساءه؟
 تضمن دستور 1971 نصاً فى المادة (73) منه بأن رئيس الجمهورية  يرعى الحدود بين السلطات لضمان تأدية دورها  فى العمل الوطنى، ولم يعد ذلك النص قائماً فى دستور 2014 أى لم يعد رئيس الجمهورية الحكم بين السلطات الثلاث بعد أن حدد لكل سلطة حدودها وأُطرها واختصاصاتها، وبذلك لم يعد هناك فى مصر دستورياً من له سلطة حل الخلافات التى قد تنشب بين «سلطات الدولة» سوى القضاء ذاته الضمان الوحيد للعدل والانصاف بالقسط، كما أن دستور 1971 قد نص فى مادته (173) على أن تقوم كل هيئة قضائية على شئونها ويشكل مجلس يضم رؤساء الهيئات القضائية يرأسه رئيس الجمهورية ويرعى شئونها المشتركة، ويبين القانون تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل به  وهذا النص بدوره إلغاه  دستور 2014، إذ جاءت المادة (188) منه خالية من رئاسة المجلس الأعلى للقضاء من رئيس الجمهورية  وهذا أمر له دلالته الدستورية فى عميق الفكر الدستورى  بغل يد الرئيس عن التدخل فى شئون العدالة بمعناها الواسع وليس بصدد قضايا معينة  وكلتاهما باتت جريمة بنص المادة (184) من الدستور الحالى  لا تسقط بالتقادم، وما يسرى على الرئيس كسلطة تنفيذية بشأن هاتين الجريمتين يسرى من باب أولى على السلطة التشريعية حينما تقدم على تشريع ينال أو ينتقص من شئون العدالة، ولا مرية أن إلغاء دور رئيس الجمهورية فى هذين النصين الدستوريين وعدم اعتراف المشرع الدستورى بهما بخلو الدستور القائم منهما- لم تكن سدى- وإنما جاءت تعبيراً عن إرادة الشعب المصرى بعد ثورتيه  فى 25 يناير 2011 و30 يونيه 2013 عانى منها الشعب من اعتداء السلطة التنفيذية على السلطة القضائية فى عهود زمنية مضت، فجاء الدستور الجديد ليضع حداً لتغول السلطتين التنفيذية والتشريعية على مبدأ استقلال القضاء التى أرستها جميع الدساتير ومنها الدستور الحالى.
• المبحث السادس
مجلس النواب يطبق الدستور بمعيارين، الأول فيما يخصه باختيار رئيسه والثانى إهداره عشرة نصوص دستورية عن استقلال القضاء فى اختيار رؤسائه.
وإذا كان مجلس النواب يتشدق بالتمسك بأنه من اختصاصه الدستورى إصدار قانون يبين طريقة اختيار رؤساء الجهات والهيئات القضائية على النحو الذى يخضع لهم دون الاعتداد باعتراض  تلك الجهات  تأسيساً على «أن البرلمان عندما يباشر سلطة التشريع فهو بذلك ينفذ التزاماً باختصاص أصيل احتجزه الدستور له بغير تعقيد أو منازعة من غير سلطة أخرى بالدولة وهو لا يتصور - من وجهة نظره- أن تكون تلك الممارسة محل جدل أو أن تكون عنواناً لتغول سلطة أخرى»، ومطالبة القضاة بغل يد مجلس النواب فى ممارسة اختصاصه الدستورى فى سن التشريع إهدار لمبدأ الفصل بين السلطات على حد قوله، والحق أن هذا ما أعلنه مجلس النواب هو الذى ينال من مبدأ الفصل بين السلطات ويخل بالتوازن والتعادل بينها، ويقوض دعائم شرعية الحكم فى البلاد، فمن بين مفاهيم مبدأ الفصل بين السلطات حقيقة لا شعاراً ألا تطغى سلطة على أخرى أثناء ممارسة اختصاصاتها الدستورية، كما أن العصر الحديث انتهى إلى أن الفصل بين السلطات يجب أن يكون فصلاً مرناً بالتعاون فيما بينها وليس فصلاً جامداً، وهذا التعاون يكون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، لأن السلطة القضائية  بطبيعتها مستقلة، ويجب ألا تكون فى ميدان التعاون بحكم ولايتها وإنما تكون على القمة فى التوازن مع باقى السلطات، فكيف يشرع مجلس النواب لاستقلاله هو ثم يمس استقلال السلطة القضائية!.
