الإثنين 26 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

اعتذروا للفقه الإسلامى!

اعتذروا للفقه الإسلامى!
اعتذروا للفقه الإسلامى!


على مدار الأسابيع الماضية خاضت «صباح الخير» فى أخطر قضية تداولتها بعض الأقلام والفضائيات، وهى قضية الدولة فى الإسلام من خلال الدراسة الوافية التى قدمها الدكتور سعد الدين الهلالى عن هذه القضية تعرفنا على الردة ومعناها وحكمها وأنواعها.. وهذا العدد نختتم هذه الدراسة بتوصيات من الدكتور سعد، مهما تكون التوصيات صادمة.
ويمكن إجمال أقوال الفقهاء فى الموجب الشرعى للردة - على ضوء الأدلة الشرعية، وما ذكره الفقهاء من أنواع للردة- فى المذاهب الأربعة الآتية:
المذهب الأول: يرى أن موجب الردة هو التعزير بغير القتل عند الحاجة مطلقًا. وإلى هذا ذهب إبراهيم النخعى وسفيان الثورى، وروى عن عمر بن الخطاب، وقال ابن حزم: «قالت طائفة:  يستتاب أبدًا ولا يقتل»، وقال ابن تيمية: «رأى بعض العلماء تحريم قتل المرتد». واختار هذا المذهب: الدكتور يوسف القرضاوى فى شأن الردة المجردة التى حدها بالردة غير المجاهرة وغير المصاحبة للعدوان على الإسلام.
وحجتهم: من الكتاب والسنة والمأثور والمعقول.
(1) أما دليل الكتاب: فمنه الآيات المخيرة للإيمان فى الدنيا، والمبينة لوظيفة النبى ، صلى الله عليه وسلم، بالإبلاغ عن ربه دون إلزام الناس اكتفاءً بحساب الآخرة. ومن ذلك قوله تعالى: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف: 29). وقوله تعالى: «فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر» (الغاشية:21، 22). وقوله تعالى: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا» (النساء: 137).
(2) وأما دليل السنة: فمنه ما أخرجه الشيخان عن أبى بكرة، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال فى خطبة الوداع: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا». ووجه الدلالة: أن الحديث كان آخر ما نزل من السماء بشأن الدماء والأموال والأعراض، فلا يجوز إهدار النفس إلا لضرورة إبقائها، وهذه الضرورة فى الدفاع عن النفس، كما قال تعالى: «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا» (البقرة: 190). وفى القصاص كما قال تعالى: «ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا» (الإسراء:33). وهذا على تفسير الحق الوارد فى الآية الكريمة بالقصاص بدلالة بقية الآية: «ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً»، وهو القصاص. والجمهور على أن المراد بالحق ما هو أعم من القصاص ليشمل كل عقوبة قتل ثبتت شرعًا.
(3) وأما دليل المأثور: فمنه ما أخرجه عبدالرزاق والبيهقى وصححه ابن حزم، عن أنس بن مالك أنه لما عاد من «تُسْتر» قدم على عمر فسأله: ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال: يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين قتلوا بالمعركة. فاسترجع عمر. قال أنس: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال عمر: نعم، كنت أعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أودعتهم السجن. 
وأخرج مالك والبيهقى عن عبدالله القارى، قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبى موسى الأشعرى، فسأله عن الناس، فأخبره. ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. فقال عمر: أفلا حسبتموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ ثم قال عمر: اللهم إنى لم أحضره، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغنى.
ووجه الدلالة من هذا الأثر: قال ابن حزم: «إن عمر بن الخطاب قال بالاستتابة- أى للمرتد- أبدًا وإيداع السجن فقط»، أى المرتد.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوى: «معنى هذا الأثر: أن «عمر» لم ير عقوبة القتل لازمة للمرتد فى كل حال، وإنها يمكن أن تسقط أو تؤجل إذا قامت ضرورة لإسقاطها أو تأجيلها. والضرورة هنا: حالة الحرب، وقرب هؤلاء المرتدين من المشركين وخوف الفتنة عليهم. ولعل عمر قاس هذا على ما جاء عن النبى ، صلى الله عليه وسلم، فى قوله: «لا تقطع الأيدى فى الغزو»(20). وذلك خشية أن تدرك السارق الحمية فيلحق بالعدو.
