الإثنين 17 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

متأسف ياست روزا..!!

متأسف ياست روزا..!!
متأسف ياست روزا..!!




أنهيت بالقارئ فى مقالى السابق إلى قيام الوزارة العدلية، كاشفة عن بعض تأملاتى فى رئيسها المغفور له عدلى يكن باشا، كما أثبت كيف أن مكرم عبيد أخذ يتدخل فى أمر الصحافة الوفدية ويفرض عليها أحياناً إرادته..
• على نار..
كانت فترة محمومة من الانتظار تلك التى عبرت بها مصر فى الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر سنة 9291.
وليس هذا بالأمر المستغرب، فقد كانت الأمة تكابد هزة عنيفة فى حريتها وفى صحافتها وفى رجال اصطفتهم للدفاع عن قضيتها، وهو اصطفاء مرتجل جرى بدافع أنهم رجال كانوا يعملون بدافع سعد العظيم القائد الأول للثورة المصرية.
وكانت الصحافة خاصة قد نزلت بها محنة شديدة قاست من أجلها ألوان العسف والتشريد، ولعل بعض الصحفيين وأنا منهم، كانوا من أشد الناس استشعاراً بحرج الموقف وضيق العيش واضطراب النفس، كان الصحفى يعيش وجريدته على كف عفريت يطلع عليه النهار فلا يدرى إن كان غذاؤه سيكون (لحمة وخضار) أو أنه سيأكل من (إدرة) الفول المدمس تمهيداً لاتباع نظام التنحيف فى الأكل مما خف وزنه وخف ثمنه!!
وبالجملة كانت محاولة محمد محمود باشا الأولى من نوعها فى تغيير عُرف جرى عليه الناس فى النظر إلى السياسة المصرية ورجالها، وهى تجربة لا أنزهها عن القسوة مهما صنعت عقيدة صاحبها وترفعت عن العناد الشخصى وحب الغلبة للظفر بوسامات البطولة فى الإصلاح، الإصلاح الذى لا يعرف المهاودة والأخذ باللين والنهى، وإنما يقوم على السيف والنار، يقطع ويطهر ويصل إلى الغرض المنشود وسط العويل والصراخ.
وأبين ما تدل عليه تلك المحاولة أن محمد محمود باشا كان وقتئذ رجلاً ينشد الإصلاح ولا يعبأ بالأمور وتصريفها وفاقاً لما جرى به العرف السياسى فى البلاد، وهو عرف يمت إلى ثورة 9191 ويقوم على عبادة بعض الزعماء، وهى عبادة قوامها الشعور الملتهب ومعينها العاطفة المجردة، وليس للعقل الهادئ دخل فيها.
وكان من جراء ذلك أن اصطدمت نزعته الإصلاحية الخالصة بشعور الأكثرية الغالبة من الأمة، والأمة فى ذلك الوقت كانت تؤمن - كما كنا نؤمن نحن - بالنحاس وشيعته، تأسرهم كلمته، وتحرك جموعهم عبارته، وكان الناس، كما كنت، يرون فى النحاس باشا شهيداً وصاحب رسالة، لأنهم هم أنفسهم شهداء، ويحسون فى أعماق نفوسهم برسالة مبهمة، فهم والحالة هذه يلتفون حول قائد الجماهير الذى يلهب حماسهم ويحدثهم بما يجول غامضاً فى نفوسهم، وهم لا يعبئون بحقائق الأشياء، ولا يناصرون من يحاول أن يقدم الحقائق إليهم مجردة عن الزخارف، وهذه مرحلة من مراحل الجهاد يقضى بها منطق الحوادث والظروف التى تتضافر على تغيير وجه الحالة الاجتماعية والسياسية فى قطر من الأقطار.
• تسليم البضاعة...
من أجل هذا كانت الأمة تترقب بفارغ الصبر انتهاء مهمة وزارة عدلى يكن ورجوع النحاس إلى الحكم وعودة دستور البلاد.. وكان أن تولى النحاس باشا الوزارة فى أوائل يناير سنة 0391، ورجع دستور البلاد، وصدر العدد رقم 451 بتاريخ 7 يناير سنة 0391 وبداخله صورة كاريكاتورية تمثل النحاس ممسكاً بدفة السفينة وعدلى باشا واقفاً على الشاطئ يرجو له أطيب الأمانى وهو يقول :
آدى السفينة بصاريها ودفتها..
        وآدى الــقــــلوع الجدد لسه بلفتها
الخرق سديته، رخرت النار وطفتها
       والوحل صفيته من قاعها لحافتها
أرخى قلوعها وسير يا مصطفى بيها
      واجعل أمانينا مرساها ودفتها!!
• الوزارة الوفدية..
