مدرسة البنات طابور الصباح بين مصر وبريطانيا
حسن عبد ربه المصري وريشة كريم عبد الملاك
لم يدر ببالى ونحن نشترى شقتنا بذلك الحى الراقى منذ عام أنه سيأتى على يوم أصب فيه جام غضبى على من دبسنى فيها، ليس لعيب طرأ عليها، ولكن لسبب خارج عن إرادتى.
حكاية الغضب والكُره هذه بدأت منذ أسبوع واحد. فى بدايته أصبت بمغص حاد جعلنى أعتصر ألماً كلما ذهبت إلى دورة المياه.. فى نفس المساء حجزنا لدى طبيب متخصص أرهقتنا تسعيرة الكشف التى سددناها قبل أن أشرف بالجلوس فى حضرته.. كدت أنفجر ألما من طول الانتظار الذى كاد يفقدنى صوابى، لولا أنى سمعت الممرضة تنادى على اسمى.
استمع لى الطبيب.. وسألنى.. هل شربت مشروبات باردة فى خارج المنزل؟ أجبت بنعم.. نظر إلى وعيناه تتساءل.. شربتى إيه؟.. قلت عصير.. لم يدقق كثيراً ليسأل.. عصير نوع إيه؟.. طلب منى عينة من البول.. وأمر مساعداً له أن يحللها.. قبل أن تعطينى الممرضة الأنبوب البلاستيكى.. طلبت مبلغاً إضافياً من المال دفعه زوجى صاغراً.. فعلت ما طلب منى.. قدمت العينة للممرضة.. جلسنا فى صالة الانتظار المكتظة ننتظر النتيجة.. مرت حوالى ساعة.. تقدمت منى الممرضة بالروشتة.
سألتها.. إيه دى.. ردت بعد أن رفعت حاجبيها استغراباً.. ح تكون إيه؟؟ الروشتة يا مدام.. سألتها.. الدكتور كتبها من غير ما يُشفنى ؟؟.. ردت من طرف أنفها.. هو شاف التحليل.. وكتب لك الأدوية دى.. بصى فيها.. وإذا كان عندك أى استفهام.. قولى لى وأنا أشرح لك.. وأضافت فى استعجال.. الاستشارة زى النهارده.
تناولت منها الورقة.. تركتنى عائدة إلى حيث مكتبها.. جلست وهى تلتفت ناحيتى.. نظرت فى الورقة.. خمسة أدوية.. اثنان مضادات حيوية.. واثنان مطهران.. والخامس مرهم.. نظرت إلى زوجى.. كل ده؟؟.. ابتسم مهوناً على الأمر.. وقمنا منصرفين.
اشترينا الدواء.. عدنا إلى شقتنا.. حرصت على تناول جرعات الأدوية بشكل متتال حسب الإرشادات.. أدركت أننى فى حاجة للذهاب لدورة المياه كل ساعة تقريباً.. فى كل مرة أعانى.. وأصبر وأحتمل.. ذهب النوم عنى.. قلقت كثيراً وتقلبت فوق سريرى أكثر.
بعد خروج زوجى إلى عمله.. سقطت على فراشى من التعب والإرهاق ورحت فى غيبوبة.. لا أدرى كم مر على من وقت.. أزعم أنها كانت دقائق.. فتحت عينى على الصوت الصادر من طابور المدرسة الإعداية التى يفصلنا عنها شارع جانبى.
فى الظروف العادية لا تمثل أصوات البنات الزاعقة ضمن طقوس طابور الصباح أى مشكلة.. بالرغم من أن زاوية تركيب الميكروفون تكاد توازى الارتفاع الذى عليه شقتنا.. لكن اليوم مختلف.. لم أنم بصورة طبيعية.. المضادات والمطهرات أجهدتنى.. رأسى يكاد ينفجر.. فكرت كيف سيكون عليه حالى لو استمر هذا الوضع بقية الأسبوع؟
حاولت جاهدة أن أعود للنوم بعد انتهاء طابور الصباح وصعود البنات لفصولهن.. ولم أفلح.. أعددت لنفسى وجبة الإفطار.. قررت أن أشغل نفسى بالواجبات المنزلية.. صنعت كوبا من القهوة.. وجلست فى البلكونة أحتسيه وأنا أفكر فيما جرى لى.. هبطت على رأسى فكرة.. نهضت من فورى لتنفيذها.
