الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

فى ذكرى ثورته ووفاته: ماذا فعل أحمد عرابى فى منفاه؟!

فى ذكرى ثورته ووفاته: ماذا فعل أحمد عرابى  فى منفاه؟!
فى ذكرى ثورته ووفاته: ماذا فعل أحمد عرابى فى منفاه؟!


فى المدارس قالوا لنا إن أحمد عرابى باشا قام بثورة أو هوجة ضد الخديو توفيق، وفشلت ثورته ونفى إلى سيلان، وكان من نتائج ثورته المظلومة أن احتل الإنجليز مصر.. طبعا هذه قراءة قاصرة لواحدة من أهم ثورات مصر فى العصر الحديث التى تعرضت هى وصاحبها للظلم البين، ومن هنا تأتى أهمية كتاب الناقد «د. صبرى حافظ» «مرايا الثورة العرابية»، رحلة إلى سرنديب.. سيلان سريلانكا، والصادر مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب، ونعيد نحن قراءته فى ذكرى الثورة وذكرى صاحبها الذى يكشف فيه ماذا فعل عرابى باشا ورفاقه فى المنفى الذى استمر لسنوات طويلة حتى عودتهم إلى مصر ووفاة بعضهم هناك.
والمثير فى الكتاب أنه يجمع بين القراءة التاريخية والأدبية وفن الرحلات، ويحاول إعادة الحق لأصحابه بعد أن تبعثرت الأوراق واختلطت الأمور، وربما بهذه القراءة تنعدل الأمور ونتعلم الجديد من تاريخنا الذى يحتاج إلى إعادة قراءة مرة أخرى.
فى مقدمة الكتاب يقول د. صبرى حافظ: والواقع أن الرحلة إلى سريلانكا وثيقة الصلة بما انشغلت به منذ اندلاع الثورة/ الحلم: ثورة 25 يناير وأن أتتبع آثار العرابيين فيها لأن ثورة 25 يناير ردتنى إلى ضرورة استقصاء كل ما مر بنا من ثورات فى العصر الحديث كى نتعلم دروسها، ونرى تجربة الحاضر على مراياها.
والمؤكد أن علاقة مصر بهذه الجزيرة الصغيرة لا تعود إلى أيام الثورة العرابية وحدها، حيث لم يكن نفى العرابيين إلى سريلانكا أول نفى مصرى لها لأن كليوباترا حينما أرادت إخفاء ابنها قيصرون أرسلته للاختباء فى سرنديب وهو اسم سريلانكا وقتها، ولأن هذه الرحلة كانت رحلة إلى ذات أخرى وليس إلى آخر مختلف كلية عنا على الرغم من اختلاف الثقافة واللغة والجغرافيا فقد ردتنى إلى تاريخنا القريب والمعاصر معا، وأكدت لى كيف أننا نحتاج إلى تذكر تواريخنا وإعادة النظر فى الكثير من مسلماتها، وأكثر ما خرجت به منها هو ضرورة أن تكتب قصة الثورة العرابية من جديد حتى لا نكرر أخطاءها وأن نكتب قصة أبطالها المغمورين خاصة محمد عبيد أحد أكثر أبطال الثورة العرابية وعيا وراديكالية الذى فك بمبادرته الفردية حصار زعماء الثورة من براثن الجراكسة فأحبط عملية وأدها فى مهدها ومات على مدفعه فى معركة التل الكبير، بل إنه صاحب الكلمات الشهيرة التى ألقاها عرابى باشا على مسامع الخديو: «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا فوالله الذى لا إله إلا هو لا نورث ولن نستعبد بعد اليوم».
