الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

البحث عن زوج

البحث عن زوج
البحث عن زوج


غابت الشمس فوق الأفق، تاركة ذيلاً عريضًا مخضبًا بالاحمرار، وكان الجو ربيعًا يبعث المسرة والابتهاج، فطابت نفس الرفيقين ونازعهما قلباهما إلى اللهو والهناء وتساءلا إلى أين يمضيان؟ وأى ملهى يقصدان؟ حتى أضاء وجه أولهما وصفق بيديه فرحًا وصاح برفيقه:
«سأدلك على المكان، المقام فيه نشوة للنفس وبهجة للفؤاد وفيه- إلى ذلك- عظة طريفة لا تثقل على القلب».
«وما هذا المكان؟»
- هو بيت.. أراك تلوى شفتيك وتسترد نظرة الملل.. كلا.. لقد أخطأت فهم ما أريد، هو بيت كرم لأسرة كريمة لا تنال منها ألسنة السوء.
وفيم نقصد إليه إذًا؟
«تمهل ولا تقطع عليَّ الكلام.. أنت تعلم أن غالبية الأسر تشكو مما يسمونه بأزمة الزواج، وأن الأمهات أصبحن يرقبن بناتهن وهن ينضجن نضوج التمر الشهى ويسرعن إلى تمام الأنوثة بعين قلقة ونفس جزعة، وبعضهن لا يقفن مكتوفات الأيدى ويسعين إلى اصطياد الأزواج من هنا وهنالك ولو أدى ذلك إلى جرح كبريائهن ونكس أذقانهن، ومنذ حين من الزمن حدثنى صديق فى أمر ذلك البيت وأكد لى أن زوجته ترحب بمن يزورها طالبًا يد واحدة من بناتها الأربع، وهى تكلف من يقابلها من الشبان أن يصطحب معه من يرى فيه زوجًا صالحًا».
- وهل ذهبت إلى هذا البيت؟
- نعم، وفى أول زيارة لى استقبلتنى الأم وبناتها وقدمتهن لى واحدة واحدة، وحدثتنى حديثًا عذبًا لا فائدة من تكراره ما دمت ستسمعه بعد حين، وقد وعدتها أن أتزوج من إحدى بناتها إذا انتهيت من حياتى المدرسية، وسوف ترحب بك أكثر منى لأنك على كل حال موظف وستعلم عندما نوجد بينهن أى لذة يمنحن وأى سعادة يهبن».
وتهلل وجه الصديق المستمع لحظة ولكنه عاد فَسَهَّم وقال:
- يا لها من حياة بهجة ولكنها لا تخلو من خطورة ما دامت تنتهى بالزواج.
- وأى شىء يدفعها إلى هذا الطريق الوعر؟ تعال ولا تجفل وتكلم حين يجب الكلام وبعد حين يحلو الوعد وتمتع كما تشاء حتى إذا جد الجد انفلتنا هاربين.
ومضيا معا تحت جنح الظلام يطرقان باب بيت يدل مظهره على خفض العيش والبلهنية، ودخلا إلى غرفة استقبال جميلة أنيقة مؤثثة بأفخر الأثاث ومزينة بالزهريات الرشيقة وأصص الأزهار الصناعية، حذره صديقه قائلاً: «حافظ على رزانتك واصطنع الجد واحذر زلل اللسان وطيش الماجنين أو توقعنا فى حرج شديد».
وجلسا ينتظران، وكان الشاب مضطربًا يحس بأنه مقبل على القيام بدور خطير وإن بدا لهوا ووجد ترددا فى العبث بهذه الأسرة واللعب بها واستشعر تأنيبًا من ضميره ولما يبدأ بالعمل، وقطع عليه حبل وساوسه دخول سيدة مهيبة الطلعة وضاءة الجبين، مبتدئة الكهولة، تحمل آثار جمال ناضر مضى عهده، قالت السيدة مرحِّبة:
- أهلاً وسهلاً.
- أقدم لك يا سيدتى صديقى كريم، من موظفى الحقانية، لم أكن لأفكر فى اصطحابه إلى هنا لولا وثيق معرفتى به وبأخلاقه.
- أهلاً بك يا بنى، إنى سعيدة بلقائك.. هل أنت مقيم بالقاهرة؟!