غيرت ملابسى بسرعة.. اجتزت عرض الشارع.. قلت لبواب المدرسة.. عندى موعد مع حضرة الناظرة.. سمح لى بالدخول.. لم أجد مشقة فى التوجه إلى مكتبها.. قابلت إحدى الدادات.. طلبت منها أن تبلغ حضرة الناظرة بأننى أرغب فى لقائها لمدة دقائق لأمر مهم.. كنت أتوقع أن تسألنى.. هل أنا ولية أمر تلميذة هنا فى المدرسة؟؟ .. لكنها لم تستفهم. ربما بسبب علامات الإجهاد البادية على وجهى.. سمحت لى الدادة بالدخول.. من خلف مكتبها تفحصت سحنتى.. لا أدرى ماذا جال بخاطرها .. مدت يدها بالتحية .. أشارت إلى أن أجلس.. جلست.. دققت النظر فى وجهى.. وقالت.. ما أظنش حضرتك ولية أمر تلميذة عندى ؟؟ هززت رأسى وأنا أقول.. لأ.. اعتدلت فى جلستها متخذة وضع التحفز.. ممكن أعرف الخدمة اللى أقدر أقدمها لحضرتك؟؟
نظرت إليها باستعطاف.. وشرحت لها معاناتى الليلة الماضية باختصار.. تلون وجهها.. من التقطيب إلى الاستهجان إلى الإنكار.. شعرت للحظة أنها ستطلب منى مغادرة مكتبها قبل أن تُقدم على تصرف لا يسرنى . أو تنادى الدادة لإخراجى عنوة.. فى النهاية سألتنى.. وعيزانى أعمل لك إيه؟؟.. ألغى طابور الصباح علشان حضرتك تعرفى تنامى؟؟.. رددت من فورى.. أبدا.. مش ده قصدى.. كل اللى بأرجوه.. حضرتك توجهى الميكروفون بعيداً عن شقتى بقية الأسبوع.. لحد ما أخف.. وترجعيه تانى.. عكست معالم وجهها أنى قلت كلاماً غير قابل للتنفيذ.. لم تُعلق.. ولم ترد على وأنا أعتذر لها أنى ضيعت بعضاً من وقتها.. مددت يدى لتحيتها.. سبقتنى برفع سماعة التليفون.. واكتفت بأن تشير برأسها مودعة.. تمنيت وأنا أترك مكتبها أن تكون مكالمتها الهاتفية من أجل العمل على تحقيق مطلبى الذى ظننت أنه بسيط.. أمضيت بقية النهار بين إغماءات متقطعة ودخول متتال لدورة المياه.
حكيت لزوجى زيارتى لناظرة المدرسة .. استغرب على حالة الشجاعة التى شملتنى.
زادت ساعات الليل من معاناتى.. لم أنل قسطا وافيا من النوم.. أشرقت على شمس النهار وأنا فى حالة يُرثى لها.. سقطت فى فراشى.. انتبهت على زعيق الميكروفون.. أصوات البنات تتبارى فى الصياح.. صدم أذنى صوت حضرة الناظرة وهى تطالبهن برفع أصواتهن أكثر وأكثر.. وبررت ذلك بقولها.. عايزين نصحى الناس الكسالى اللى لسه عايزين يناموا..
مدرسة لندن الثانوية المختلطة..
تقضى التقاليد التعليمية قبل نهاية الفصل الدراسى الأخير أن يَجتمع طلاب المدرسة مع هيئة التدريس ومسئولى الإدارة بفنائها الخلفى، حيث الملاعب وأكشاك الأنشطة ، بهدف الاستماع إلى خلاصة التعليمات والتوجيهات التربوية ذات الصلة بامتحان نهاية العام ، وتلك التى لها مردود إيجابى على مستوى علاقة مؤسسة التعليم بالتنمية البشرية ..
فى ذاك اليوم.. أعلمنا مدير مدرستنا أنه أضاف إلى أجندة التجمع هدفاً تربوياً آخر.. وهذا من حقه طالما أن الإضافة تدخل ضمن خطة التثقيف المجتمعى للطلاب..
أسمع همساً مكتوماً، معلش.. الصبر طيب..
إلى جانب المناهج التعليمية والبرامج التربوية تفرض الإدارات التعليمية فى بريطانيا على مدراء المدارس الإعدادية والثانوية تقديم فقرات تثقيفية لتقوية العلاقة بين الطلاب والمجتمع المدنى والبيئة التى يعيشون ضمن إطارها .. وأيضاً لتأهيل الطلاب لدورهم الفعال فى خدمة المجتمع بعد انتهاء دراستهم وبداية الحياة العملية.
نسبة كبيرة من الطلاب فى أوروبا بصفة عامة يكتفون بإتمام المرحلة الثانوية.. ويتجهون لشق طريق حياتهم العملية بجد واجتهاد.. بعضهم يسعى لإضافة تجارب عملية حياتية إلى ما حصل عليه من علوم دراسية.. وبعضهم الآخر ينزل لسوق العمل من أجل الاستقلال بشئونه دون طمع فى مزيد من التعليم.. والبعض الثالث ينجح فى الجمع بين العمل واستكمال الدراسة حتى يبلغ المستوى الذى يرتضيه لطموحاته أو تعينه عليه ظروف حياته.
