الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مصــر بــين دستورين

مصــر بــين  دستورين
مصــر بــين دستورين


ابتداء من 25 يناير 2011 لم تعد مصر هى مصر؛ قامت ثورة يناير وهى باعتراف الخصوم قبل الأصدقاء كانت درسا لا ينسى؛ وسيظل إلهامها لسنوات طويلة قادمة فى سلميتها ونقائها وعظمتها؛ وبعد الثورة سقط دستوركان قائما؛ وعاد الجميع يطالب بدستور جديد؛ ونظرا لأنه الآن لا كلام إلا عن الدستور؛ فعادت المقارنة والمفاضلة بين عدد من الدساتير المختلفة؛ دون أن يخلو أى حديث منها من الهجوم الحاد على دستور 1971 والتنديد به؛ وفى ذات الوقت علت أصوات الفقهاء الدستوريين بالترحم على دستور 1932 الذى سقط عام 1935 بعد ثورة يوليو.
 
هذا الكلام جاء فى مقدمة كتاب «مصر بين دستورين» أحدث كتب الكاتب الصحفى رشاد كامل الصادر عن دار «ميم» للطبع والنشر والتوزيع؛ وفيه يتحدث الكاتب عن فترة من أهم الفترات فى التاريخ المصرى؛ وهى الفترة التى وضع فيها دستور 1932 أو دستور الأمة؛ ودستور1930 والذى أطلق عليه البعض دستورالسلطان؛ والمعروف باسم «دستور صدقى باشا» رئيس وزراء مصر وقتها.
 

 ∎ ضحايا وخطايا
 
يذكر الكاتب رشاد كامل بعضا من الأسرار والكواليس السرية التى كانت دائرة بين القصر وحزب الوفد وزعيمه سعد زغلول فيقول:لم يكن خافيا على أحد أن دستور 1932 الذى كثر الحديث عنه فى الأيام الماضية حتى الآن قد صدر رغم أنف الملك فؤاد الأول؛ بل إنه كان من أسعد الناس عندما وصف سعد باشا زغلول اللجنة المنوط بها إعداد الدستور وكتابته بأنها «لجنة الأشقياء» التى قاطع حزب الوفد الاشتراك فيها.
 
ويشير الكاتب إلى أن الملك فؤاد لم يفهم وقتها السبب الحقيقى وراء اعتراض سعد زغلول ومقاطعته لأن سعد باشا كان يرى وجوب صياغة الدستور بواسطة «جمعية تأسيسية منتخبة» وليس بواسطة لجنة حكومية يتم تعيينها؛ حتى لا يكون الدستور منحة يسهل التلاعب بها.
ويضيف الكاتب أن عبدالخالق ثروت باشا رئيس الوزراء فى ذلك الوقت والذى كان يطمح إلى وضع دستور يليق ببلاد تطمع فى الرقى؛ وشكلت اللجنة من ثلاثين عضوا يمثلون طوائف الأمة؛ ورأس هذه اللجنة «حسين رشدى باشا» واستغرقت اللجنة فى عملها نحو خمسة وخمسين جلسة؛ من المناقشات الفقهية والقانونية والوطنية؛ ويشير الكاتب أن بعض الآراء فى ذلك الوقت كانت ترى أهمية تطبيق مبدأ «أن الأمة هى مصدر السلطات» بينما كان البعض الآخر يرى وقتها أن مصر لم تبلغ بعد من مراحل التعليم والثقافة البرلمانية ما يؤهلها لأن تقوم بمثل هذا العمل الخطير؛ وبالتالى الأفضل هو تعيين اللجنة كما كان؛ ومن هنا نشأ الخلاف بين ثروت باشا والملك فؤاد الذى لم يرض عن دستور 1932 مطلقا؛ بل وأخذ يتحين الفرص لإلغاء هذا الدستور أو تعطيله.
 
ويقول الكاتب رشاد كامل إن لجنة الثلاثين التى رأسها «حسين رشدى باشا» استطاعت أن تكمل عملها وتنجزه؛ فقدمت اللجنة إلى ثروت باشا الدستور الجديد؛ الذى قدمه بدوره إلى الملك فؤاد كما وضعته اللجنة؛ ولكن الملك فؤاد لم يمل إلى إصداره؛ لأنه يغل من سلطاته؛ ويجعل الحكم مرجعه إلى الشعب؛ وهذا ما لا يريده الملك فؤاد؛ ولكن تحت الضغط الواقع عليه تم إصدار الدستور والعمل به بعد أن حدثت بعض التغييرات عليه إرضاء للحكومة البريطانية ومندوبها السامى؛ وذلك بعد ترحيب من جميع الهيئات والأحزاب «باستثناء حزب الوفد» بحجة أن وجود دستور مهما كان معيبا أفضل من عدم وجود دستور؛ ووافق الملك الذى كان يضمر بداخله تصميم عجيب على إلغاء هذا الدستور وقتما تسنح له الفرص بذلك؛ وبالفعل تمكن الملك فؤاد من تعطيل دستور 1932 بل وفرض دستور 1930 على يد «إسماعيل صدقى باشا»؛ وهو الأمر الذى أغضب الشعب المصرى كله.  
 