وألقت عليه أسئلة أخرى تافهة، لتزيل عن قلبه الوحشة، وتطرد من وجهه الخجل، ثم قالت:
- «إنى أتوسم فيك الخير.. وأرجو ألا تسىء الظن، وأن تقدر تصرفاتى حق قدرها، ما أنا بداعية سوء ولا امرأة مستهترة، ولا مفرطة فى عرض بناتى، بل إنى لأعتقد اعتقادًا راسخًا أن مسعاى شريف، لأنى كأم ينبغى أن أهتم بمستقبل بناتى قبل كل شىء، ولن يرتاح لى بال حتى أجدهن فى بيوت أزواج يُطمأن إليهم.. فلا تتهمنى وقدر عملى بما هو أهله».
وتأثر الشاب من كلام السيدة، ورجع ضميره إلى إيلامه، فتجهم وجهه، ولكن لاحت منه التفاتة إلى صديقه فقرأ فى عينيه رسالة تهيب به أن قل شيئًا فقال:
- إنى أقدر عملك وأحترم الغاية منه، ووجودى هنا دليل كافٍ على صدق ما أقول.
وقد تهلل وجه السيدة استبشارًا، وغادرت الغرفة برهة، وعادت ترافقها أربع بنات فتوجه الشاب إليهن ببصره وتمعن فيهن بدقة: لم يبْدُ عليهن اضطراب ولا إحجام، كأنهن ألفن أمثال هذه المقابلات، وحيَّين برقة وأخذن أماكنهن- قالت الأم تعرفه بهن:
- «هذه سعاد.. زينب.. تحية.. عطية» واحتار ماذا يقول لهن، أى موضوع حديث يختار؟ ولما اشتد به الحرج قنع أولاً بتأملهن: كانت أولاهن وأكبرهن بيضاء البشرة، تبدو عليها الرزانة وهدوء الطبع، ولا تكاد تختلف عنها فى شىء التى تليها، أما الثالثة فكانت أقل من سابقتيها جمالاً، برز أنفها قليلاً فأخلَّ بتنسيق الوجه، والرابعة وهى الصغرى فتاة سمراء، خمرية اللون، رشيقة القد، ذات عينين سوداوين لا يستقران على حال وتعبران عن خفة روح متناهية وخبث ومكر نسائيين، وكانت تلقى عليه نظرات عميقة حتى شعر بحاجة قصوى إلى إخفاء وجهه عنها، ولما التقت عيناه بعينيها قرأ فيهما مقدمة ابتسامة فابتسم لها وابتسمت له ابتسامة أنعشت فؤاده، واعترف بحق أن هذه الصبية ملكته فى ثوانٍ بينما لم تؤثر فيه التماثيل الثلاثة أى تأثير.
وتكلمت الأم عن فتياتها وأشادت بتعليمهن وإجادتهن لفنون ربة الدار، وما يتحلين به من كرم الأخلاق والفضيلة، وصارحته بأنهن لن يورثن مالاً ولا متاعا، وأنهن إذ كن قد عشن حياة راقية فالفضل يرجع إلى ماهية زوجها الضخمة، واضطر الشاب أن يعلق على ذلك بقوله، إنه ليس ممن يتاجرون بالزواج.
وفى أثناء ذلك تم بينه وبين عطية الصغيرة تفاهم عجيب حتى ألفها ومال إليها ميلا لم تخفه عيناه- وكانت صبية جريئة حقًا، شديدة المكر، أحست بما هو فيه من الارتباك فبدأت بالحديث وألقت عليه أسئلة مختلفة وحدثته حديثًا عذبًا وحاورته حوارًا بديعًا تخلله صوتها الساحر وهو يعلو ضاحكًا، حتى سألته أيريد أن يسمعها تلعب على البيان. وقبل أن يومئ برأسه سارعت إلى البيان ونادته أن يقعد بجانبها.. فقام خجلا وهو يتعجب من جسارة الفتاة، ولعبت أصابعها بخفة ورشاقة وصوبت إليه عينيها فلم يتحول عنهما حتى كاد أن ينسى المكان ومن فيه، ورأت الأم أن تقترح على الأخت الكبرى أن تعزف للشاب وكانت تود لو يلتفت إليها، ولكن الشيطانة الصغيرة قطعت على أمها السبيل وصاحت بالفتى:
- ما رأيك فى أن أريك تمساحًا غريبًا فى الحديقة؟
- تمساحًا!!
