السبت 29 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رحل الخراط وبقيت الذكرى كان يحارب أهوال الحياة بالأدب!

رحل الخراط وبقيت الذكرى كان يحارب  أهوال الحياة بالأدب!
رحل الخراط وبقيت الذكرى كان يحارب أهوال الحياة بالأدب!


إسكندريتى. وجدٌ وفقدان بالمدينة الرخامية، البيضاء الزرقاء، التى ينسجها القلب باستمرار، ويطفو دائما على وجهها المزبد المضيء. إسكندرية، يا إسكندرية، أنت لؤلؤة العمر الصلبة فى محارتها غير المفضوضة.. هذه هى السطور التى بدأ بها إدوار الخراط روايته إسكندريتى، الذى غيبه الموت منذ أيام، بعد صراع مع المرض، عن عمر يناهز 89 سنة، وهى تقريباً  ذات السطور التى بدأ بها الخراط روايته المرموقة الأخرى عن الإسكندرية ترابها زعفران، الأديب الراحل وُلد فى 16 مارس 1926وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية، ويعتبر الخراط واحداً من الكتّاب المعاصرين، المجددين فى السّرد القصصى والروائى، وقد كان أوّل من نظّر لحساسية جديدة فى الأدب العربى، رافضاً الواقعية الاجتماعية التى كرّسها الأديب الكبير نجيب محفوظ، فى خمسينيات القرن الماضى.
 شارك الخراط فى الحركة الوطنية الثورية وتم اعتقاله فى مايو 1948 وتنقل بين معتقلى أبوقير والطور، ثم عمل فى منظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية فى منظمة الكُتاب الإفريقيين والآسيويين، إلى الوقت الذى قرر فيه أن يتفرغ لكتابة القصة القصيرة والنقد الأدبى والترجمة، صدر لإدوار الخراط أكثر من 50 مؤلفاً ما بين قصص وروايات وشعر ونقد.
يقول الخراط: لعلنى لا أعرف كاتبا آخر فى العربية توله بعشق هذا الموقع.. الحلم.. الواقع كما فعلت، ومهما كان من حفاوة كاتب مثل نجيب محفوظ بأزقة وحوارى الجمالية، أو كاتب مثل عبدالرحمن الشرقاوى، وغيره من كتاب الريف، بقراهم، فقد كانت المدينة الأرض عندهم فى نهاية الأمر، ديكورا خلفياً، أو فى أحسن الأحوال موضوعا أو ساحة للفعل الروائى، وتبقى الإسكندرية عند الخراط هى نفسها الفعل الروائى، بمعنى ما، هى قوة فاعلة وليست مادة للعمل ولا مكانا له.
• البداية
كانت البداية الفعلية للخراط مع بداية الوعى نفسه، مع بداية معرفة القراءة والكتابة، حيث كان فى العاشرة من عمره عندما كتب ما يشبه القصة القصيرة، وما يشبه القصيدة الشعرية، فكانت لصاحب ثلاثية «رامة و التنين» و «الزمن الآخر» و«يقين العطش» - كما يقول هو - نزعة تسعى إلى المعرفة وإلى التعبير عنها، منذ بداياته المبكرة.
تنوعت منابع ثقافة إدوار الخراط التى أثرت فى منجزه الإبداعى، ويقول الخراط عن تلك المنابع: التراث العربى بالتأكيد له أهمية كبرى، ثم يأتى بعد ذلك مثلاً الرواية الروسية الكبرى، ويصاحب هذا زمنيا أيضا الشعر الإنجليزى، أنا كنت ومازلت مفتونا بأشعار الرومانسيين».
غير أنه لا يمكن إغفال تأثير الجانب القبطى فى أعمال إدوار الخراط بالرغم من أنه كان يرفض أن يصفه أحد بالكاتب القبطى ويصر دائما على مصريته كما سبق أن قال فى حوار مع دويتشه فيله سنة 2010: «ما زلت أعتقد أن مصر بلد التسامح، بلد التعايش بين مختلف المعتقدات والطوائف والأفكار. ما زلت على قدر من التفاؤل فى هذا المجال».