وهناك احتمال آخر: وهو أن يكون رأى «عمر» أن النبى ، صلى الله عليه وسلم، حين قال: «من بدل دينه فاقتلوه». قالها بوصفه إمامًا للأمة ورئيسًا للدولة، أى أن هذا قرار من قرارات السلطة التنفيذية، وعمل من أعمال السياسة الشرعية، وليس فتوى وتبليغًا عن الله تلزم به الأمة فى كل زمان ومكان وحال. فيكون قتل المرتد وكل من بدل دينه من حق الإمام ومن اختصاصه وصلاحية سلطته، فإذا أمر بذلك نفذ، وإلا فلا. على نحو ما قال الحنفية والمالكية من حديث: «من قتل قتيلاً فله سبله». وما قال الحنفية فى حديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهى له».
(4) وأما دليل المعقول: فمن وجهين:
الوجه الأول: يعتمد مآلات الأحكام. ذلك أن عقاب المرتد بالقتل سيمنع دخول الناس فى دين الإسلام إما خوفاً من القتل، وإما لأن أصحاب الأديان الأخرى قد تتخذ عقوبة القتل لمن خرج منها معاملة بالمثل فى الإسلام. فتجمد الدعوة، وتكون القوة هى المحركة للإنسان وليس الحجة والبرهان.
الوجه الثانى: يعتمد الجمع بين الأدلة التى فى ظاهرها تعارض. ذلك أن الأحاديث الآمرة بقتل المرتد، وهى حديث ابن عباس-فى البخارى- مرفوعاً: «من بدل دينه فاقتلوه»، وحديث ابن مسعود-فى الصحيحين- مرفوعاً: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والمفارق لدينه التارك للجماعة» يجب تأويلها بالحاجة درءاً للفتنة، أو عند التحاق المرتد بالمحاربين؛ وذلك جمعاً بين هذه الأحاديث وبين النصوص القرآنية التى جعلت قضية الإيمان فى الدنيا بحرية الاختيار، كما قال تعالى: «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى» (البقرة: 256). وأن آية السيف منسوخة بقوله تعالى: «فإما منا بعد وإما فداء» (محمد:4).
المذهب الثانى: يرى أن موجب الردة هو القتل؛ لعدم التفريق بين أنواعها.
وإلى هذا ذهب ابن حزم الظاهرى، ولكن هل يكون القتل كفراً أو حداً؟ لم يبين، وكلامه فى هذا يحتمل، ولكن التوبة تجب الكفر.
قال ابن حزم: «صح أن المرتد من الكفار بلا شك، فإذ هو منهم فحكمه حكمهم».
وقال فى موضع آخر: «إن المرتد لا يقر على ردته بخلاف المشرك الكتابى الذى يقر على كفره».
كما نص ابن حزم على عدم وجوب دعوة المرتد إلى التوبة ولكن لا يحال بينه وبين ذلك.
ويذكر ابن حزم أن الردة بالزندقة لها توبة مثل الردة بالكفر، فيقول فى مسألة المنافقين والمرتدين: «قال قوم إن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، قد عرف المنافقين وعرف أنهم مرتدون كفراً بعد إسلامهم، وواجهه رجل بالتجوير وأنه يقسم قسمة لا يراد بها وجه الله. وهذه ردة صحيحة فلم يقتله. قالوا: فصح أنه لا قتل على مرتد، ولو كان عليه قتل لأنفذ ذلك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، على المنافقين المرتدين الذين قال الله فيهم: «إذا جاءك المنافقون» الآيات من سورة (المنافقون).
قال أبو محمد: إن المنافقين قسمان قسم لم يعرفهم قط عليه الصلاة والسلام، وقسم آخر افتضحوا فعرفهم فلاذوا بالتوبة، ولم يعرفهم عليه الصلاة والسلام أنهم كاذبون أو صادقون فى توبتهم فقط. فإذا بينا هذا بعون الله تعالى بطل قول من احتج بأمر المنافقين فى أنه لا قتل على مرتد».