ويضيف د. صبرى حافظ: «وأن نكتب أيضا قصة مثقفها الكبير عبدالله النديم الذى لم يهادن ولم يساوم حينما التف صغار الكتبة من عينة على مبارك باشا حول الخديو وخانوا بلادهم ناهيك عن ضرورة إعادة كتابة مسيرة أحمد عرابى كأول مصرى فى العصر الحديث يتزعم الثورة ضد حكم الأتراك وضد التدخل الأنجلو فرنسى فى شئون البلاد، وأن نجذر فى الوعى المصرى والعربى قيمة الاستقلال الوطنى الحقيقى التى بلورتها ثورته وأن نقتلع من الوعى الشعبى ما زرعته فيه الثورة المضادة من أن ما قام به كان مجرد «هوجة» صارت مثالا للفوضى وعلامة على التخبط، خاصة أن تسليط الضوء على أدوار الذين قادوا وشاركوا فى الثورة العرابية ستعيد تأسيس وعينا بحقيقة ما قام به ثوار مصر الحقيقيون من عينة أحمد عرابى ومحمد عبيد ومحمود سامى البارودى وعبدالله النديم وستجعل القارئ المعاصر يدرك كم كانت ثورتهم شعبية وعبرت عن طموح المصريين فى الخلاص من الاستعمار والتبعية معًا والانعتاق من سيطرة رأس المال الأجنبى والمحلى فى آن واحد والانتصار لسواد الشعب المصرى من الطبقات الوسطى والعاملة والفلاحين.
والكتاب كما يقول د. صبرى حافظ لا يقدم تاريخا للثورة، ولكنه كما يقول العنوان الفرعى «رحلة» إلى هذا البلد الآسيوى الصغير الذى تبدل اسمه على مر التاريخ ثلاث مرات «سرنديب، سيلان، سريلانكا»، وهى رحلة تنعكس على مراياها وارتحالاتها بعض أطياف الثورة العرابية وأن تحيل أحداث هذه الثورة المهمة إلى مرايا ترى فيها بعض التماثلات والاختلافات بينها وبين ما تعيشه مصر عقب ثورة 25 يناير.
والكتاب تنازعته دوافع ثلاثة أولها اقتفاء آثار العرابيين فى الجزيرة والتعرف على ما تركوه فيها وما لا نعرفه عن فترة نفيهم بها وثانيها الانشغال الأساسى بما يدور فى مصر وقت كتابة الكتاب «2013 - 2014»، والكتابة عنه من خلال الكتابة عن الثورة العرابية وتحولاتها، وأخيرا تقديم أدب الرحلة الأساسى من الارتحال فى مكان مغاير وتقديمها للقراء، وعموما فإن الكتاب نجح فى تقديم جانب مجهول من جوانب الثورة العرابية العظيمة للقراء هم فى أمس الحاجة لمعرفته فى تلك اللحظة الفارقة من تاريخ مصر.
ويبدأ د. صبرى كتابه بعنوان «سرنديب» دمعة الهند ومنفى العرابيين، وهو البلد الذى نفى إليه أحمد عرابى وصحبه من زعماء الثورة العرابية عام 1883، وهم أول ثوار مصريين فى العصر الحديث، وقد تجول فى الجزيرة بالسيارة وزار العاصمة كولومبو، ومدينة كاندى التى أمضى بها عرابى السنوات العشر الأخيرة من منفاه الذى استمر ما يقرب من 18 عاما.
ويحكى تاريخ الجزيرة التى غير الإنجليز اسمها من سرنديب إلى سيلان بعد استعمارهم لها عام 1796، وتظل الجزيرة مشهورة فى الوعى المصرى بأحزان العرابيين فيها، وقصائد البارودى المترعة بالأسى ولوعة النفى، والجزيرة متوسطة الحجم وتقول إحدى أساطيرها إنها دمعة الهند أو الدمعة التى سقطت جيولوجيا من شبه القارة الهندية فى المحيط الهندى، وهى على الخريطة تشبه الدمعة، وكانت الهند مصدرا لأحزانها ومآسيها التاريخية، وهناك أساطير تزعم أنها الجزيرة التى ألقى الله فيها آدم وحواء بعد طردهما من الجنة وتشتهر الجزيرة بأشجار القرفة والشاى والتوابل الحريفة، فضلا عن آثار عديدة تعود إلى قرون كثيرة خلت، وتقدر مساحتها بـ 65 ألف كيلومتر مربع وسكانها يزيدون على ربع سكان مصر، ويعتنق أكثر من 70% منهم البوذية التى ترسخت فى الجزيرة منذ القرن السادس قبل الميلاد، وينتمى سكانها من حيث الأصول العرقية إلى قوميتين أساسيتين هما السنهالية والتاملية، وهناك السريلانكيون العرب أى المسلمون الذين يشكلون 9.3% من السكان، وكان لهم دور مهم فى استقبال العرابيين عند نفيهم إلى الجزيرة، وأجمل ما يميز سريلانكا بجانب الخضرة والنظافة هو توزع السكان فى معظم أرجائها وعدم تكدسهم فى مساحة محدودة كما هو الحال فى مصر.