«دفاع ضد أهوال الحياة والموت» تلك إحدى الرؤى الأساسية للأدب من وجهة نظر إدوار الخراط، لكن يبدو أن أدب إدوار الخراط كان أيضا دفاعا ضد النسيان.
• الرحيل
تشابه وجه الخراط بوجوه المصريين من حكاياتهم طيلة سنوات عمره التى ناهزت التسعين عاما. فهو قبطى وصعيدى من أخميم فى قلب الصعيد وسكندرى التربية والمنشأ، حيث انتقل إلى هناك مع أسرته فى سن مبكرة ليكمل مشوار حياته بها وليصبح واحدا ممن هاموا بها عشقا، وكتب عنها أجمل روايات، نجح  الخراط فى إرساء لونه الخاص من الكتابة فى ذروة تألق الكتابة الواقعية فى مصر على أيدى أسيادها أمثال نجيب محفوظ ويوسف السباعى، وعبدالرحمن الشرقاوى، وأخيراً رحل فى صمت وبقيت ذكراه فى ذاكرة الأصدقاء.
• الخراط وما خرط
حيث يقول الكاتب الروائى الكبير رؤوف مسعد: «بداية، لم أعرف إدوار معرفة جيدة فهو شخص خاص جدا «حسب التعبير الإنجليزى. أى أنه لا يكشف نفسه للآخرين، ولا يهتم بالنميمة الثقافية.. أى يمكننا أن نقول إنه لا يثق فى الآخرين عدا من يختارهم (!) هذه ثقافة أعرفها وأمارسها وأحاول الخلاص منها. إنها ثقافة «الأقلية» عرقية كانت أم دينية.. إلخ.. ولأنى أعيش على مراحل وأؤرخ لحياتى بالمراحل التى عشتها وأعيشها.. هناك مرحلة السودان المرتبطة أيضا بجزء من المرحلة المصرية حيث قدمت إلى مصر وأنا فى الحادية عشرة من عمرى لأقيم فى القسم الداخلى فى «كلية الأمريكان» بأسيوط. ثم مرحلة الجامعة وأنا أقيم فى القاهرة وهى مرتبطة بانضمامى لتنظيم ماركسى سرى بالطبع.. وهكذا ثم السجن وما بعده أى أن مرحلة السجن كانت فاصلة فى حياتى لأن «السجن» بقى معى بعد أن غادرته ولكنه لم يغادرنى.. تعلمت الكثير فى السجن وتعرّفت على إمكانيات لى لم أكن أظن أنها موجودة داخلى.. وفى السجن ارتبطت بصداقات طويلة مع أناس بقينا أصدقاء حتى رحلوا عن دنيانا. وفى السجن تعرفت على صنع الله إبراهيم، الذى برغم اختلافاتنا وخلافاتنا، عرفنى بشخصيات أعطت لحياتى معانى لم تكن واردة أصلا أنا ابن الأقلية داخل الأقلية، تعرفت على يوسف إدريس وعلى إدوار الخراط وعلى شريف حتاتة وعلى كمال القلش وعلى عبدالحكيم قاسم وعلى فؤاد حداد.. إلخ، لعل ثقافة الأقلية التى رضعتها مع حليب أمى جعلتنى أحاول الاستفادة من الآخرين.. استفادة وليس استغلالا (!) هكذا استفدت كثيرا من معرفتى بالخراط حينما ذهبت إلى شقته لأول مرة فى صحبة صنع الله إبراهيم الذى كان يعرفه. إدوار الخراط شجعنى على الكتابة الجادة واعتبار أن الكتابة مهنة جادة أيضا وليست مجرد هبوط الوحى والإلهام لكنها دأب وإصرار. الخراط هو من كشف لى عن المنحة المقدمة من اتحاد الكتاب البولنديين لاتحاد الكتاب المصريين الذى كان يرأسه أيامها يوسف السباعى ومع أنى لم