الأحد 30 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عاش حراً ومات كمداً.. بعد 35 عاماً على رحيله.. ورغم تكريمه شباب لا يعرفون صلاح عبدالصبور فى معرض الكتاب

عاش حراً ومات كمداً.. بعد 35 عاماً على رحيله.. ورغم تكريمه شباب لا يعرفون صلاح عبدالصبور فى معرض الكتاب
عاش حراً ومات كمداً.. بعد 35 عاماً على رحيله.. ورغم تكريمه شباب لا يعرفون صلاح عبدالصبور فى معرض الكتاب



قرر معرض الكتاب الدولى فى دورته لهذا العام اختيار الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور ليكون شخصية هذا العام، وكم زائر يعرف من هو صلاح عبدالصبور، وكم وكم لا يعرفه!!
نعم، وللأسف الشديد ستدهش أيها القارئ العزيز عندما تعلم أن ثلاثة أرباع الشباب الذى يدعى الثقافة، ويتواجد فى المعرض باسم الثقافة، ويحتضن المعرض ديوانا له أو رواية أو ما شابه، لا يعرف من هو صلاح عبدالصبور!!!
«زهران» الذى شنقوه بالأمس ورقصوا على جثته اليوم، وكانت «مى» ابنة صلاح عبدالصبور قرباناً لمحافلهم الجاحدة وأرواحهم الطامعة فى السلطة والمال ليس إلا.
• مأساة الحلاج
بدأ صلاح إبداعه الشعرى المسرحى بمأساة الحلاج، أحد أعلام التصوف فى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى، ذى موقف من الحكم والسلطة أدى إلى أن يناصبه العداوة كل الحكام الذين عاصرهم، فسجن ثم صلب.
ومأساة الحلاج - أو المجاهد المروحى العظيم كما يصفه صلاح - هى مأساة الإنسان فى كل مكان، الحاكم والعالِم والظالم لا يحكمه شرع أو دين أومبدأ، والجاهل والمغلوب على أمره يحكمه الخوف.
ورغم التاريخية البادية فى موضوع المسرحية فإن عبدالصبور تمكن ببراعة من أن يسقط التاريخ على الواقع، فناقش فيها قضايا العدالة الاجتماعية وحق الإنسان ــ الفرد والمجتمع ــ فى حياة حرة كريمة.. وأزمة المثقف فى مجتمع تحكمه القوة الباطشة لا الحرية المحكومة بالضمير الحى وروح المسئولية وأداء الأمانة وهو ما فعله الحلاج حينما قرر خلع الخرقة والالتحام بالناس فى الشارع لينشر الوعى بينهم ويعرفهم بحقوقهم، فاجتمع حوله الفقراء وأصحاب الحرف، ما أسخط عليه الولاة وأصحاب السلطان، وكانت الجملة القصد فى المسرحية: «هذا رجل يلغو فى أمر الحكام» وهو الأساس الذى جعل عبدالصبور يرجح أن «الدولة» لم تقف ضده على نحو ما فعلت إلا عقابا له على هذا الفكر «التقدمى» وقد نكص الشبلى عنه، وكذلك النخبة - من الجماعة الصوفية - العارفة بحقيقة موقفه الإيمانى، فأسلموه للموت.
بدأ عبدالصبور المسرحية بالمشهد الأخير، مشهد صلب الحلاج، الذى هو المشهد الأخير فى الترتيب الطبيعى - البناء الكلاسيكى - للحدث، أى أنه بدأ من النهاية ثم مضى يفسر موظفا تقنية «الارتداد» وفى بيانه رد الفعل على حادث الصلب الصادم، أراد عبدالصبور أن يعكس حالة الشغف والفضول التى تجتاح العامة فى الحوادث الصادمة، وليستثير الفضول لدى المتلقى أيضا.
• مسافر ليل
فانتازيا رمزية تعالج مأساة الظلم والقهر والخوف والمهادنة.. القطار فيها رمز لقطار الحياة، والراكب الذى جعله الشاعر بلا ملامح ليكون رمزا للمواطن البسيط المطحون فى دنياه، المستعبد لأى أحد فيما يدل عليه نداء عامل التذاكر له بقوله: «يا عبده» فاتحا مجال الضمير ليشمل كل أحد، والذى جعله الراوى بطل الحدث ومهرجه، إيماء إلى القوة الكامنة فيه والغائبة عن وعيه وسخرية من «حالة ضعفه» فى الوقت نفسه، وعامل التذاكر الذى قد يتوهم القارئ فى البداية أنه شخصية ساذجة، قبل أن يكتشف من تطور الحدث أنه رمز لصاحب سلطة تسيطر عليه الرغبة العارمة فى التسلط ويعتقد أن له الحق المطلق فى التسلط على الناس بموجب تلك القوة، وهو