وحجة وجوب القتل بالردة:
(1) الأحاديث الآمرة بقتل المرتد، وفيها حديث البخارى عن ابن عباس مرفوعاً: «من بدل دينه فاقتلوه»، وحديث الصحيحين عن ابن مسعود، مرفوعاً: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث... والمفارق لدينه التارك للجماعة». وفى لفظ عند أحمد والنسائى: «رجل كفر بعد إسلامه».
(2) النصوص الآمرة بقتال المشركين، ومنها قوله تعالى: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» (التوبة: 5). وما أخرجه البخارى عن أنس بن مالك، أن النبى ، صلى الله عليه وسلم، قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وأخرج الشيخان عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله . فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله».
ويدل على قبول التوبة من الزنديق: ما أخرجه عبدالرزاق عن محمد بن أبى بكر، أنه كتب إلى على بن أبى طالب يسأله عن مسلمين تزندقا، وعن مسلم زنى بنصرانية، فكتب إليه على: أما اللذين تزندقا فإن تابا وإلا فاضرب عنقهما. وأما المسلم فأقم عليه الحد.
المذهب الثالث: يرى التفصيل فى موجب الردة بحسب نوعى موضوعها، فالردة بالكفر توجب القتل كفراً، والردة بالزندقة توجب القتل حدًا.
وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإباضية.
وحجتهم: أن الردة بالكفر تعطى صاحبها حقوق الكافر فى الدخول إلى الإسلام بالتوبة. أما الردة بالزندقة فهى أغلظ من الردة بالكفر، فلم يجعل له حق التفلت بالتوبة.
وليس معنى إلحاق الردة بالكفر بأحكام الكافر الأصلى أن المرتد والكافر الأصلى متساويان. بل كما يقول ابن تيمية: «استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلى من وجوه متعددة، منها:
(1) أن المرتد يقتل بكل حال ولا يضرب عليه جزية ولا تعقد له ذمة بخلاف الكافر الأصلى. (2) أن المرتد يقتل وإن كان عاجزاً عن القتال بخلاف الكافر الأصلى الذى ليس له من أهل القتال؛ فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبى حنيفة ومالك وأحمد. ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعى وأحمد. (3) أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته بخلاف الكافر الأصلى. إلى غير ذلك من الأحكام».
وأذكر فيما يلى بعض النصوص الفقهية الشائعة فى كتب المذاهب الفقهية المذكورة فى التفرقة بين الردة بالكفر والردة بالزندقة.
يقول النفراوى: «إن لم يتب المرتد بإسلامه قتل كفرًا لا حداً، ولو تاب برجوعه إلى الإسلام فإنه يسقط عنه إثم ما اقترف من الارتداد»؛ لقوله تعالى: «قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف» (الأنفال: 38).. وأما الساب لنبى أو ملك فإنه يقتل كالمرتد وإن كان قتله حداً وقتل المرتد كفراً، ولا تقبل له توبة بعد الاطلاع، والمرتد تقبل توبته، فالساب شبيه بالزنديق يقتل حداً لازدرائه بحق النبى أو الملك لا لأنه كافر.. ولا تقبل توبته سواء تاب بعد الاطلاع عليه أو جاء تائباً من قبل نفسه قبل الاطلاع عليه؛ لأنه حد وجب، والحدود تجب إقامتها بعد ثبوت موجبها ولو تاب المستحق لها كالزانى والشارب والقاتل والسارق سوى المحارب، فإن حد الحرابة يسقط عنه بالإتيان للإمام طائعاً أو تركه ما هو عليه، فالحاصل أن الساب شبيه بالزنديق والزنديق لا تعرف له توبة بعد الاطلاع عليه
وفائدة كون القتل حدًا- أى للساب والزنديق بخلاف المرتد الذى يقتل كفراً- الحكم ببقائه على الإسلام فى إرثه والصلاة عليه. وفائدة قتله كفراً - أى المرتد- عدم ذلك، فلا يغسل ولا يصلى عليه، وإنما تستر عورته ويوارى كما يفعل بالكافر».