وينتقل الكاتب بنا بين صفحات كتابه «مصر بين دستورين» إلى بعض الكواليس والأسرار الجديدة التى أحاطت بهذين الدستوريين فيقول إن إسماعيل صدقى باشا؛ عندما علم برغبة الملك فؤاد فى أن يتولى صدقى باشا رئاسة الوزارة الجديدة خلفاً لمحمد محمود باشا؛ اشترط على الملك «أن يمحو آثار الماضى بما له وما عليه؛ وأن ينظم الحياة النيابية تنظيما جديدا يتفق ورأيه فى الدستور واستقرار الحكم»؛ ونظرا لكراهية الملك فؤاد لدستور 3291 الذى كان يرى أنه انتقص من سلطاته واختصاصاته؛ ولذا حدث الاتفاق والتوافق بينهما؛ فتم إلغاء دستور 3291 وظهر دستور 1930 دون أن يهتم أى منهما بالشعب والرأى العام؛ فكان هذا الدستور مثار جدل وهجوم شديدين حتى الآن.
 
ويستطرد الكاتب موضحا أسباب هذا الهجوم فيقول: ربما كان السبب الحقيقى وراء هذا الهجوم والجدل كراهية الشعب المصرى لصدقى باشا؛ الرجل الذى لقبه خصومه بعدو الشعب؛ بل ووصفوه أيضا بأنه «عدو الدستور»؛ ويقول الكاتب «أن صدقى باشا كان حالة نادرة واستثنائية فى تاريخ مصر فهو الرجل الذى شارك فى ثورة الشعب عام 1919م وتم نفيه مع سعد زعلول وهو نفسه الذى أصبح كارها للشعب وخصما لدودا له ودلل الكاتب على ذلك بمقولة صدقى نفسه حينما قال قوله المأثور عن الشعب بأنه «شعب تجمعه طبلة وتفرقه عصا»؛ ويضيف الكاتب أن «إسماعيل صدقى باشا لم يكن يعبأ كثيرا بكلام المثقفين والكتاب عن الشعب والرأى العام؛ ولم يكن يهتم بنبض الجماهير أو مشاعرهم وخاصة البسطاء منهم»؛ ويقول الكاتب فى هذا التوقيت الحرج من تاريخ مصر كان قد ظهر على الساحة الثقافية مجلة «روزاليوسف» التى اتخذت جانب الشعب؛ ودافعت عن حقوقه بعد أن تم تشكيل وزارة إسماعيل صدقى باشا؛ حيث أدرك الشعب المصرى بحساسيته؛ ومن خلال المعارك التى خاضتها روزاليوسف للدفاع عن دستور 1923 فأدرك الشعب أن النية كانت مبيتة مسبقا ضد هذا الدستور؛ وهو ما كان.
 
ويقول الكاتب رشاد كامل: إسماعيل صدقى باشا لم يتعود أن يتملق الجماهير أو ينافقهم؛ ولذا اعترف «دون لف أو دوران» على حد وصف الكاتب؛ أن الضرورة هى التى جعلته يلجأ إلى إبدال دستور بدستور؛ مبررا ذلك بأن تاريخ الحياة النيابية حافل بمثل هذه المواقف؛ كما اعترف صدقى باشا وقتها بأن الصحافة هى أقوى سلاح تمت محاربته به؛ مؤكدا أنه لو كانت لديه صحافة مؤيدة قوية لما استطاع خصومه أن ينجحوا فى محاربة دستور 1930 الذى كان من أرقى دساتير العالم على حد وصف صدقى.
 
∎ عدو الشعب
 
بعد اعتراف صدقى باشا بعدوه الأكبر وهى الصحافة؛ ونظرا لمهاجمتها لـ «صدقى باشا ودستوره الجديد»؛ ونظرا لإيمانه بأهمية الصحافة وقوتها ؛ كون حزب الشعب وأصدرجريدته باسم «الشعب» على الرغم من كراهيته الشديدة للأحزاب والحياة الحزبية؛ إلا أنه رأى ضرورة إنشاء هذا الحزب ليستكمل حكمه كل ألوان الشرعية من حزب وبرلمان وأغلبية وجريدة؛ دون أن يكون لديه جوهر الشرعية؛ وهو التأييد الحقيقى لأغلبية المواطنين؛ وإن كان صدقى قد اتخذ فى سبيل ذلك «أن لجأ إلى العمد والمشايخ فى الريف؛ وأجبرهم على توقيع استمارات تثبت عضويتهم فى الحزب»؛ ومع ذلك فقد هاجم الجميع الحزب بقسوة لأنه كان أشبه بالنكتة السياسية المريرة التى لا يضحك عليها أحد، ولذا أطلق الشارع على الحزب الجديد حزب الأشباح.
 
