الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ليلة حب رمادية..

ليلة حب رمادية..
ليلة حب رمادية..


هواء بارد يتسلل إلى أنفاسى الشاهقة فيعصف بدفئها الداخلى ليحررها خارجا، نسمات هادئة تداعب بعضا من خصلات شعرى المتمردة، وشمس مفضضة دافئة تخترق كتل السحاب والزجاج وهى تحتضننى فى سكون مجددة وعدها لى بحضن آخر أكثر دفئا واحتواء. إنه ديسمبر.. أمسكت بفنجان القهوة وأنا أطل بنظراتى عبر النافذة، فلطالما أحببت رائحة الشتاء وتفاءلت بقطراته اللؤلؤية.
نظرت إلى الأفق البعيد فشاهدت ذلك الضوء السعيد وهو يشق كتل السحاب متدللة الخطى فيحيلها قطعا لؤلؤية صغيرة متناثرة، سكن عقلى متأملا بينما انطلقت نظراتى ترسم عبر تلك السماوات وجوها تبتسم وأخرى غاضبة، وقلوبا وأقواسا، وفتيات صغيرات يرقصن كفراشات وأمواجا عنيفة وشاطئا وكهفا «اختبأت به».
ألصقت وجهى أكثر بزجاج النافذة الذى أندته أنفاسى فعدت أزيحها بيدى لأستكمل رحلتى الساكنة إلى اللاحدود.
كتل من الغيوم الكثيفة أطفأت فجأة ابتسامة السماء فارتدت نظراتى خائفة مذعورة من ذلك الوجه المختنق وابتعدت سريعا عن النافذة وأسدلت عليها ستارتى البيضاء علها تضىء ما أفسده ذلك المشهد الضبابى الجنائزى القبيح.
ديسمبر «رائحة النهاية مختلطة برائحة البداية» أطلقت زفيرا أكثر حرارة وأنا تائهة فى دهاليز عقلى وألقى بنظرات متلصصة عبر ذلك الجزء العارى من زجاج النافذة إلى تلك السماء الرمادية التى تستعد لتنهمر دموعها السعيدة.
جذبنى مشهد شارعنا الكبير - صاحب الابتسامة، فهكذا كنت أراه دائما، ابتسامته على قدر اتساعه - وقد ملأته فجأة تلك الأفواج العشوائية من طلاب المدارس فى زيهم الموحد، بلون سماء ديسمبر الرمادية التى أعادتنى إلى الوراء عشرة أعوام عندما كنت أحدهم، فتاة المدرسة الإعدادية.
فتاة فى الخامسة عشرة تودع طفولتها المتأخرة لتستقبلها حياة بمذاق خاص، رائحتها كزهور الربيع الناضرة التى تنطلق فى ثورتها البدائية لتعلن عن وجودها الأنثوى.
إلى الوراء كثيرا، عندما كنت أنا وسليم - ابن الجيران - شابين فى عمر الزهور، يتطلعان معا إلى مطر ديسمبر من وراء النوافذ وهو يتساقط بنغم موسيقى يبوح بسرهما الطفولى الذى لا يفهم رموزه المسحورة غيرهما.
عندما كان يأتى إلينا سليم فى مناسبات العائلة كضيف شرف عزيز عند أمى وثقيل لمن دونها، خاصة أن لدى أقاربى ممن هم فى مثل عمرنا والذى كان أكثرهم فتيانا، فما أن يلتقى الجميع حتى يبدأ عراك الديكة لإثبات من هو الأحق للفوز بالدجاجة - اللى هى أنا.
لا أنكر سعادتى وقتها بهذا العراك، فبذور الأنثى بداخلى كانت تسعد لاشتعال الحرب من أجلها دون أن تعرف حتى قواعد تلك الحروب بعد.
مضى ذلك الشتاء سريعا، وطويت معه ذكريات الطفولة وهجر سليم وأسرته شارعنا بعد وفاة والده، بعد أن قررت الأسرة العودة إلى الفيوم تنفيذا لرغبة العم الذى أبى لأبناء أخيه العيش بعيدا عن كنفه.
عاد سليم إلى الفيوم وعدت أنا إلى حجرتى أغلقها خلفى لأعاود التطلع عبر زجاج النافذة.
عشرة أعوام مضت وأنا لا أزال أذكره ولاأزال أراقب نافذته فى خشوع كأحد طقوسى اليومية، لم أفتح الباب خلالها لحب ربيعى جديد، بعد أن سكن الخريف قلبى، فسكت وسكنت وأغلقت على قلبى سجينا فى زنازين عقلى.
وسارت بى الأيام دون جديد.. أنتهى من عملى إلى بيتى ومنه إلى غرفتى، وأتمم طقسى اليومى بالنظر عبر النافذة لألتقط مشهدا أخيرا قبل أن أستلقى على سريرى.. انتهت النظرة كعادتها لكن لم تنته توابعها هذه المرة، فقبيل السقوط، كانت اللقطة التى توقف عندها الزمن.
النور مضاء، نعم.. إنه نور شقة سليم، فى سعادة طفولية انطلقت نحو الباب ومنه إلى الشارع الكبير الذى قطعته دون النظر حولى فلم يكن هناك ما يدفعنى للتوقف، الجميع يتعدانى ولا أهتم، كلمات كثيرة مترامية من حولى تحاول تنبيهى ولكن دون جدوى.