- نعم، كان والدى فى السودان فى زمن مضى.. وقد اصطاده وهو يعيش وحيدًا فى بحيرة جميلة تظللها أشجار البرتقال.. تعال».
وسحبته من يده إلى الخارج، فى حين قد جلست الأخت الكبرى ثانيًا. بيد أن همت بالتحرك إلى البيان وهى جد محنقة مغيظة، وطافت به أنحاء الحديقة حتى انتهيا إلى البحيرة محوطة بسور متين تظلله أشجار البرتقال، وتفرشه حشائش سندسية أشارت بإصبعها إلى كتلة سوداء، وقالت:
- ها هو ذا التمساح. انظر.
وألقى نظرة سريعة على التمساح.. واختلس منها نظرة طويلة وهى تدله عليه.. ما أجذبها! كانت منحنية قليلاً، مادَّة يدها، مشيرة بإصبعها الرقيقة فكشفت عن ذراع بض خمرى يفيض حياة وتشع منه حرارة، وتجلى عينيها، وامتدت شفتاها مع انفراج قليل يغرى بالتقبيل.. فتأملها طويلاً- على علم خفى منها- حتى تدافعت أنفاسه، وأخذت بيده وكان اللمس يقتله وأجلسته لجانبها على مقعد وهى تختلس منه نظرة هزء، وتركت له فرصة يمعن فيها النظر حتى أفرغ قلبه المهتاج فى نفسه أفكارًا ثورية جنونية، فلما مالت إليه بوجهها هامَّة بالكلام فهوى بفمه إلى فمها وكاد يلمسه لولا أنها بادرت برفع رأسها بخفة مثيرة فوقعت شفتاه على ثغرة نحرها، وأمسكت بأذنه فى تأنيب فاتن ورجعا معا.
واختلت به أمها فى الشرفة وكان هو قد أفاق من نشوته وعاد يزن الأمور. بميزان العقل، وقدر ما أتى من طيش ولم يكن بطبعه جريئًا فعزم على أن يجد طريقًا للخلاص ولو بتنفيرها منه حتى تزهد فيه كزوج لابنتها، وعلى ذلك قال:
- ليت الأمانى تتحقق يا سيدتى.
وما الذى يحول بينها وبين التحقق؟
- تعلمين يا سيدتى أنى موظف صغير لا تتجاوز ماهيتى ثمانية جنيهات.. فماذا تصنع لى هذه الماهية؟ إن للزواج مهامًا وشئونًا كل منها يحتاج إلى المال الوفير مال الزوجية، ومال لبيت الزوجية، ومال للحياة المادية، والطوارئ.. ثم الأبناء.
أقدم يا بنى ولا تخف، إنك إن فكرت طويلاً انتهيت إلى التردد والخوف، ولكن جازف وجابه نفسك بالأمر الواقع ولسوف لا يعوزك الحل وحسن التدبير بل الخلق والإبداع، ونحن من جهتنا لن نطالبك بمهر ولا بتكاليف الحفل وما يتبعه، وسوف نجهز الفتاة بأثاث وثياب وفيرة لا تحتاج معها إلى تجديد إلا بعد زمن طويل.. ولا بأس يا بنى أن تعيش الحياة التى تصلح لك وتوافق ماليتك من غير إرهاق ولا تذمير، فالقناعة غنى، ومن يرض بقليله فأقل سعادته الرضا»، فقال فى نفسه خاب هذا السهم فلأسدد غيره، ثم قال بصوت مسموع:
«هذا حسن.. فقط.. أعنى أنك لا تعرفين شيئًا عن الأسرة التى أنتمى إليها».
- وماذا يهمنى من أمرها؟ وماذا يهم أمر الأسرة على أى حال؟ إن أحقر حقير لا يبعد أن يكون له جد من الملوك أو الرسل، كما أن أنبل النبلاء لا يخلو أن يكون له جد من السوقة وقطاع الطرق.. فانتابته الحيرة ثانيًا.. ولكنه أطلق آخر سهم فى جعبته فقال:
«سيدتى.. لقد عاملتنى معاملة تجلُّ عن الوصف فلا يصح أن أخدعك... إنى شاب لا تعد حياته الخاصة طاهرة.. أعنى....»