دورات التثقيف المجتمعى يتحصل عليها المعلمون والمدراء مرتين خلال كل عام دراسى .. ومن ثم ينظمون لقاءات مع طلاب مدارسهم ليعرفوهم على كل جديد تحصلوا عليه.. ويضربوا لهم تجارب عملية من الحياة لتوثيق ما يتحدثون عنه بشكل نظرى.
طلاب المدارس الثانوية خاصة المختلطة يشكلون الشريحة الأكثر جدلاً على مستوى المناطق التعليمية فى بريطانيا.. فبالإضافة إلى المرحلة العمرية التى ينتسبون إليها.. وبداية تكوين ميولهم ومهاراتهم الرياضية وتفضيلاتهم للأندية التى يشجعونها والفرق التى يتابعون أخبارها.. واختياراتهم الحزبية والسياسية، هناك التنافس الأزلى لجذب أنظار الجنس الآخر.
لذلك يحرص مدراء المدارس على إفساح الوقت الكافى لكل طالب وطالبة لإبداء رأيه دون إسهاب أو إطالة .. ويركزون على منح من تتوافر لهم مقومات القيادة والزعامة تَصدر المشهد ضمن كل تجمع يعقدونه للتعريف بمحاور البرنامج التثقيفى لكى يكونوا قدوة لغيرهم.
فى ذاك اليوم.. حرص مدير مدرستنا على أن يدخل فى الموضوع مباشرة ، لأن اجتماعه المبكر بهيئة التدريس هذا الصباح أكد له صواب ما اعتزمه.
بدأ بتهنئة الطلاب بقرب نهاية العام الدراسى.. وتمنى أن يكون عنوان فصلهم التعليمى الأخير الاجتهاد ومزيد من التحصيل.. لكى يحققوا طموحاتهم ويضعوها فى خدمة مجتمعهم.
توقف على غير عادته لبرهة، وسألهم.. إن كانوا يعتقدون أن نسيان التقاليد المجتمعية فى هذا التوقيت من العام الدارسى يُبشر بخير فيما يتعلق بسلوكياتهم طوال فترة الاجازة الصيفية، أم لا؟؟.. التفت بعضهم لبعض.. ماعدا اثنين كانا يعرفان أنهما المعنيان بهذا السؤال.
رفعت واحدة من التلميذات يدها.. سمح لها المدير بالكلام.. قالت لو سمحت وضح كلامك حتى يكون رأينا مؤسساً على حقائق.
أحسنت.. هكذا بدأ المدير رده.. أمس أثناء عودة بعض الطلاب إلى مبنى المدرسة بعد انتهاء حصصهم الرياضية بأرض التدريب القريبة.. تبادل اثنان من الطلاب حديثاً غاضباً وثائراً.. اتهم أحدهما الآخر بالأنانية التى ضيعت على فريقه هدفين مؤكدين.. لأنه رفض أن يمرر له الكرة.. رغم محاولات لفت نظره أكثر من مرة.
صمت المدير لبرهة.. ثم أضاف: وياليت الأمر اقتصر على الكلام.. إذ إن الموصوف بالأنانية، لم يرض أن يوجه إليه زميله مثل هذا الاتهام.. وبدلاً من أن يعتذر له أو يشرح له وجهة نظره.. هم أن يشتبك بالأيدى معه فى الشارع وأمام المارة وراكبى السيارات الخاصة والعامة، لولا تدخل أصدقاء الطرفين.
مرت فترة صمت.. واصل المدير حديثه.. لذلك قررنا أن يعاقب الاثنان بسبب إضرارهما بحقوق المجتمع المدنى وتعديهما على مبادئ الأخلاق العامة.. بأن يمضيا خمس عشرة ساعة على امتداد الثلاثة أسابيع القادمة فى خدمة المجتمع.. الموافق على هذا العقاب يرفع يده.
رفعت الغالبية أيديها.
شكرهم المدير.. وطلب من المذنبين أن يلحقا بمكتب نائب المدير بعد انتهاء اليوم الدراسى لمعرفة تفاصيل الخدمة التى سيقومان بها ويوقعان على التعهدات المرتبطة بذلك.. ثم نظر ناحية هيئة التدريس.. ثم ناحية الطلاب.. اعتذر للجميع عما يكون قد سببه لهم من إزعاج وتعطيل.. وطالبهم بالتوجه إلى قاعات الدرس.•