يقترب كثيرا فى المعنى والرؤية من رجل الشرطة فى «مأساة الحلاج» وإن كان عبدالصبور قد طور من شخصية رجل الشرطة فحوله من حال الجهل الجاهل «الاغترار بالسلطة والقوة» إلى التفكر فى «حال» الحلاج والتأثر به، وطلبه منه أن يدعو له، بعد أن أعياه تعذيبه، والراوى فى «مسافر ليل» رمز المثقف المقهور الذى لا يستطيع المواجهة فيكتفى بدور المراقب الحكاء، يأكله الشعور بالضعف والخوف والحسرة، إذ نسمعه يقول بعد أن طعن عامل التذاكر الراكب بالخنجر: «لا أملك أن أتكلم / وأنا أنصحكم أن تلتزموا مثلى / بالصمت المحكم».
• الأميرة تنتظر
ويخطو عبدالصبور فى «الأميرة تنتظر» خطوات إلى الأمام فى رؤيته الإصلاحية، فبعد أن كان مؤمنا بأن الكلمة «الفكرة» وحدها كافية للتغيير وتحقيق الأهداف العليا: الحرية والحق والعدل والمساواة، صار مؤمنا بأن الكلمة وحدها لا تكفى، وأنه لابد من أن تلازمها القوة سبيلا للخلاص، حكاية أميرة تحلم بالحب، حكاية مركبة متعددة المعانى متنوعة الرؤى، تصدر - فى رأى بعض النقاد - عن نبع المسرح الثرى، وترجع إلى الجذور: المسرح الفرعونى والمسرح الشعبى.. بما يحفلان به من طقوس، وتفيد من ألف ليلة بشخصياتها المسحورة ومنحاها الرمزى، ومن الحكاية الشعبية بجوها الفلكلورى وبعدها الرمزى أيضا.
وفيها تتميز العبارة الشعرية بالتركيز الشديد والتكثيف فى إطار من الدرامية العالية، قدرة متميزة على رسم أبعاد وحدود الشخصية، الخارجية والنفسية: شخصية الأميرة «التى ذهب بعض الباحثين إلى أنها رمز لمصر»، والسمندل، والقرندل، والوصيفات الثلاث المتمايزة كل منهن عن الأخرى فى التركيبة النفسية رغم تشابه الوظائف أو تقارب المهام.
• ليلى والمجنون
وبعد أن يموت الملك
وفى مسرحيتى «ليلى والمجنون» و«بعد أن يموت الملك» يواصل عبدالصبور تأكيد فكرته، الجمع بين الكلمة والقوة إذا أردنا بلوغ الأهداف النبيلة، أو كما يقول سعيد بطل المسرحية فى إحدى قصائده: «يا أهل مدينتنا انفجروا أو موتوا».
ولكن عبدالصبور يضع لوحة دون كيشوت لـ«دومييه» فى السطور الأولى من «ليلى والمجنون» الإرشادات المسرحية، فهل أراد الإيهام بعدم الجدوى؟! ونبه إلى أن المثقف الحق يستطيع من معطيات الواقع التنبؤ بالمستقبل فى قول حسان لسعيد: «ستظل مريضا بالأسلوب/إلى أن تدهم هذا البلد المنكوب / كارثة لا أسلوب لها».
ورأينا الشاعر فى «بعد أن يموت الملك» يتحول من شخصية تابعة ضعيفة مسلوبة الإرادة، مسخرة لإرادة الملك الطاغية، الذى يرى نفسه هو المملكة وهى هو، إلى شخصية إيجابية فاعلة بعد أن تولدت فى نفسه الإرادة الدافعة لتحقيق الذات وبلوغ الهدف، فبمزماره يهزم الجلاد ويصرعه رغم عدم تكافؤ القوى ويستولى على سيفه، وبهذا السيف يخضع النخبة «الوزير والقاضى والمؤرخ» لإرادة الملكة التى ستهتم بما يريده الشعب، وكان عبدالصبور قد مهد لهذا «الحدث» حين ألقى على لسان المؤرخ هذا التساؤل المتعجب من موقف العامة فى حوار مع القاضى: «لا أدرى لم يلقون خيوط مصائرهم فى أيدينا بدلا من أن يستبقوها فى أيديهم؟».
ورغم أن هذه المسرحية تنتمى  كمسافر ليل ـــ إلى عالم الفانتازيا لأنها لم تحدد مكانا معينا ولا زمانا، ولا أشخاصا حقيقيين، فإن جميع شخصياتها موجودة فى الواقع فى كل زمان ومكان.
لم يكتب صلاح عبدالصبور المسرح الشعرى بقدر ما كتب الشعر المسرحى..
وكانت نهاية تلك المسرحيات وفصلها الأخير كلمة طائشة إثر مناقشة ساخنة مع الراحل بهجت عثمان، فى منزل الصديق أحمد عبدالمعطى حجازى، لم يقصد عبدالصبور الذهاب بغرض النهاية والتخلص من حياته وترك ابنتيه فى مهب القسوة والجحود، إنما المناقشة أودت به إلى ذلك.
وأسدل الستار..•