وبعد أن تعرفنا على الجزيرة باختصار تعالوا نرى كيف استقبلت العرابيين وما آثارهم فيها؟!
يؤكد د. صبرى حافظ أن ما يسعى لتحقيقه فى هذا الكتاب هو إماطة اللثام عن بعض سياقات نفى عرابى وصحبه وعن جوانب لم يكشف عنها الباحثون المصريون أو حتى الإنجليز عن تأثير أحمد عرابى وزملائه خارج مصر وذلك من خلال الوقوف على أطلال العرابيين فى سريلانكا.
ولكن قبل ذلك تعالوا نتذكر بعض سياقات الثورة العرابية، وكيف كانت مصر عند اندلاعها فقد كانت تنوء تحت عبء الديون الأجنبية، وكانت ثروة مصر تستمتع بها قلة من المحاسيب المحيطين بالحكم من الأتراك والشراكسة وكانت غالبية الشعب ترزح تحت خط الفقر ولا تحظى بأى حكم مدنى حقيقى أو تمثيل برلمانى سليم، وكانت قوى خارجية تتربص بالبلد من جانبين، جانب غربى لا يريد لمصر التقدم وكان وقتها إنجليزيا، وجانب رجعى يريد تخلفها وإبقاءها فى كهف تصورات دينية معينة كى يزدهر هو وكان وقتها تركيا عثمانيا.
وفى ظل تنامى الغضب من الجيش والشعب المصرى وبروز اسم «أحمد عرابي» باشا ووقوفه فى وجه الخديو هو ومن معه كما هو معروف فى كتب التاريخ انطلقت الثورة العرابية وحققت مطالبها، ولكنها للأسف لم تؤد إلى التغيير الجذرى المرتجى ولم تبدل موازين القوى التى وضعت كل السلطة فى يد الخديو وسمحت بذلك للأجانب بالتلاعب به وبمصر من ورائه، وانتهت الأمور بخيانة عرابى وثورته واحتلال إنجلترا لمصر لتصبح هى القوة الفاعلة فيها بجوار الشكل الصورى المتمثل فى حكم الخديو، وهكذا انتهت الثورة التى كانت شعبية بحق وتريد الانتصار لمصر، وحقها فى حكم نفسها إلى نفى عرابى وصحبه، بعد أن تم تشويه صورتهم داخليا وخارجيا، وبعد أن حوكموا محاكمة سياسية وصورية قررت اتهامهم بالعصيان والإعدام، ثم خفف الحكم إلى النفى المؤبد ومصادرة أملاكهم وتجريدهم من جميع الرتب والألقاب، وهكذا خرجوا من مصر على ظهر الباخرة «ماريوت» لتقلهم إلى جزيرة سيلان وهم أحمد عرابى، محمود سامى البارودى، على فهمى، عبدالعال حلمى، محمود فهمى، طلبة عصمت، ويعقوب سامى، وضمت الباخرة 80 فردًا هم السبعة باشوات، و74 آخرين من الأهل والخدم ولنا أن نعلم أن عرابى صحب معه ولديه محمد وإبراهيم وثلاثة من الخدم، بينما رفضت زوجته الأولى شقيقة زوجة الخديو فى الرضاعة الذهاب معه.
وقبل أن تسافر الباخرة بيوم طلب اللورد دوفرين مقابلة أحمد عرابى على حدة، ليسأله فيما كان يود أن يقوم به هو وحركته لو قيد لها النجاح، وما هو البرنامج الإصلاحى التفصيلى الذى كان يريد تنفيذه، وطلب منه أن يكتب بيانا كاملا بكل الأمور التى كان ينشد أن يحققها لمصر.
وظل عرابى طوال الليل يكتب، وكان مفاد ما كتبه:
استقلال البلاد وصلاح أحوالها وأن تكون مصر للمصريين جميعا لا ملكا لشخص واحد أو عائلة واحدة.