وقال الحطاب: «من ظهر عليه بترك صلوات مستخفاً بها ومتوانياً أمر بفعلها، وإن امتنع من ذلك هدد وضرب فإذا أقام على امتناعه قتل حداً لا كفراً إذا كان مقراً بها وغير جاحد لها».
المذهب الرابع: يرى التفصيل فى موجب الردة بحسب نوعى جنس المرتد. فإن كان أنثى فردتها توجب التعزير بغير القتل. وإن كان ذكراً فردته توجب القتل كفراً أو حداً بحسب نوعى موضوع الردة من الكفر والزندقة. وإلى هذا ذهب فقهاء الحنفية والإمامية.
وحجتهم: أن الأحاديث قد صحت بالنهى عن قتل النساء غير المسلمات إذا لم يشاركن فى القتال المشروع، فأولى أن يكون ذلك للمرتدات غير المحاربات.
وقد سبق تفصيل ذلك فى تقسيم الردة بحسب جنس المرتد.
   المطلب الثانى
 الضوابط الشرعية لموجب الردة عند الفقهاء
اتفق الفقهاء على أن موجب الردة بالقتل محاط بضوابط شرعية تحقق التوازن بين حقى المرتد والموجب المقرر. ولا خلاف بين الفقهاء على اشتراط التكليف والاختيار فى المرتد؛ لعموم قوله تعالى: «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم» (النحل: 106). مع ما أخرجه ابن حبان وابن ماجه وأبو داود والنسائى عن عائشة، أن النبى ، صلى الله عليه وسلم، قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق». وأخرجه أحمد والترمزى وحسنه عن على بن أبى طالب، أن النبى ، صلى الله عليه وسلم، قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل».
ومن أهم الضوابط الشرعية-غير التكليف والاختيار- لموجب الردة بالقتل: أنه متعلق بالسلطة الحاكمة وليس لآحاد الناس، وأنه لا عقوبة للردة بدون إمهال للتوبة، وأنه لا حكم بالردة إلا بمكفر ظاهر. وهذه الضوابط محل تفصيل عند الفقهاء، ونوجز بيانها فيما يلى:
أولاً: موجب الردة متعلق بالسلطة الحاكمة
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن موجب الردة بالقتل من اختصاص الإمام (السلطة الحاكمة) ؛ لضمان مراعاة الضوابط الشرعية فى هذا الموجب، ولعدم التهارج فى المجتمع بالاستباق فى القتل. وإذا بادر أحد المتطوعين المرتد بالقتل أثم واستحق التعزير؛ لأنه افتأت على السلطة الحاكمة. وإلى هذا ذهب الفقهاء فى المذاهب الأربعة والظاهرية والزيدية.
وذهب الشيعة الإمامية والإباضية إلى أن موجب الردة بالقتل لكل من سمع ذلك من المسلمين؛ لأن المرتد صار مستباح الدم ولا حرمة له.
ولا شك أن الإذن لآحاد الناس بقتل المرتد يفضى إلى الفتنة والتهارج.
ثانياً: إمهال المرتد للتوبة
يختلف حكم إمهال المرتد للتوبة عند الفقهاء باختلاف نوعى الردة بحسب موضوعها هل هى ردة كفر أو ردة زندقة؟ ونبين ذلك فيما يلى:
(1) الإمهال فى ردة الكفر
يرى جمهور الفقهاء: وجوب إمهال المرتد ثلاثة أيام لعله يتوب. وإلى هذا ذهب بعض الحنفية ومذهب المالكية والمذهب عند الحنابلة وقول عند الشافعية، وبه قال الزيدية والإمامية، الإباضية.
وذهب جمهور الحنفية والأظهر عند الشافعية ورواية للحنابلة إلى: استحباب إمهال المرتد ثلاثة أيام إذا طلب ذلك، ولا يجب هذا الإمهال.
ويرى أبو القاسم أحمد البلخى من الحنفية: منع إمهال المرتد، بل يؤاخذ بموجب الردة فورًا.
ويرى ابن حزم الظاهرى: عدم وجوب إمهال المرتد، وعدم استحبابه كذلك، ولكن لا يحال بينه وبين ذلك، فهو جائز بناء على طلبه. 