«يا لنبل أخلاقك! ليت طلاب الزواج جميعا فى مثل صراحتك! فقد تكون الصراحة أبلغ من الندم وأدعى إلى الاطمئنان من العهود والمواثيق، وهل تظننى يا بنى أنتظر من شاب ألا يكون شابا؟! لقد خطبنى زوجى بعد أن رآنى مرة وكان يتمشى برفقة امرأة!.. انسَ الماضى وتقبل حياتك الجديدة بثغر باسم وأمل واعد».
قالت ذلك ثم مدت يدها له.
ولما تنسم هواء الليل فى الخارج تنهد ارتياحًا كأنه ألقى عن عاتقه عبئًا ثقيلاً.
وفى صباح اليوم الثالث لذهابه إلى ذلك البيت وصله خطاب من غير إمضاء، وليس به إلا هذه السطور مكتوبة بيد نسائية- لا شك فى ذلك» اذهب إلى حديقة القبة الساعة السابعة مساء وتجول بها ترى ما يدهشك».
أيكون موعد لقاء؟ وهَبْ أنه كذلك فماذا يصنع؟ هل يذهب إليه وليكن ما يكون أم يضرب عن ذلك صفحا ويسير فى حال سبيله؟ قد يكون الرأى الأخير هو الأوفق ولكنه وجد نفسه سائرًا إلى المكان الذى دله عليه الخطاب، ويدفعه إلى ذلك إغراء قوى وحب استطلاع مسيطر، ولما انتهى إلى المكان تجول متمعنًا فيما حوله وظل مثابرًا على ذلك حتى كاد يثبِّطه الملل واليأس، لولا أن سمع ضحكة معروفة لديه، تنبعث من خلف شجرة سرو هائلة، فقال فى نفسه هذه عطية ولا شك.. وغمره فرح شديد وانحدر ناحية الشجرة متجها إلى ما ورائها: هنالك على أريكة وسط الحشائش، وتحت ظلال الأغصان المتدلية رأى عطية الصغيرة ملتصقة بصدر شاب جميل، وقد انتبها إلى قدومه ولما تبينته الفتاة قامت مذهولة يائسة.. ولكن سرعان ما تملكت نفسها وألقت عليه نظرة احتقار وازدراء، ثم أمسكت بذراع الشاب ولفتها حول وسطها وسارت فى كبرياء مقتحمة إياه.
وأحدث ذلك فى نفس الشاب ذهولاً: من يكون كاتب الخطاب؟ ولماذا أراد أن يوقعه فى مثل هذه الورطة؟ هل يكون صديقه؟ ولكن خط الخطاب نسائى ولا يمكن أن يكون مرسله عطية نفسها، فمن إذًا؟ هل تكون واحدة من أخوات عطية؟ قد يكون هذا معقولاً: لأنه انجذب إلى الصبية الصغيرة فى غير احتياط وكشف عن إعجابه بغير رزانة؛ فلعل ذلك أيقظ الغيرة فى قلب أخواتها فأرسلت واحدة منهن هذا الخطاب لتحول إعجابه عن هذه الفتاة الشيطانة ولتنفر قلبه منها.
وامتعضت نفسه أيما امتعاض. وتألم من احتقار الشيطانة الصغيرة له، وتعجب من فُجْرها وجرأتها، وتمنى لو لم يرها أبدًا!
وفى صباح اليوم الثانى وصله خطاب من الصبية الصغيرة، وكانت عاطفة الغضب تغلى بين سطوره، قالت له إنه لا يهمها أبدًا أن يعرف عنها ما عرف ولا أن يذيعه أين يشاء لأنه كزوج ليس ممن يؤسف عليهم كثيرًا، وهى لم تكتب له إلا لتصارحه بأنها تأكدت من أن الذى أرسله إلى المكان الذى رآها فيه هى أختها الكبرى ولكنها ترد التحية بأحسن منها وتنصحه بألا يفكر فى الزواج بأى واحدة من أخواتها إذا كان يحرص على أن يكون سلوك زوجه ليس مثل سلوكها هى، وإن داخله شك فيما تقول فما عليه إلا أن يذهب إلى الأهرام فى أيام عينتها له ولسوف يرى ما يدهشه.
على أنه زهد فى دهشة تجىء من أمثال هذه المفاجآت وأشفق على نفسه من نظرة احتقار تصوبها إليه فتاة لا تستحق احترامه، ثم طوى الخطاب وهو يتمتم حسبى ذلك.•