والأسوأ مما تقدم ، أن مجلس النواب قنن لنفسه أيضاً أنه يحقق علم رئيس الجمهورية  باختيار رئيسه بمجرد الاخطار فقد نصت المادة (13) على أنه: يخطر رئيس المجلس رئيس الجمهورية بتشكيل مكتب المجلس، فور إعلان انتخابه» وذلك فى الوقت الذى يقنن مجلس النواب  لرئيس الجمهورية سلطة اختيار رؤساء السلطة القضائية، فأين أنتم من توازن السلطات؟ وأين لديكم تعادل السلطات، وقد أهدرتم مبدأ الفصل بين السلطات فى معاناه  وأدميتموه فى فحواه بمشروع ينزف دماً  فى مغزاه،  وخالفتم ما هو مستقر عليه فى كافة دساتير العالم.
• المبحث السابع
بالرجوع إلى النصوص المعدلة لطريقة اختيار الجهات والهيئات القضائية تبين الاَتى:
جاء التعديل الأول أن يستبدل بنص المادة 35 من قانون هيئة النيابة الإدارية، بأن يعين رئيس هيئة النيابة الإدارية بقرار من رئيس الجمهورية من بين ثلاثة من نوابه، يرشحهم المجلس الأعلى للهيئة من بين أقدم سبعة نواب رئيس الهيئة، وذلك لمدة 4سنوات أو المدة الباقية، حتى بلوغه سن التقاعد أيهما أقرب ولمرة واحدة طوال مدة عمله. ويجب إبلاغ رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين قبل نهاية مدة رئيس الهيئة بستين يوما على الأقل، وفى حالة عدم تسمية المرشحين قبل انتهاء الأجل المذكور فى الفقرة السابقة، أو ترشيح عدد يقل عن ثلاثة، أو ترشيح من لا تنطبق عليه الضوابط المذكورة فى الفقرة الأولى يعين رئيس الجمهورية، رئيس الهيئة من بين أقدم سبعة من نواب رئيس الهيئة.
وجاء نص التعديل الثانى فى أن يستبدل بنص الفقرة الثانية من المادة 16 من قانون هيئة قضايا الدولة، أن يعين رئيس الهيئة بقرار من رئيس الجمهورية من بين ثلاثه من نوابه يرشحهم المجلس الأعلى للهيئة من بين أقدم سبعة من نواب رئيس الهيئة، وذلك لمدة 4 سنوات أو المدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد أيهما أقرب ولمرة واحدة طوال مدة عمله، ويجب إبلاغ رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين قبل نهاية مدة رئيس الهيئة بستين يوما على الأقل. وفى حالة عدم تسمية المرشحين قبل انتهاء الأجل المذكورفى الفقرة السابقة، أو ترشح عدد يقل عن ثلاثة، أو ترشيح من لا تنطبق عليه الضوابط المذكورة فى الفقرة الثانية، يعين رئيس الجمهورية رئيس الهيئة من بين أقدم سبعة من نواب رئيس الهيئة.
وجاء التعديل الثالث أن يستبدل بنص الفقرة الثانية من المادة 44 من قانون السلطة القضائية بأن يعين رئيس محكمة النقض بقرار من رئيس الجمهورية من بين 3 من نوابه يرشحهم مجلس القضاء الأعلى، من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المحكمة، وذلك لمدة 4 سنوات أو المدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد أيهما أقرب ولمرة واحدة طوال مدة عمله، ويجب إبلاغ رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين قبل نهاية مدة رئيس المحكمة بستين يوما على الأٌقل، وفى حالة عدم تسمية المرشحين قبل انتهاء الأجل المذكور فى الفقرة السابق، أو ترشيح عدد يقل عن ثلاثة أو ترشح من لا تنطبق عليه الضوابط المذكورة فى الفقرة الثانية، يعين رئيس الجمهورية رئيس المحكمة من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المحكمة.
وجاء التعديل الرابع أن يتم استبدال نص الفقرة الأولى من المادة 83 من قانون مجلس الدولة فى أن «يعين رئيس مجلس الدولة بقرار من رئيس الجمهورية من بين 3 من نوابه، ترشحهم الجمعية العمومية الخاصة بمجلس الدولة، من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المجلس، وذلك لمدة أربع سنوات أو المدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد أيهما أقرب ولمرة واحدة طوال مدة عمله، ويجب إبلاغ رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين قبل نهاية مدة رئيس المجلس بستين يوما على الأقل. وفى حالة عدم تسمية المرشحين قبل انتهاء الأجل المذكور فى الفقرة السابقة، أو ترشيح عدد يقل عن ثلاثة ـ أو ترشح من لا تنطبق عليه الضوابط المذكورة فى الفقرة الأولى يعين رئيس الجمهورية من بين أقدم سبعة من نواب رئيس الجمهورية».