أكن عضوا بالاتحاد إلا أن السباعى وافق على تقدمى للمنحة التى اعتبرتها ـــ حينما حصلت عليها ـــ نقلة أساسية فى حياتى على أكثر من مستوى: الثقافى والسياسى والجنسى حيث تعلمت احترام الأنثى وأنا فى بولندا واكتشفت المسح هناك وعرفت فشل التطبيق الشيوعى أيضا فيما كان يُطلق عليه «المعسكر الاشتراكي» بالطبع لم أكن ـــ أيامها ــــ أدرى بالتحولات التى أواجهها وأقبلها وتتقبلنى، لتعيد هذه التحولات تشكيلى الثقافى فى «خراطة» جديدة. تعلمت من الخراط كيف أكتب فقرات حسية وايروتيكية بدون أن تكون مبتذلة مثلما كتب فى «غيط العنب» ورواية «رامه والتنين» بل كان الخراط أحد القلائل الذين دفعونى دفعا إلى مواصلة الكتابة التى علمتنى الصبر على نفسى أساسا، علمتنى كيف أجلس لساعات طويلة يوميا لكى أكتب بضعة سطور.. يستحق إدوار أن نناديه بالخراط.. فهو مخرطة أيضا، مثل مخرطة الملوخية، يغير الكائنات من صيروة إلى أخرى.. وهو «ورشة خراطة» أيضا يعيد الأسطى النظر فى الموتور المحروق ليطببه ويضخ أجزاء جديدة فيه، يخرطها - يخلقها - لأنها غير موجودة فى السوق. لذا فهو «خرط» اصطلاح الحساسية الجديدة ليلائم إبداعا ظهر فى السبعينيات من القرن الماضى لم يكن له مسمى، فأصبح مدرسة قائمة بذاتها».
• الأستاذ
ثم يقول المؤلف السينمائى محمد حسان عاشور: «بداية الثمانينيات بدأنا عامنا الأول من أقسام مختلفة فى كلية الآداب جامعة القاهرة نصيب الأسد كان لقسم اللغة العربية ثم الفلسفة وأخيراً قسم اللغة الإنجليزية.
إلى جوار النهم الشديد للقراءة قررنا إنشاء مجلة وسميناها قصة، وكانت تتألف من الآتى أسماؤهم كهيئة تحرير وهم: صفاء الطوخى، ومنتصر القفاش، وناصر الحلوانى، ومحمد حسان عاشور، وسيد فاروق الذى انسحب لأسباب أيديولوجية.
كان الحدث الأكبر هو مسابقة القصة القصيرة التى أقامها اتحاد العمال المصرى وكان رئيس لجنة التحكيم الأستاذ إدوار الخراط وتقدم بعضنا للمسابقة وكانت النتيجة فوز كل من شارك من مجموعة قصة بجوائز ماعدا كاتب الموضوع وأثناء إعلان النتيجة تشجعت وتقدمت لخشبة المسرح أمام أكثر من ألف من الحضور وتوجهت للأستاذ إدوار
• أشمعنى أنا؟
- رد بهدوء وبحزم: كان لازم أبلَّغ عنك البوليس يمنعك من الكتابة بالقوة.
قررنا مجموعة قصة التواصل مع أهم كتاب القصة ونشر نصوص لهم ومحاورتهم.
كان المستجيب الأول الكاتب نبيل نعوم جورجى، ومنه حصلنا على وسيلة الاتصال بإدوار الخراط كنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى حتى وصلنا لبيته وحجرة صومعته وبعدما أجرينا معه الحوار ذكرته بنفسى فتذكرنى  وأكملنا باقى اللقاء فى النقاش حول واقع القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى ومصطلح الحساسية الجديدة.