وأن ينتخب الوالى بمعرفة الأمة أو رؤسائها ويكون عفيفا، نزيها، محبوبًا، مقيدا بالقوانين ومنفذا لها، أن ينتخب مشايخ القرى والبلدان بمعرفة الأهالى، وأن يشكل مجلس للنواب لعرض اللوائح والقوانين عليه وأن يكون واجبه فقط حقوق الأمة من المساواة فى الضرائب بين السكان وتحديد الضريبة العقارية وفقا لحالة الأراضى وليس مساحتها، وإيجاد حد للماريين الذين يسلبون الأهالى أموالهم وأملاكهم، إبطال سخرة وتحريم استخدام الكرباج ضد الفلاحين وإلغاء المحاكم المختلطة ومحاكمة الجميع على قدم المساواة أمام قاضيهم الطبيعى المصرى وتوحيد القوانين القضائية والحد من استخدام الموظفين الأجانب وترك السودان للمهدى مع بقاء تبعيتها لمصر، ووضع قناة السويس فى كفالة جميع الدول الموقعة على معاهدة برلين وتخفيض الدين والحد من فوائده، وتخفيض الجزية التى تقدمها مصر سنويا للأستانة باختصار كان عرابى ورفاقه يريدون بلغة اليوم تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية والإنسانية فى برنامج إصلاح سياسى متكامل يحقق سيادة العدل والقانون وإنهاء كل أشكال الاستبداد.
والمفارقة هنا أن عرابى والثوار رحلوا من القاهرة فى الليل وفى نوع من التكتم والسرية التى حرمتهم من أى وداع شعبى ووصلوا إلى سيلان فى يناير 1883 واستقبلوا استقبال الفاتحين فقد خرجت جموع كبيرة من أهل سيلان لاستقبالهم باعتبار أنهم الأبطال الذين حاربوا الإنجليز وقاوموهم ببسالة فعندما رست الباخرة فى ميناء كولومبو فى مساء يوم 9 يناير 1883 كان الميناء محاطًا بالبشر الذين توافدوا من كل بقاع الجزيرة لاستقبال العرابيين وبخاصة عرابى الذى كان يبلغ من العمر وقتها 42 عامًا وعندما التقى العرابيون بحاكم سيلان الإنجليزى السيرجون لانجدون أبلغهم أنه مسموح لهم بالإقامة فى أى مكان بالجزيرة ماعدا المقاطعتين الشمالية والشرقية لصعوبة الاتصال بهما, بالإضافة إلى أنه ليس مسموحا لأى منهم القيام بأى عمل أو نشاط سياسى فى المدينة وأبلغهم أيضا براتب شهرى يحوله لهم البنك العثمانى كل شهر إلى سيلان، وأقام عرابى فى بيت البحيرة ومعه ثلاثة من العرابيين وأسرهم وهم عرابى وعبدالعال حلمى وطلبة عصمت، وبقى معهم المترجم سليم عطاالله بسبب تدفق الزوار المستمر لسنوات بعد ذلك حيث تحول بيت عرابى لمركز جذب للسيلانيين والأجانب المقيمين فى الجزيرة، فضلا عن قادة الجزيرة وكبارها ومثقفيها الذين اقتربوا من عرابى وأصبحوا أصدقاء له طيلة إقامته بالجزيرة.
ونستطيع أن نؤكد أن عرابى ترك أثرا كبيرا فى سيلان عموما فأخباره قبل قدومه للجزيرة كانت معروفة فى الصحف السيلانية، وما أن استقر هناك حتى تعزز انطباع السيلانيين الإيجابى عنه وربما أراد عرابى أن يستنهض وعى السيلانيين بهويتهم ويوقظ نهضتهم، خاصة أن الاستعمار الإنجليزى كان فارضا هيمنته على كل مناحى الحياة فى التجارة والتعليم والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد.