(2) الإمهال فى ردة الزندقة
اتفق جمهور الفقهاء القائلون بوجوب حد الزندقة على أنه لا يمهل للتوبة، ولكنهم اختلفوا فى حكم قبول توبته فى الدنيا لإسقاط حد القتل عنه، وذلك على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: يرى قبول توبة الزنديق مطلقاً، أى سواء كان قبل الاطلاع عليه أو بعده. وهو المذهب عند الشافعية ورواية عند الحنابلة وصفها ابن قدامة بأنها الأولى على المذهب.
وحجتهم: عموم قوله تعالى: «قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف» (الأنفال: 38)، وعموم قوله تعالى: «إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين» (النساء: 146،145).
المذهب الثانى: يرى قبول توبة الزنديق إن كانت قبل الاطلاع عليه. أما بعد الاطلاع عليه فلا توبة له فى الدنيا، وهو رواية عن أبى حنيفة وعليه الفتوى، وإليه ذهب المالكية فى المشهور، وهو وجه عند الشافعية ورواية للحنابلة. وحجتهم: أن الحدود لا تقبل فيها الشفاعة إذا بلغت الإمام.
المذهب الثالث: يرى عدم قبول توبة الزنديق مطلقاً، أى سواء كانت التوبة قبل الاطلاع عليه أو بعد الاطلاع عليه.
وهو قول عند الحنفية ووجه عند الشافعية ورواية للحنابلة. وحجتهم: أن شأن الحدود إذا ثبت وقوعها أن يقاد أهلها.
ثالثاً: لا حكم بالردة إلا بمكفر ظاهر
لم ينص الفقهاء على ضابط المكفر الظاهر، مع كونه ضرورة لإمكان الحكم بالردة، حيث إن الأحكام القضائية تعتمد ظاهر الأحوال، فقد أخرج البيهقى عن أبى العوام المصرى قال: كتب عمر إلى أبى موسى الأشعرى: «أن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة». ثم قال له: «فإن الله عز وجل تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والإيمان». وأخرج ابن ماجه والدارقطنى، عن ابن عباس، أن النبى ، صلى الله عليه وسلم، قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه».
ومع ذلك فإن الفقهاء قد تكلموا عن الردة بالزندقة وتوسعوا فى صورها بما يتدخل فى العقائد الخفية، كما سبق ذكر طرف منه فى أقسام الردة من حيث موضوعها إلى ردة بالكفر وردة بالزندقة، كما سبق ذكر طرف منه فى المذهب الثالث من موجبات الردة الذى يفرق بين الردة بالكفر والردة بالزندقة.
الخاتمة
خلاصة البحث ونتائجه وتوصياته
أولاً: خلاصة البحث
الردة فى الجملة هى الرجوع عن دين الإسلام إلى غيره طوعا، وهى تختلف عن النفاق والإلحاد والحرابة والزندقة والكفر الأصلى.
والردة من أشكال القضايا الدينية، وليس لها ـــ فى نظر الباحث ـــ إلا الفقهاء، فعندما تطوع غيرهم بالخوض فيها توهم إمكان الإدلاء بحكمها العملى من النصوص الشرعية مباشرة، فاحتسب خطاب الشارع حكما عمليا وليس حكما أصوليا يحتاج لاستفراغ وسع الفقيه للتعرف على دلالته وأثره فى محل التطبيق.
وإذا كانت النصوص الشرعية مجمعة على ذم الردة وأهلها فى الدنيا والآخرة إلا أنها اختلفت فى تقدير عقوبتها الدنيوية، فأكثرها لم يقدر للردة عقوبة، وبعضها قدر لها القتل عقوبة، وعلى هذا الاختلاف الوارد فى النصوص كان الاختلاف فى النسبة الشرعية إلا أن الأكثرين كانوا مع الأدلة القليلة الآمرة بقتل المرتد، والأقلين كانوا مع الأدلة الكثيرة التى اكتفت بذم الردة فى الآخرة، وكلا الفريقين لا يعتمد مفهوم خطاب الشارع، وإنما يعتمد نفس خطاب الشارع، ولذلك لم يعرف للردة تكييفا ولا أنواعا ولا موجبا غير القتل أو الترك.