وسارت سفينة الوزارة الوفدية بالقلع والمقداف تدفعها أنفاس أمة تتوق إلى الاستقرار وتحقيق أمانيها فى الاستقلال وحسن التفاهم مع الإنجليز..
وكان هدف الوفد الأول فى سياسته الخارجية، المفاوضة مع الإنجليز على أساس جديد غير أساس مشروع معاهدة محمد محمود - هندرسن، وكان هدف الوفد فى سياسته الداخلية وضع قانون يقدم إلى المحاكمة كل من يمس دستور البلاد ويعمل على النيل منه!!!
لهذا لم يكن عجيباً أن يتشاءم المتشائمون من قرب نهاية الوزارة الوفدية، وانطلقت الشائعات تملأ الجو بكل عجيب نظراً إلى خطورة المهمتين اللتين تريد إنجازهما.
وارتفع للمنجمين سعر... وظهرت بعض المجلات تحمل على صفحاتها آراء وتخمينات وكنت فى عداد هذه المجلات!
وللمسألة حكاية..
حضر إلى مصر فى ذلك العهد المستر أوفاريل مراسل الأهرام بلندن فى إجازة قصيرة، واجتمع بنا ليسر إلينا أن الوزارة لن تعمر طويلا  لأسباب لم يشأ أن يكشف عنها، فكان أن قابلت أقواله بالعناد وأخذت أنشر أقوالا لمنجمين لم أعرف يوما لون سحنتهم، وأنا أبتهل إلى الله أن يطيل فى حياة الوزارة للوطن - كما كنت أعتقد - ولمجلتى أيضا، وذلك بحكم أننى كنت غارقة فى الديون من جراء المصادرات السابقة الذكر.
• متأسف يا سيدة روز!
ومما هو جدير بالذكر أننى تلقيت يوم قيام الوزارة الوفدية تهانى عديدة من تجار الورق وحروف الطباعة فعجبت!
وشغلت بمولد قيام الوزارة، وسرت أتقدم زفة الصحافة الوفدية وهى تطلق أعذب الألحان ابتهاجا بفتح البرلمان، وعودة الحياة النيابية، ثم سرعان ما أفقت بعد ذلك على إنذارات أصدقائى التجار أصحاب التهانى السابقة الذكر!
وبعد جلسة طويلة مع زميلى الأستاذ التابعى راجعنا فيها دفاتر الماضى والمستقبل، وتحدثنا بلهجة رجال المفاوضة، اتفق الرأى على أن أذهب إلى مكرم عبيد لأطلعه على المأزق الذى نحن فيه، فذهبت لمقابلة الأستاذ مكرم فى منزله ومعى رزمة من الإنذارات بالدفع الذى دونه الغلق والموت الزؤام للمجلة وصاحبتها!
استقبلنى مكرم عبيد وعلى وجهه تلك الابتسامة العريضة التى يخيل إلى رائيها أنها تقول كل شىء وترحب بكل شىء وتجيب كل شىء، وهى فى الواقع لا تقول ولا ترحب ولا تفعل شيئا!
وبعد أن أنهيت إليه حقيقة موقفى من الدائنين وسردت له أنواع الخسائر التى تكبدتها أثناء قيام الوزارة المحمدية، أجابنى:
- متأسف يا سيدة روز.. لأن دولة الباشا مش عاوز يعمل زى محمد محمود ويدفع فلوس للجرائد!
وتأسفت بدورى لأنى أنزلت نفسى، تحت تأثير حاجة مشروعة، إلى طلب المساعدة.. ولكن سرعان ما تلاشى هذا الأسف بتأثير فرحتى.. نعم فرحت إذ رأيت القوم يحجزون أموال الدولة عن أصحاب الجرائد، يضنون بالمليم على كل إنسان، حتى على من فقد ما يملك فى سبيل الانتصار لقضيتهم! •


هامش الحلقة
ورحلت وزارة محمد محمود باشا غير مأسوف عليها، ويتولى رئاسة الحكومة «عدلى يكن باشا» رئيس حزب الأحرار الدستوريين ورغم معارضة «روزاليوسف» له بالمقالات والكاريكاتير إلا أنه لم يغضب مما دعا «روزاليوسف» أن تصفه بالرجل الجنتلمان.
وفى تلك الفترة ازداد تدخل «مكرم عبيد باشا» سكرتير الوفد فى أمور الصحافة، ثم ترحل الوزارة ويأتى الوفد إلى الحكم ويرأس «مصطفى النحاس باشا» الحكومة. وترسم «روزاليوسف» غلافا يصور «عدلى باشا» وهو يتمنى التوفيق للنحاس باشا.
فى ذلك الوقت كانت مجلة «روزاليوسف» تعانى ضائقة مالية بسبب ديونها الباهظة، فعقدت اجتماعا طارئا مع الأستاذ «محمد التابعى» واتفقا على عرض المشاكل المادية على زعماء الوفد التى تدافع المجلة عن مبادئه وتهاجم خصومه!!
ولم تتوقع روزاليوسف صدمة رد مكرم عبيد باشا على حديثها بشأن ديون المجلة! •