وخرجت من هذا اللقاء تلميذا وصديقاً من حواريى إدوار الخراط، ومواظباً لسنوات طويلة على لقاء الأربعاء فى بيته والتقيت عنده ببهاء طاهر وبدر الديب وأمجد ريان وعدلى رزق الله ونبيل نعوم وشاركت فى احتفالية وزارة الثقافة بميلاده السبعين، ورغم كل هذه السنين لم يكتب عن كتاباتى حرفاً واحدا ولم أطلب منه الكتابة عن قصصى.
كان بيننا ما هو أكبر من أن استخدم صديقى فى الترويج لكتاباتى، وكان هو مثالاً للموضوعية المتشددة فلا مجاملة فى الإبداع ولا حتى ابتسامة عابرة عندما يستمع لنص لا يليق بالإبداع .
كان يحدق فى الكاتب وكأنه يسأله: من أين أتتك الجرأة لتكتب هكذا؟
عند الأستاذ إدوار تعلمت كيف أقرأ لوحة تشكيلية، وكيف أشاهد فيلماً، وكيف أستمع للموسيقى الكلاسيكية، وأيضاً كيف أقرأ الأغانى ونهاية الأرب وكتب التراث بعناية.
وتعلمت منه أن أقتنى طبعات متعددة لمبدع واحد وأبحث عن الفروق، وبدأتها بديوان المتنبى وكانت مناقشات مبدعة وثرية.
إدوار الخراط كان حائطاً عاليا تتلمذ على يديه أجيال ومازال قيمة كبرى ومازلت أحب أن أجلس بين يديه كتلميذ رغم أن الأستاذ إدوار كان يرفض بشدة منطق الأستاذ والتلميذ.
• الروائى الجديد
أمـا الكاتب الروائى الكبير عبده جبير فيؤكد أن الخراط كان يكتب قصة ورواية مغايرة عن التى كان يكتبها يوسف السباعى، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ وكان عندما ينشر قصصه، كانت تقابل باستغراب شديد ولكن عندما بدأ يظهر له أشباه أمثال بهاء طاهر وإبراهيم أصلان وعبده جبير وغيرهم، بدأ يظهر بقوة وتجلى هذا الظهور فى مجلة جاليرى 68 التى اهتمت بنشر هذا النوع المغاير من الأدب، وبدأت تثير نقاشات فى كل الجرائد المصرية والعربية وبالتالى أثارت فكرة الأدب الجديد والقديم، التى تناولتها العديد من الصحف، واقتربت لأن تكون قضية رأى عام بالنسبة للوسط الأدبى، حيث انشغل بها الكثير وبدأوا يلقون الضوء على كتاب هذا النوع من الأدب.
• رحل بصمت
وأضاف الكاتب الصحفى الكبير ورئيس تحرير مجلة «صباح الخير» الأسبق، لويس جريس، أنه ذهب مع رئيس تحريره آنذاك أحمد بهاء الدين، فى رحلة إلى موسكو وكوبا وهناك قابل إدوار الخراط حيث قضى فترة فى كوبا، شعرت فى البداية أنه شخص غريب جدا، حيث كان شديد الصمت والكتمان ونادراً ما يفصح عن عمل أدبى له، وربما تجلس معه وتتجاذب أطراف الحديث، وتعيش فترة معه وأياماً وليالٍى، كما فعلت أنا وتفاجأ بالصدفة من أى شخص غير الخراط إنه كاتب روائى، وليس أى كاتب روائى أنه كاتب جديد ويعبر بشكل سردى غير مسبوق فى تاريخ الرواية، وكان معروفاً خارج مصر عن داخلها، حيث مكنه عمله فى المشروع الأفرو آسيوى من ترجمة أعماله إلى العديد من لغات العالم المختلفة ومن ثم وصلت إلى الغرب الذى قدرها كثيراً، ووعى إلى أنها نوع جديد ومغاير تماماً لما كان معتاد عليه وقتها، شرد قليلاً «جريس» ليختم كلامه قائلا: عاش بصمت ورحل بصمت، ولكن يبقى داخلنا وتبقى أعماله.•