ويبدو أن عرابى وصحبه جاءوا إلى الجزيرة فى موعد مع القدر حيث يصفه بعض المؤرخين فى سريلانكا بأنه القوة المحركة لعملية التحديث فحدث بمجيئه نوع من الإحياء والتحديث، بالمعنى الغربى عنها إلى الإحياء بالمعنى الدينى ولما كان المسلمون بالجزيرة أكثر سكانها معاناة من الاستعمار الإنجليزى أصبح عرابى محط اهتمامهم ووفر لهم ما كانوا يفتقدون إليه من قيادة روحية ووطنية معا وحث الجميع على النهضة والتغيير خاصة أنه بات فى نظرهم قيمة رمزية كأحد الذين تصدوا للاحتلال الإنجليزى لبلادهم لهذا التف حوله وكما تشير المراجع السيلانية فإن عرابى أصبح بطل التعريب والتعليم فيها موحد المسلمين بها حول مشروع نهضوى ولنا أن نعلم أن سيدى «لبه» أحد أبرز الناشطين بالجزيرة وأكثر أبنائها تعليمًا وضع نفسه فى خدمة أفكار عرابى التحديثية بل إنه كان مؤسس المدرسة الخيرية الإسلامية عام 1884 وهى أول مدرسة إسلامية فى تاريخ سيلان، وكانت النواة التى خرجت منها المدرسة الزاهرة عام 1892 وهى المدرسة التى اختار عرابى اسمها وحدد منهاج عملها ومزج فيها بين مزايا التعليم الأزهرى ونظام التعليم المدنى الذى يهتم بتعليم اللغة الإنجليزية والعلوم المدنية الحديثة، وجعلها مشروعا منبثقا من الجمعية الإسلامية التربوية فى كولومبو ليضمن لها الاستمرارية والازدهار ثم سعى لتسجيلها مع الحكومة السيلانية لكى تحصل على تمويل حكومى واعتراف رسمى يمكنها من الاستمرار، وفى عام 1894 تغير اسمها إلى الكلية الزاهرة والتى أصبحت الآن أحد أهم المؤسسات التعليمية الراقية التى يتكالب عليها السريلانكيون، مسلمون وغير مسلمين على إلحاق أبنائهم بها، وفى الأعوام التالية تم تأسيس أول ثلاث مدارس للبنات.
واللافت أن الإنجليز لم يعجبوا بنشاط عرابى النهضوى والتعليمى وبدأوا يعملون على شق الصف بين الثوار الذين كانوا يعانون الغربة والنفى وضيق الحال وبالذات عرابى الذى كان أفقرهم وأراد الإنجليز إحداث الوقيعة بأن رفعوا راتب عرابى بما يعادل عشرين جنيها استرلينيًا فى الشهر بينما رفعوا رواتب الآخرين بما يعادل 7 جنيهات فقط دون أى زيادة لراتب محمود سامى البارودى ونجحوا فى مسعاهم وانضم إلى صف عرابى كل من عبدالعال حلمى وطلبة عصمت وعملوا بحماس معه فى أكثر من مشروع من مشروعاته للنهوض بمسلمى سيلان كنواة للنهوض بالشعب كله فيما بعد، ونأى محمود فهمى بنفسه عن خلافات الفريقين وبقى مشغولا بالكتابة.
وتصحيح تصاميم مشاريع السيلانيين الإنشائية التى يذكرون له حتى اليوم الفضل الكبير فيها.. وبعد فترة من الزمن رحل عرابى إلى مدينة كاندى وتحويل منزله بها إلى متحف عرابى ويحتوى على آثاره وأوراقه ووثائقه، وهناك توطدت علاقة عرابى بالسيد توماس ليبتون صاحب مزارع الشاى الشهيرة فى سيلان وكذلك صديقه.
والمفارقة هنا أن متحف عرابى بكاندى يضم وثائق الثورة ولوحات للباشاوات السبعة وكثيراً من الوثائق المتعلقة بالثورة من الأوامر الخديوية بالحكم على عرابى ورفاقه بالإعدام وتخفيف الحكم للنفى المؤبد إلى الوثائق الأصلية المتعلقة بأحداث الثورة العرابية وتوكيلات الأمة لعرابى لتمثيل مطالبها والتركيز على دور عرابى وخطيب الثورة عبدالله النديم الذى واصل الكتابة لعرابى فى منفاه والتواصل معه ولرسائل ومواساة فى محنته، وقد تحول البيت إلى متحف عام 1983 كما أن هناك شارعًا رئيسيًا باسم أحمد عرابى فى منطقة مارادونا فى كولومبو وهناك طابع بريد تذكارى يحمل صورة عرابى ويضم البيت الآن مؤسسة عرابى باشا التعليمية لتمكين المرأة وتعزيز قدراتها المعرفية والعلمية على السواء والمفارقة التى أعنيها أن السريلانكيين التفتوا إلى أهمية عرابى ودوره فى حياتهم وبلدهم فأقاموا له متحفا باسمه وتخليده هو وثورته بينما نحن فى مصر مازلنا نفكر فى ترميم متحفه بالشرقية الذى يعانى من الإهمال المتعمد.