وبإمعان النظر فى وضع النصوص لمشروع القانون المتعلق باختيار طريقة رؤساء الجهات والهيئات القضائية على النحو السالف يبين بجلاء أنه وضع بطريقة الأسلوب الافتراضى المتلاحق المتمثل فى أربع حالات ونسى الخامسة ! هى يعين رئيس مجلس الدولة بقرار من رئيس الجمهورية من بين 3 من نوابه، ترشحهم الجمعية العمومية الخاصة بمجلس الدولة، من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المجلس، وذلك لمدة أربع سنوات أو المدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد أيهما أقرب ولمرة واحدة طوال مدة عمله، ويجب إبلاغ رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين قبل نهاية مدة رئيس المجلس بستين يوما على الأقل، ثم عدم تسمية المرشحين قبل انتهاء الأجل المذكور، ثم  ترشيح عدد يقل عن ثلاثة، ثم  ترشح من لا تنطبق عليه الضوابط المذكورة يعين رئيس الجمهورية من بين أقدم سبعة من نواب رئيس الجمهورية، وهذا الأسلوب الافتراضى فى صياغة القاعدة القانونية.
• المبحث الثامن طوق النجاة
التماثل فى المراكز القانونية فى طريقة اختيار رئيس المحكمة الدستورية تستوجب وحدة القاعدة القانونية التى ينبغى أن تنتظم سائر رؤساء الجهات والهيئات القضائية.
تضمنت المادة (193) من الدستورالحالي- خلافاً للدساتير المصرية السابقة -  طريقة اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا بأن تختار الجمعية العامة رئيس المحكمة من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة كما تختار نواب الرئيس، وكان هذا النص لسببين: الأول يرجع إلى حكم ما قبل ثورة 25 يناير من سد الطريق على اختيار رئيس لها من خارج قضاتها،  والثانى يرجع إلى ما قبل ثورة 30 يونيه 2013 مما تعرضت له تلك المحكمة من تهديد وعدوان غاشم من الفاشية الدينية، فأراد المشرع الدستورى أن يضمن طريقة اختيار رئيسها، ولا يتصور أن يكون مقصود المشرع الدستورى ذاته من تحديد طريقة اختيار رئيس المحكمة الدستورية أن يتضمن تمييزاً لها عن جهات القضاء وهيئاته،  وإذ جاز القول بذلك التمييز المنهى عنه دستورياً بإجماع دساتير العالم لتناقض المشرع الدستورى مع نفسه وخالف هو ما يسنه للمشرع العادى من إعمال مبدأ المساواة للأقران،  وذوى المراكز المتماثلة.
وإذا كانت صور التمييز المجافية للدستور يتعذر حصرها؛ إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التى كفلها الدستور أو القانون، سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها،  بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانونا للانتفاع بها. ومن ثم وجب تقرير تلك القاعدة فى اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا لرؤساء الجهات والهيئات القضائية أخذاً فى الاعتبار أن أى تنظيم دستورى لا تنفصل نصوصه أو تتخلف عن أهدافها؛ فهو يتضمن نسيجاً وكلاً غير منقسم،  ومن ثم فإذا قام التماثل فى المراكز القانونية التى تنتظم طريقة اختيار رئيس المحكمة الدستورية مع سائر رؤساء الجهات والهيئات القضائية  وتساووا بالتالى فى العناصر التى تكونها، استوجب ذلك وحدة القاعدة القانونية التى ينبغى أن تنتظمهم،  ومؤدى ذلك ولازمه  أن المشرع عليه أن يتدخل دوماً بأدواته لتحقيق المساواة بين ذوى المراكز القانونية المتماثلة بين جميع الجهات والهيئات القضائية أو بالأدق لمداركة ما فات فى هذا الشأن، ومن ثم يكون مشروع قانون مجلس النواب فى هذا الصدد يمثل إحداث تفرقة مخالفة للدستور بين قضاة المحكمة الدستورية وسائر الجهات القضائية التى عنونها المشرع الدستورى بالسلطة القضائية فى الفصل الثالث منه ولا يتصور أن يمايز المحكمة الدستورية عن السلطة القضائية نفسها -والدستورية من نسيجها - وعن سائر الهيئات القضائية الأخرى.