قصيدة الحلاّجة

صلاح عبدالصبور شاعر كبير، وسوف تظل له مكانة فى تاريخ الشعر العربى من ناحية، وفى وجدان قارئ الشعر من ناحية أخرى، وشعره ليس قيمة فنية فحسب، وإنما إنسانية كبرى كذلك.

مى كتبت تعاتب أباها الذى حكى مأساة الحلاج ومضى ليترك «الحلاجة» تمضغ أحزانها بمفردها، تقول ميّْ فى قصيدتها:
للنصِّ الكاذبِ.. عادَ الشاعرُ أدْراجَهْ.. قد أغفلَ مما أغفلَ
ـ وهو السائرُ فى المعتادِ ـ الموءودةَ
والمطرودةَ والمُحتاجَهْ
لكنْ إحداهُنَّ وقدْ صرختْ
دخلتْ فى النصِّ برغمِ الشاعرِ
لتحاولَ إحراجَهْ
بصَقتْ بين الكذّابينَ عليهِ
إذْ عرفَ الداءَ
ولم يعرفْ وهو المعلومُ علاجَهْ
دخلتْ فى النصِّ لتكشفَ عنْ سوأتِكم يا رُوَّادَ المقهى
وكبار المسئولين وعُشّاقِ أبيها..
ومن الهامشِ بالتْ
فى منتصفِ النصِّ عليكم
بالتْ
فوق شعاراتِ الحريّةِ
وحواراتِ الليبراليةِ
والجعجعة الجوفاء وقالتْ:
يوصيكمْ فى أولاد الشاعر
لو يعلمُ ما آلتْ قرَّةُ عينيهِ إليه،
لانتفضَ،
ومزَّق أكفانَ الغربةِ،
أو عطَّل وهو الصاعدُ للسدرةِ مِعْراجَهْ
للولدِ النصفُ من الإحسانِ
وللبنتِ النصفُ،
وإنْ كانتْ «ميُّ» ابنةُ سيدِكم
فلها الكلُّ
وللعالمِ ما تركَ الشاعرُ
بئس اللحظةُ إذْ تلقى
بعزيز القومِ لوحشينِ الغربةِ و«الحاجَهْ».
وابنةُ سيّدِكم يا أبناء..
تنام على الأرصفةِ معَ «أعمالِ أبيها الكاملةِ»
تتسولُ بعضَ الحبِّ
وبعضَ التقديرِ ابنةُ سيّدِكم
فى فيلمٍ عبثيٍّ
منكمْ من كتبَ النصَّ.. ومنكم من يتولَّى إخراجَهْ
ميُّ هناك على الهامش تهرب منكمْ
وبقلب الظلمةِ
تبحثُ عنْ ضوءِ أبيها
يا منْ تحتكرونَ سِراجَهْ
دخلتْ فى النصِّ
لتصرخَ:
كيفَ الشاعرُ
يكتبُ عن مأساةِ الحلاجِ
وينسى مأساةَ الحلاجَه
إنها ميّْ التى تبحث عن ضوء أبيها فى قلب العتمة..
وأخيراً أيها السادة المسئولون.
«نظرة»•