هذا عن الحزب أما عن الجريدة فيقول الكاتب رشاد كامل أنها كانت جريدة لا يقرؤها الشعب؛ بل إن صدقى باشا نفسه قد عانى كثيرا عندما فكر فى اختيار رئيس تحرير لها؛ حيث فشل فى استقطاب «دكتور محمد حسين هيكل باشا» لرئاسة تحريرها؛ وكذلك رفض «الدكتور طه حسين» ذلك عندما أرسل إليه صدقى باشا بهذا التكليف؛ وكان أن تم فصل الدكتور طه حسين من وزارة المعارف العمومية نتيجة لهذا الموقف؛ وعلى الرغم من كل هذه العراقيل لم يكف صدقى باشا عن رغبته فى إصدار الجريدة؛ وبالفعل صدرت ولكنها تحمل اسم محامٍ مغمور قادم من المنصورة اسمه «عبدالمجيد نافع».
 
ويذكر الكاتب رشاد كامل أن إسماعيل صدقى باشا لم يكن عدوا للشعب فقط وإنما كان عدوا للصحافة والصحفيين أيضا؛ فقد أغلق العديد من الصحف؛ وصادر العديد من المطبوعات؛ ويشير الكاتب إلى أن صدقى باشا أصدر قانونا للصحافة؛ يشترط ألا يتولى أى صحفى محكوم عليه فى جريمة صحفية رئاسة تحرير الصحف وبالتالى حرم الكثيرين من أن يكونوا رؤساء تحرير صحف؛ وبدأت الصحف تستأجر أسماء مجهولة لتضعها على صدر صفحاتها الأولى.
 
يقول الكاتب رشاد كامل أنه ليس صحيحا أن إسماعيل صدقى رئيس الحكومة ألغى دستور 23 فجأة ودون سابق إنذار؛ ولكن فكرة تعديل الدستور كانت قد خطرت أيضا على بال محمد محمود باشا عندما كان رئيسا للحكومة سنة 1928 حيث قام بتأجيل البرلمان لمدة شهر؛ ثم حله بعد ذلك وإيقاف الحياة الدستورية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد؛ حتى يتم تعديل الدستور؛ ولكن ذلك لم يحدث وذهب محمد محمود وجاء إسماعيل صدقى باشا وبدأ يتحدث عن تعديل الدستور فى العديد من اجتماعاته حتى استطاع أن يحل دستور 1930 محل دستور 1932.
 
ويشير الكاتب أنه فى وسط حالة الجدل التى كانت قائمة داخل القصر وبين أروقة الصحف وفى الشارع المصرى حول الدستور؛ لم يكن الملك فؤاد يتصور أن ينضم الأمراء والنبلاء لمقاومة دستور صدقى باشا؛ وزاد الأمر بعد أن وقع هؤلاء الأمراء على قرارات المؤتمر الوطنى الذى دعا إليه حزب الوفد والأحرار الدستوريين؛ ورفعوا هذه القرارات للملك الذى فوجئ بتوقيع الأمراء عليها؛ وقام الملك بدوره بحذف أسمائهم من كشوف الأمراء والنبلاء؛ وكما لم يسلم الأمراء من بطش الملك فؤاد؛ لم تسلم النساء كذلك من البطش بهن؛ بل وصل الأمر إلى حد اعتقال عدد منهن فى سابقة هى الأولى من نوعها فى ذلك الوقت؛ وبعد اعتقال النساء خرج الطلبة فى ثورة ضد الحكومة ووزرائها الجهلاء؛ وفى هذا التوقيت تم إنشاء جماعة حقوق الإنسان لمعارضة الحكومة وبالتالى امتدت المعارضة لسياسات صدقى الاستبدادية إلى خارج البلاد ووصلت إلى سويسرا وفرنسا؛وهو الأمر الذى أدهش صدقى باشا كثيرا؛ ولم يفلت القضاء والقضاة من اضطهاد حكومة صدقى باشا؛ بل تم التنكيل بهم واتخذ هذا التنكيل عشرات الأشكال حيث تم إصدار قرارات لانتدابات مصحوبة بتهديدات فى بعض الأوقات والإغراءات فى أوقات أخرى؛ كما تم نقل بعض القضاة؛ وتخفيض معاشات ؛ والتدخل فى أحكام القضايا؛ كما تم إحالة العديد من القضاة إلى المعاش لإصدارهم أحكاماً فى قضايا سياسية اعتبرتها الحكومة مخالفة لسياستها.
 
واستمر الحال كذلك حتى تم إلغاء دستور 1930 عام 1935 وعاد العمل بدستور 23 واستمر العمل به حتى قامت ثورة يوليو 1952.
 
«مصر بين دستورين» كتاب مهم ومفيد لكل من يهتم بالشأن الدستورى؛ خاصة مع ما نعيشه هذه الأيام من لغط حول صناعة دستور جديد للبلاد؛ ولذا نحن فى صباح الخير ندعو كل من يهتم بالشأن الدستورى لقراءة كتاب مصر بين دستورين