وغنى عن البيان أنه من المقرر أن مبدأ خضوع الدولة للقانون - محدد على ضوء مفهوم ديمقراطى - مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية، مفترضاً أولياً لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة الحقوق الوثيقة الصلة باستقلال القضاء، فبمقتضى المادة (94) منه «سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة . وتخضع الدولة للقانون،  واستقلال القضاء وحصانته وحيدته ضمانات لحماية الحقوق والحريات» ولا يجوز لنص تشريعى ونحن فى القرن الحادى والعشرين أن يتعرض لخطر ملاحقة طريقة اختيار رئيس كل جهة وهيئة قضائية أكثر من مرة، وكان ذلك من المشرع إحداثا لعدة حالات بناها على محض افتراض بالإيغال فى إحداث فتنة  لا يرتد شيوخهم عن تقاليد أقدمية شموخها  أبداً، بل أراد بهم مشروع القانون أن  ينصرفوا عنها ليتحقق مراد من وضعوه ليبغونها عوجاً؛ وكان لا يجوز وفقا للدستور المساس باستقلال السلطة القضائية وهو ما حرص عليه الدستور بذكره وتكراره عشر مرات فلا ينبغى لسلطة التشريع أن تنال من خطاه مدداً.
• غير قابلين للعزل
وقد نصت المادة (186) منه على أن القضاة مستقلون غير قابلين للعزل لا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات «ومن ثم يكون اغفال المشرع عن مساواة سائر القضاة بقضاة الدستورية يخل بمبدأ المساواة بين قضاة المحكمة الدستورية العليا  وبين أقرانهم من جهتى القضاء العادى والإدارى وهيئتى قضايا الدولة والنيابة الإدارية، وإذ  نص الدستور الحالى فى المادة (184)  على أن «السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون ويبين القانون صلاحيتها» ثم عرض المشرع الدستورى فى هذا النص لجريمة مؤثمة على المساس باستقلال القضاء بتحديد جريمتين منفصلتين بأركانهما المادية والمعنوية  فى القصد الجنائى مكملاً «والتدخل فى شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم»، فقد حدد المشرع صورتين للمساس بهذا الاستقلال: الأولى: التدخل فى شئون العدالة وجعلها فى  عبارة عامة مقصودة فلا حصر لهذا التدخل الذى هو محظور على السلطتين التشريعية والتنفيذية ليحافظ على استقلال القضاء، والثانية: التدخل فى القضايا وهى محددة على سبيل الحصر، واَية ذلك  أن المشرع الدستورى جعل وفقاً لنص المادة (194) المحكمة الدستورية العليا المختصة بمساءلة قضاته تأديبياً وكل جهة وهيئة قضائية تقوم على ذلك الاستقلال  على نحو يكفل لهم فى الخصومة التأديبية - مجال العمل القضائى - خصوصيتها ودقائقها التى ينافيها أن يطرح أمرها على غير أهلها، لتظل خفاياها وراء جدران مغلقة فلا يُهتك سترها، فدل ذلك على أن مبدأ استقلال القضاء يسرى فى جميع مناحى حياة القاضى منذ أن تطأ قدماه محراب العدالة حتى يغادرها،  ومن ثم فإن تنظيم أى عمل من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية يجب ألا يمس استقلال السلطة القضائية،  وفى العلم القانونى الحديث لم يعد المشرع حراً طليقاً فى إصداره التشاريع بما يخالف الدستور، وأن تنظيم الحقوق وإن كان منوطاً بالمشرع، وكان استعماله لسلطته فى هذا الشأن رخصة يباشرها، كلما اقتضاها الصالح العام، وفى الوقت الذى يراه مناسباً؛ إلا أن تدخله يغدو عزيمة إذا ما دعاه الدستور إلى تنظيم حق من الحقوق، كما هو الحال بالنسبة لحق القاضى فى استقلاله ، فإن أدى مسلكه إلى الإخلال بهذا الحق،  كان ذلك مخالفاً للدستور.
ولا يغير من ذلك المماحكة من مجلس النواب من أن طريقة اختيار رئيس المحكمة الدستورية منصوص عليها فى الدستور وغيرهم من القضاة غير منصوص عليه، لأنه من المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية ذاتها، أن مناط دستورية أى تنظيم تشريعى ألا تنفصل نصوصه أو تتخلف عن أهدافهاذ كما ذكرنا - ومن ثم فإذا قام التماثل فى المراكز القانونية التى تنتظم البعض، وتساووا بالتالى فى العناصر التى تكونها، استوجب ذلك وحدة القاعدة القانونية التى ينبغى أن تنتظمهم جميعاً ، وتلك المماحكة من شأنها الفُرقة بين قضاة مصر وشق صفهم بالتمايز فيما بينهم، للعودة لعهود الظلام الاستبداد التى ثار الشعب فيها فى ثورتين متلاحقتين زمنياً 2011و2013 كان القاسم المشترك فيهما العدوان على السلطة القضائية.•
والعدد القادم نكمل