الخميس 19 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

البرلس.. بلد العيون البريئة

البرلس..  بلد العيون البريئة
البرلس.. بلد العيون البريئة


تصوير: جلال المسرى
ضد التيار
الأمل موجود.. والبهجة
ليس لها حدود

أن يتجمع فنانون من 8 دول من الشرق والغرب فى «البرلس» محافظة كفر الشيخ من أجل تلوين البيوت، فإن هذا الحدث ضد التيار.. ألوان مبهجة وسط عتمة سواد تحيط بنا ناتجة عن أحداث خارجة عن إرادتنا.. من السيول التى أغرقتنا، وحادث الطائرة الروسية، كلها أحداث نقاوم تبعاتها وتقاومنا.. لكن مع بقعة الضوء هذه التى تأتينا من البرلس نتأكد أنه مهما حدث فإن الأمل موجود، والبهجة ليس لها حدود.. وفى نفس السياق.. عندنا فى مصر مجموعة من العلماء الذين يقدمون أعظم الحلول لمشاكلنا المستعصية.
صباح الخير، تقدم هذا العدد، مجموعة من هؤلاء العلماء الذين ابتكروا طريقة جديدة لتحلية مياه البحر.. الذى سيكون عاجلاً أم آجلاً الملاذ الأخير والوحيد لندرة المياه العذبة.
حلول بالفعل نحن بحاجة لها.. فلنستمع لهم.
ما تيجى نرسم..  
عندما ترسم لوحة فهذا عمل فنى جيد، لكن عندما تلون مدينة بالكامل فهذا هو الإبداع.. هكذا يخرج الجمال عفوياً بلا إطار أو برواز، إنه الجمال الحر، الذى لم تكن به تيمة تدفعك إلى الالتزام بخط معين أو صورة محددة، إنما تتبع يديك فيما انطلقت إليه نحو الجمال الجامح الذى يأخذك بعيداً عن اللوحات ذات الأطر المذهبة أو القاعات الفارهة المكيفة التى مهما اتسعت فهى تضيق باحتواء هذا الفن.
ففى البرلس «كان الملتقى -  حيث البيوت المتراصة بحوائطها الخشنة وجدرانها العارية من الطلاء وقد تحدتها فرشاة الفنانين  بجرأتها الفنية وقد ألبستها ثوبا من الجمال العفوى من رسوم الأسماك والحوريات والطيور التى كادت تنطلق لتحلق فى سماء المدينة».
وبوجوه صغيرة باسمة خرج علينا أطفال المدينة «البريئة» فى أسراب حرة طليقة يتحلقون حول الفنانين حينا ويتسلقون فوق سور الكورنيش حينا آخر وعيونهم تنظر إلينا كأنها نوافذ مفتوحة على السعادة والأمل..  فالبيوت والفنانون والأطفال قد شكلوا حقا سيمفونية من الإبداع الذى اختلط فيه الفن بالحس والروح. .
كان هذا هو الملتقى الثانى، للرسم على الحوائط والمراكب بالبرلس، تحت رعاية الدكتور أسامة حمدى، محافظ كفر الشيخ الذى نظمته مؤسسة الفنان «عبدالوهاب عبدالمحسن للفنون الثقافية والفنية»  وشارك فيه 35فناناً من 8 دول وهى: مصر، الهند، إيران، البحرين، الأردن، تونس، السودان، والبرتغال بالإضافة لطلبة كليات الفنون الجميلة بالإسكندرية والمنصورة وطلبة الفنون التطبيقية بدمياط والتربية النوعيه بكفر الشيخ وبجانب مجموعة من أطفال المدارس والأهالى. كما شاركت وزارة الشباب بالتعاون مع المؤسسة من خلال مشروع مدن ملونة.. هذا بالإضافة إلى الرسم على المراكب - 25 مركباً- كتيمة للملتقى، حيث نشأت الفكرة على تحويل قرى البرلس ومنازلها ومراكب الصيد إلى معرض مفتوح للفن التشكيلى، عبر 15 يوماً قضاها الرسامون فى بحيرة البرلس كنا فيها معهم، عايشناهم وهم يرسمون داخل قصر ثقافة البرلس بعد تحويل صالته إلى مرسم صغير يتزاحمون فيه بمراكبهم وأفكارهم وفرشاتهم وأحيانا حديثهم الذى يكون لإطلاق النكات من حين إلى آخر.
