الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«الله يا ست»

«الله يا ست»
«الله يا ست»


الكلمات.. أم اللحن؟!
الصوت.. أم الأداء؟!
المعنى.. أم الإحساس؟!
ما الذى يشدك إلى الأغنية؟!
سؤال لطالما شغل تفكيرى، وأخضعته للتفكير والتحليل مرات.
أحيانا أحب أغنية وأبحث عنها لأسمعها رغم عدم إعجابى بالمطرب أو المطربة.. وكثيرا ما وجدت أن الإجابة تختلف حسب حالتى النفسية وقت سماعى للأغنية أول مرة.
يظل هذا السؤال مطروحا فى ذهنى،  ولكنه يختفى تماما عندما تبدأ هى فى الغناء.. الله يا ست.
أم كلثوم هى حالة فريدة، لم تتكرر، اجتمع فيها كل هذا فى كل أغنية قدمتها، وعاشت - كما هى - رغم مرور السنوات.. فى مرحلة ما كنت صغيرة وقررت ألا أسمع أم كلثوم فى الحفلات! أعلنت - وقتها - أننى أشعر بالملل من تكرارها مقاطع الأغنية أكثر من مرة، ولكنى بعد عدة سنوات، كبرت طبعا وبدأت أسمعها من جديد.. وضبطت نفسى أفعل تماما ما كان يفعله جمهورها الحاضر للحفلة، تصفيق، وتهليل ومطالبة بالإعادة.. لماذا؟ لأننى اكتشفت أن كل مرة تعيد فيها «الست» المقطع، هناك إحساس جديد وأداء مختلف.. فى كل مرة تضيف أم كلثوم معنى جديدا للكلمات.. بالصوت، وبالانفعال، بل بحركة الجسد ونظرة العين.. فى الحفلة، أنت تسمع «الست»، وتراها.. فتجد أغنية جديدة كل مرة.
• قصائد
تبدأ الأغنية بكلمات جميلة.. مبهرة.
«أكاد أشك فى نفسى.. لأنى.. أكاد أشك فيك وأنت منى»، ثورة الشك كلمات الأمير عبدالله الفيصل وألحان رياض السنباطى.
رغم جمال الأغنية كلها، كلمات ولحنا ومعانى جديدة، إلا أننى أستمع لها انتظارا لمقطع النهاية.. تنتهى الأغنية بنفس الأبيات.. أكاد أشك فى نفسى.. ولكنها فى النهاية تختلف تماما.. نفس الكلمات ونفس اللحن، ولكن أم كلثوم تغيرت.. بعد كل ما قالته عن حبها ودهشتها وصلت للنهاية ووصلنا معها «أجبنى..» وفجأة تعود للشك منفعلة غير مصدقة لإحساسها هذا. يدفعك أداؤها للنهوض واقفا والغناء بصوت عالٍ، كما تفعل هى.
هل جربت هذا الإحساس؟
أنا جربته.. إنه إحساس رائع.. أحب أن يشعر به كل الناس، ولهذا أدعوك للاستماع للأغنية من جديد، ومع مقطع النهاية.. استمتع.
فى قصيدة أخرى تغنى أم كلثوم: أراك عصى الدم.. شيمتك الصبر.. أما للهوى نهى عليك ولا أمر».
ثلاث دقائق كاملة تعيد أم كلثوم هذه الكلمات، مرة وراء مرة، وراء مرة، قبل أن نصل إليها وهى تنطق «نعم».. تخيل فى كل مرة تستمع بشكل وإحساس مختلفين.. نعم.. تأكيد  هذه «النعم» استغرق ما يقرب من عشر دقائق.. نعم.. نعم.. نعم أنا مشتاق وعندى لوعة.. ولكن مثلى لا يذاع له سر.. كم هو جميل أن تقرأ هذه الأبيات للشاعر أبوفراس الحمدانى.. ولكن غناء أم كلثوم شىء آخر.. إحساس غريب، ليست له علاقة بحالتك أنت، فنحن هنا نعيش حالتها هى.. وتغمرنا مشاعرها هى، ونتخذ موقفها هى.. بعد أن سمعت هذه الأغنية قررت ألا أبكى.
كانت دموعى - وقتها - تنهمر فى أى موقف مهما كان بسيطا.. كأن تسألنى أمى - مثلا - لماذا تأخرتِ؟ لم أكن أستطيع الرد فأجد دموعى قد انهمرت.. ولكن بعد أراك عصى الدمع اتخذت القرار، ودربت نفسى ألا أبكى «عمال على بطال» فقد أعجبت بهذا الإحساس بعزة النفس ورفض البكاء.. ونجحت.
•حيرة
ما بين بعدك    وشوقى إليك
وبين قربك    وخوفى عليك
دليلى احتار
دائما ما يبهرنى قدرة الشعراء على صياغة المعنى الذى يريدون التعبير عنه فى كلمات جميلة.. ولكنى متأكدة أن أحمد رامى كان أكثر انبهارا منى وهو يستمع لها.
ولما القرب يجمعنا            أفكر فى زمان بعدك
وأخاف يرجع يفرقنا    وأقاسى الوجد من بعدك
هى تدفعنا للحيرة معها فى نهاية كل كوبليه «دليلى احتاااار»!
نعم الحيرة مع أم كلثوم لها مذاق ممتع، احتار دليلها، وأيضا احتار قلبها.. وقلوبنا.. وهى تدارى وتخبى..
حيرت قلبى معاك    وأنا بدارى وأخبى
وفى مقطع النهاية تصل الحيرة إلى حالة من الإبداع اللا منتهي:
خاصمتك بينى وبين روحى
وصالحتك وخاصمتك تانى
وأقول أبعد، يصعب على روحى
تطاوعى ليزيد حرمانى
الآن تخيل كيف تقول الست «يصعب».. تعيد، وتكرر وفى كل مرة «يصعب» مختلفة.. أما «تطاوعنى» فهى الإبداع الغريب، لأداء كلمة عادية، ولكنها تجسد فيها كل معانى الحيرة واللوعة، والخوف، والحب، والألم، وأيضا الفرحة.
• رق الحبيب
تظل هذه الأغنية هى الأقرب إلى قلوب آلاف من محبى أم كلثوم.
الصورة الشعرية، المعنى، القصة وراء تأليف أحمد رامى للأغنية.. ثم بالطبع الغناء.. الست على المسرح وهى تقول:
سهرت أستناه وأسمع كلامى معاه
كم أعادت أم كلثوم غناء هذا البيت.. كثيرا.. جدا جدا..
من كتر شوقى سبقت عمرى
وشفت بكره والوقت بدرى
عبقرية اللحن فى هذا البيت تبهرنى حقا.. اختلاف اللحن بين شطرى البيت أبدع فيها القصبجى، من وجهة نظرى، كما لم يبدع من قبل.. أما غناء أم كلثوم له فهو ما يمكن أن نفسر به المعنى الحرفى لكلمة الإعجاز.
وكالعادة تأتى الضربة القاضية فى مقطع النهاية:
ولقيتنى خايف على عمرى ليروح منى
من غير ما أشوف حسن حبيبى
عظمة على عظمة.. يا ست •