وبالرغم من اندماج عرابى وصحبه فى المجتمع الجديد الذى كتب عليه أن يعيش فيه فإنه لم يخل من المشاكل أولها مشاكل النفى ويبدو ذلك واضحا فى أشعار محمود سامى البارودى وشعورهم بالملل والحرمان من العمل ويبدو ذلك واضحا عندما طلب عرابى من حاكم الجزيرة الحصول على مساحة من الأرض لزرع أشجار البن، لكن الحاكم رفض طلبه بحجة أنه ممنوع من ممارسة أى عمل بالجزيرة، وكثير من الدراسات تشير إلى فضل عرابى فى إدخال زراعة البن إلى الجزيرة.
وقبل أن ينتهى القرن التاسع عشر ويطوى أيامه قرر الاحتلال العفو عن «محمود سامى البارودي» وبعده طلبة عصمت، ومات يعقوب سامى قبل وفود أمر العفو عنه عام 1899 ودفن فى كاندى إلى جانب قبر «محمود فهمي» ومات أيضاً عبدالعال حلمى هناك ولم يبق إلا على فهمى وأحمد عرابى الذى ظل بالجزيرة حتى عام 1901 بعد أن صدر قرار العفو عنه بفضل صديقه الإنجليزى الوفى «ويلفرد بلنت» الذى عمل كل ما فى وسعه من أجل استصدار قرار العفو عنه والسماح بعودته إلى مصر، فقد كان «بلنت» نموذجاً للمثقف المثالى والسياسى وعضو مجلس العموم الذى كان يقف للورد كرومر بالمرصاد على تصرفاته الظالمة، وكان له الفضل فى إنقاذ العرابيين من حبل المشنقة وهو أول من أبلغ عرابى بخبر العفو عنه، وإذا كان على فهمى عاد سريعاً بعد قرار العفو عنه كان الأمر قد استغرق شهوراً لدى عرابى الذى لم يكن معه ما يمكنه من وضع تكاليف رحلة العودة وظل أربعة أشهر هناك حتى تمكن من العودة.
 
وقد كان وداع السيلانيين لعرابى مهيباً مثلما استقبلوه وظلوا طيلة أشهر يقيمون له حفلات الوداع لأنهم علموا قيمته ودوره فى نهضتهم تعليمياً وسياسياً ولم ينسوا أنه صاحب شعار «سيلان للسيلانيين» الذى أصبح وبالاً على الاحتلال الإنجليزى للجزيرة فيما بعد ودوره الأكبر فى النهوض بأحوال الشعب وتوجيهه إلى التقدم والرقى وأمام 500 من المودعين الذين كانوا يلقون الزهور عليه، صعد عرابى إلى الباخرة الأميرة أبرين، وبعد أسبوعين كاملين عاد إلى مصر وعمره يتجاوز الستين ومن سوء الحظ أنه وصل إلى مصر بعدما امتلأت ساحتها بوطنية مصطفى كامل التى باركها السلطان العثمانى والتى لعبت دوراً فى مهاجمة عرابى وثورته بعد عودته إلى مصر فضلاً عن أن الوحيد من مثقفى مصر، الذى كان يقدر قيمة عرابى وهو عبدالله النديم كان قد توفى غريباً فى الاستانة قبل خمسة أعوام من عودته، وفى هذا المناخ تم شيطنة الثورة العرابية وتشويه الوعى وتزييف التاريخ وواجه عرابى عداء شديداً فى بلده الذى ظل يفكر فيه طيلة عمره لدرجة أن الفضل يرجع إليه فى وجود شجر المانجو فى مصر التى جلبها معه من سيلان لزراعتها فى مصر حتى الآن ناهيك عن مطالبته بالحرية والكرامة وأن يحكم المصريون أنفسهم بأنفسهم.. هذا العداء وعلى الرغم من اعتزال عرابى للسياسة ظل بعد عودته وأمضى سنوات عمره محاصراً ومهاناً حتى أدركته المنية فى 21 سبتمبر عام 1911 عن عمر ينهاز الـ 71 عاماً رحم الله عرابى أول ثائر مصرى فى العصر الحديث وحسبى الله ونعم الوكيل فى أصحاب الثورة المضادة من العملاء والخونة الذين وأدوا تجربته وشوهوا دوره النضالى والتاريخى المهم. •