وكانت تلك الكتيبة الفنية التى ترأسها وقام عليها الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن تحمل ألوانا مختلفة من الفن والإبداع ظهرت فى تصميم كل منهم للرسوم المختلفة على تلك المراكب والتى تنوعت ما بين رسوم الحكايات والأساطير والتى أبدعها الفنان محمد عبدالهادى وأخرى حملت وجوها وأشكالا بحرية صممت جميعها من السلك والتى نفذها بدقة الفنان جلال جمعة، هذا بالإضافة إلى الأعمال الرائعة التى نفذها الفنان جميل شفيق والفنانة عقيلة رياض والفنان طارق الكومى والفنان محمد الشال وغيرهم من الفنانين الذين أبدعوا، وتم عرض تلك المراكب الفنية لاحقا من خلال معرض «فلوكة البرلس» والذي ضم هذه المجموعة المتنوعة من مراكب الصيد والتى زينها هؤلاء الفنانون برسوم من مدارس فنية مختلفة، اكتشفوا فيه عالماً آخر يعيشه الصيادون، حياة مختلفة ترجموها على جدران الفلوكات، نابعة من قلب بيوت البرلس الصغيرة، فى حياة بسيطة خالية من التعقيدات وحسابات الرزق والمال.. وكان النتاج خمسة وعشرين من المراكب تحكى قصة مدينة لها تاريخ عريق سجل انتصارات أبناء برج البرلس الصيادين.
وقد انطلقت فرش الفنانين فى المدينة تضفى ألوانا من السحر والجمال على جدران بيوتها البسيطة، وصولا الى سور الكورنيش الذى صار جدارية فنية تتلاقى رسوماته مع أمواج البحر فى تناغم بصرى، امتطاه أطفال المدينة -حسيا - على أحد أفراس النهر التى زينت الجدار.
وغيره من إبداع الفنانين الذى لم أجد ما يعبر عنه أكثر من الابتسامة التى رسمت على وجوه أهل المدينة لاسيما أطفالها الذين صاروا يتتبعوننا كظلالنا المستكشفة أحيانا الفضولية دائماً.
• بيقولوا مصر حلوة!!!
فاطمة تلك الصغيرة صاحبة العيون البريئة ذات الاثنى عشر عاما التى جذبت انتباهى دون غيرها بعينيها البنيتين وبشرتها الدافئة وابتسامتها الساحرة،  رأيتها فى ثوبها البسيط كباقى فتيات البلدة وقد حملت أختها الصغيرة فوق كتفها تاركة كل هذه الفوضى البشرية من حولها،   وراحت تتجول بين الرسوم التى صممها هؤلاء الفنانون على حائط المقهى - التى جلسنا على مقربة منه- بفرشاتهم التى انتقلت بين ألوان تحمل من البهجة والسعادة ما يدفعك أن تقفز داخلها لتراقص تلك الدلافين الضاحكة والحوريات الساحرة..  تسللت فاطمة بين الصفوف وهى تنتقل من حائط الى آخر كأنها فى أحد المعارض المفتوحة تنظر الى الرسوم فى انبهار وتلامسها بكفها الصغير، كأنها تريد أن تتأكد أنها مجرد رسوم ومجسمات، وليست أجساداً قد تدب فيها الحياة فجأة كما ظهر على ملامحها المندهشة.
استمررت فى متابعتها وهى مازالت تتأمل الرسوم كناقد فنى يحلل ويكتشف ويقرأ الخطوط والمنحنيات. ثم تنحنى فجأة لتلتقط حذاء أختها الصغيرة المائلة فوق كتفها النحيل وتحمل الحذاء فى يدها بعد أن ملت التقاطه بين الحين والآخر.
انتهت فاطمة من جولتها حتى وجدتها تقترب من الفنانين وهم جالسون فى المقهى فى استراحة لاستكمال باقى العمل بعدها، وقد وقفت فى أحد الجوانب تراقبهم وهى تبتسم، وبعد دقائق تركتهم بنفس الابتسامة لتقترب منى - وقد جلست بعيداً قليلاً عن هذا الزحام - فى هدوء واضعة أختها الصغيرة على الأرض وهى تحاول تسوية شعرها التى بعثرته تلك الصغيرة، الفضول يكاد ينطق من عينيها، نظراتها لى كأنها تحفظ تفاصيل وجهى، ويدها التى تلمس أطراف ثوبى فى أعجاب وأنا أخفى ابتسامتى عنها.
• فاطمة: هو أنتى من مصر؟
- أيوة
• فاطمة: أنا بحب البلد هنا ومش روحت مصر قبل كده، ونفسى أروح مصر واتفرج عليها ونفسى أعيش فيها عشان بيقولوا مصر حلوة. ونفسى أبقى حلوة زى بنات مصر وأروح المدرسة واتفسح.
-  لما تكبرى نفسك تكونى أيه؟
• نفسى لما أكبر أكون «أبلة» رسم عشان أرسم بحر وعرايس، ثم تستأذن بابتسامة.