ولم يوقف قدمى سوى جسد ضخم كان لعم إبراهيم البواب - بواب عمارة سليم - الذى بادرنى بإجابة لم أطرح سؤالها بعد، «شقة الأستاذ سليم سكنت النهارده يا هانم، واحد بيه بيقولوا عليه مشخصاتى كبير أوى وعنده مساخيط تقوليش بنى آدمين و.............»
تركت فم عم إبراهيم يسترسل فى حديثه الفارغ وأدرت ظهرى عائدة إلى بيتى بطيئة الخطى، ألملم صندوق ذكرياتى المبعثر بعد أن تناثرت أشلاؤه فى لحظة سعادة عابثة، وعدت أجر نفسى وذكرياتى وقلبى الذى انتفض بعد ومضة كهربائية خاطفة أعادت له الحياة ثم انطفأت.
أردت لهذه الليلة أن تنقضى سريعا خوفا من الاختلاء بنفسى، فلم أكن أريد اتزان عقلى ولا ثورة مشاعرى فقد اكتفيت من كليهما، أغلقت باب الغرفة واختبأت بسريرى تحت طبقات من الأغطية لتمنح جسدى بعض الدفء وطبقات من الوسادات فوق رأسى لتخمد عقلى عن التفكير.
وهكذا مرت الأيام تقليدية متتابعة، وأنا لا أزال أنظر عبر زجاج النافذة المغلق كعادتى للائتناس بالسائرين ليلا، وذات مرة قفزت نظراتى المتطفلة إلى شقة الغريب الذى احتل شقة سليم، فإذا بشبح لرجل جالس بكامل هيئته على كرسى فى حالة تأمل وبجانبه طاولة صغيرة عليها فنجان وبايب، وتساءلت فى شفقة ساخرة، ترى ماذا يفعل هذا المسكين الغامض فى ليله وحيدا؟!!
ولم أنتظر إجابة لسؤال لم يصل، وأسدلت ستار النافذة وأنا أشعر بالإرهاق، فقد كان يومى مشحونا بما فيه الكفاية ولا يقبل طرح مزيد من تساؤلاتى الفضولية.
فى المساء ألقى بنظرتى الأخيرة عبر النافذة ولتلتقى عفويا بهذا الغريب كل يوم، حتى تصادقنا، واعتدت على رؤيته بل والائتناس به ذلك الرجل الغامض الذى دائما يجلس متأملا هو الآخر عبر زجاج  النافذة.
حادثته رغم بعد المسافات، تناقشنا دون أن يسمع كلانا الآخر، أشكو إليه دون إجابة ولكن أشعر بحالة من الراحة بمجرد إنهاء ما أود قوله إليه. والعجيب أننى عندما كانت تزداد بى الحيرة فى أمر فأعرضه عليه وأصل بالفعل إلى الاختيار الصواب، لأننى كنت أخشى الكذب عليه، فجلسته وهيئته تجعلنى أعترف أمام حضوره الغائب بصدق، وكأنه سيعرف بحكمته وذكائه إذا ما كذبت عليه.
وما أن ينتهى حديثنا فى نهاية كل مساء حتى أحييه بابتسامة ثم أخلد إلى النوم.
أحيانا ما كنت أتساءل مع نفسى عن سر هذا الرجل وسر وحدته الدائمة، هذا الهدوء الذى يعيش فيه، تلك النظرة والجلسة التى لا تفارقه، ربما يحمل سرا كبيرا فى حياته هو ما دفعه للعيش وحيدا، حتى ذلك الظلام دائماً ما يمنعنى من رؤية تفاصيله فالمسافة بيننا ليست بالقصيرة، كما أن زجاج النافذة يضفى هو الآخر نوعا من ضبابية الرؤية.
إنه يوم الجمعة - اليوم النهارى الوحيد الذى أقضيه ببيتى - جذبنى فجأة الشعاع الأخير من الشمس الهاربة وهى تعلن المغيب خلف سحابات كثيفة من الضباب فأسرعت بالوقوف لأشاهد كليهما معا، هو والغروب.
فتحت النافذة لأستمتع - وللمرة الأولى - بالنظر عن قرب إلى الأشعة الذهبية، ولألقى التحية الباسمة على صديقى الذى جمعنا شباك واحد وحديث فردى طويل لا ينتهى.
فتحت النافذة، وعيونى تتجه كسهم نحو شقة جارى لكن جمدتها المفاجأة.. الستائر مرفوعة، النوافذ مفتوحة، الصورة أكثر وضوحا، الشقة فارغة، وها هو صديقى يجلس كما هو على كرسيه، متأملا كعادته، ولكن متخشبا.
 لم تقتله الوحدة ولم يدفعه الانتظار للانتحار، فالجثة ليس بها أى شبهة جنائية.
فصديقى العزيز الذى شاركنى - وهما -  أحاديث الصباح والمساء وقصة حبى بسليم لم يكن أكثر من مانيكان.. نعم، إنها تلك المساخيط التى وصفها لى البواب، وها هو المستأجر يظهر للمرة الأولى وهو يكشف عن باقى معروضاته استعدادا ليوم الافتتاح، ولم يعد صديقى المانيكان وحيدا كما كنت أخشى عليه إنما وجدت غيره كثيرين أمثاله.
إنها السماء تتهيأ للأمطار، لحظة حزن شتائى مفاجئة غمرت قلبى، ألقيت بنظرة بعيدة إلى الفضاء أعقبتها بنظرة أخيرة مودعة صديقى «المانيكان» وأنا أوصد نافذتى - كعادتى - بابتسامة، لكنها هذه المرة كانت أكثر رمادية من سماء ديسمبر •