ممكن تيجوا تلونوا قدام البيت بتاعنا إحنا قاعدين عند السوق؟
- طبعا ممكن.. بتحلمى بإيه؟
• يكون معايا فلوس عشان أشترى فساتين كثير وحلق دهب.
-  أنتى مش عندك حلق؟
• لا، بس بابا قاللى لما يسرح ويجيب فلوس هجيب لى الحلق الدهب، عشان هو مش معاه فلوس كتير.. هو بيغيب 3 أيام يروح يصطاد ويرجع بـ100 جنيه نصرف منها وقاللى لما أحوش شوية فلوس هجيب لك الحلق الدهب. وكل مرة أروح مع أمى عند الراجل عشان «يخرم» ودنى والبس الحلق، ييجى أبويا يقولولى لسه مش معايا فلوس، لحد أما اتسدت وزهقت ومبقتش أروح أعملها.
- نظرت إليها - وهى تنعى حظها فى براءة على الحلق الذى لن يأتى أبدا - ووجدتنى أخلع حلقى «الفضى» لأعطيه لتلك الجميلة لعلها تسعد به ولو قليلاً، فلم أكن أملك من الهدايا ما يسعد قلبها الصغير سوى هذا الحلق. وبالفعل أعطيته لها وهى تكاد تقفز من السعادة ولا تصدق أنها سترتدى أخيرا حلق حتى لو كان «فالصو».. وحاولت أن البسها الحلق ولكن فتحة أذنها كانت قد سدت بالفعل - ربما لطول انتظارها.. فوضعت هى الحلق فى يدها وأطبقتها جيداً ثم حملت أختها الصغيرة على كتفها وهى تجرى نحو بيتها وهى تقول «هجيلك تانى»، وبعد نصف ساعة وجدتها قادمة نحوى باسمة وقد وضعت الحلق فى إحدى أذنيها فقط، فقالت لى شارحة: الحلق حلو أوى، وقلت لماما فى واحدة اتصاحبت عليها «من مصر» واديتنى الحلق ده. . وشكرتنى كثيراً ثم قالت:
• أنتو هتمشوا خلاص؟
- أيوه هنسافر بكره الصبح.
فقالت وابتسامة من الأمل تراودها:
• ياريت تيجوا علطول مش تنسونا واحنا بنفرح لما بتيجو بلدنا عشان بتفرحونا وبنجمع حوالين الرسامين ونتفرج عليهم وبيورونا الدنيا شكلها حلو. وأنا لما أكبر وأسافر مصر هبقى أفتكرك دايما.
• قولى للسيسى «أنا تبعه»
حالة بشرية كوميدية أخرى عمرها عشر سنوات، اسمه محمد وقد أوصانى برسالة، لكنها رسالة من نوع خاص إلى شخص لا يعرفه ولكنه يؤكد لى أنه «تبعه».. عايز أرسم سمكة، ولكن تلك الصديقة لم تكن تجيد العربية فلم تفهم كلمات محمد، فأشرت أنا إليه بالموافقة لآخذ إحدى الفرش، التى سارع بأخذها واتجه نحو إحدى الحوائط وبدأ بالرسم والتلوين وعندما أنهى سمكته التى رسمها باتقان، جاء ليجلس جانبنا ووجدته يقول لى: أنا عرفت أنكم هتمشوا بكره، كان نفسى تقعدوا كتير عشان ترسموا وتلونوا البلد، كلنا هنا فرحانين بيكم وعشان كده لما أكبر هطلع «بتاع بويا».. ولكنى تحدثت إليه شارحة: بس الناس دى اسمهم رسامين، يعنى بيرسموا على والورق واللوح والحيطان»..  يسكت محمد لثوان «فى محاولة يائسة لفهم ما أقوله»، آه قصدى أقول «نقاش» ويبقى عندى فرش وألوان وأرسم برضه على الحيطة.
• والدك بيشتغل إيه؟
- صياد
• إيه رأيك فى مصر؟
- مصر حلوة عشان فيها السيسى ولما أروح مصر لازم أسلم عليه.
• أنت عارف السيسى بيشتغل إيه؟
- لا.. بس أنا تبعه.
• ولو روحت مصر دلوقتى هتعمل إيه؟
-هفرح..  وهكذا كانت أحلام  أطفال المدينة التى أردت أن أنقلها كما عبروا عنها ببراءة وعفوية نادرة.. كما كانت البرلس - المدينة، الهادئة رغم أمواجها الثائرة، فقيرة الخدمات الغنية بقلوب أهلها الكريمة العفيفة. أهلها الذين لا يعرفون «الكيلينيكس» ولكنهم ابتسامة كل صباح. •