وجاء الفقه ليُمَسِّك بالقضية من حيث يحاط بأوجهها المختلفة، فتعرض لتكييف الردة التى تدور بين العدوان والعادة، كما وقف عند أنواع الردة التى تتعدد بحسب جهة النظر، فهى من حيث موضوعها تنقسم إلى ردة بالكفر وردة بالزندقة، ومن حيث تمالؤ المرتدين تنقسم إلى: ردة فردية وردة جماعية، ومن حيث تعديها تنقسم إلى: ردة مسالمة وردة استقوائية، ومن حيث جنس المرتدين تنقسم إلى ردة الرجال وردة النساء، ومن حيث التوبة تنقسم إلى: ردة معاودة، وردة منتهية، وردة تائبة، ومن حيث محلها تنقسم إلى: ردة مجردة وردة مغلظة.
واهتمت الدراسة الفقهية بالموجب الشرعى للردة، وذلك على ضوء تكييفها وأنواعها ومآلات الأحكام، وقد تعددت الرؤى الفقهية فى هذا الموجب وشاع بعضها فى زمن لخدمة أوضاعه السياسية والاجتماعية، وخفى بعضها الآخر ليس من فساد الاستنباط، أو من جهل أصحابها، وإنما لضرورة توحيد الاختيار الفقهى عند السلطة الحاكمة، وقد كان لهذا القول الفقهى المختار عند الحكومات المطاعة على مدار الدول الإسلامية المتعاقبة الحظ الأوفر من الشهرة لجريان العمل عليه حتى ظن البعض أنه أصل دينى أو من ثوابت الشريعة، وما هو بأصل دينى ولا من ثوابت الشريعة، إنه لا يعدو أن يكون اختيارا فقهيا فى مسألة تعددت فيها الرؤى الشرعية.
وقد كان مجمل المذاهب الفقهية فى موجب الردة أربعة مذاهب، كما يلى:
المذهب الأول: يرى أن موجب الردة هو التعزير بغير القتل عند الحاجة، وهو قول إبراهيم النخعى وسفيان الثورى، وروى عن عمر بن الخطاب، ونسبه ابن حزم لطائفة، كما حكاه ابن تيمية عن بعضهم.
وقد اختار هذا المذهب الدكتور يوسف القرضاوى فى شأن الردة المجردة التى حدها بالردة غير المجاهرة وغير المصاحبة للعدوان على الإسلام.
وحجتهم: من الآيات والأحاديث المخيرة فى الدنيا بين الإيمان والكفر. ولأن الأمر بقتل المرتد فى حديث ابن عباس «اذى أخرجه البخارى» لم يكن على سبيل الفتوى وإنما كان على سبيل القضاء.
المذهب الثانى: يرى أن موجب الردة هو القتل دون التفريق بين أنواعها، وهو مذهب ابن حزم الظاهرى، ولم تتضح رؤيته فى تكييف هذا القتل حدا أو كفرا. وحجته: الأمر الوارد فى السنة الصحيحة بقتل المرتد.
المذهب الثالث: يرى التفصيل فى موجب الردة بحسب نوعى موضوعها، فالردة بالكفر توجب القتل كفرا، والردة بالزندقة توجب القتل حدا. وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإباضية، وحجتهم: أن الردة بالكفر جعلت صاحبها كالكافر يتمتع بحق التوبة، أما الردة بالزندقة فهى أغلظ فلم يكن لصاحبها حق التفلت من القتل عن طريق التوبة.
المذهب الرابع: يرى التفصيل فى موجب الردة بحسب نوعى جنس المرتد، فإن كان أنثى فردتها توجب التعزير بغير القتل، وإن كان رجلا فردته توجب القتل كفرا أو حدا بحسب نوعى موضوع الردة من الكفر والزندقة، وإلى هذا ذهب الحنفية والإمامية، وحجتهم: القياس على منع قتل النساء غير المسلمات فى الحرب فى الجملة، وهذا تخصيص للأدلة الآمرة بقتل المرتد.
ولا يعرف الفقه شيئا بغير ضوابط، فتكلم الفقهاء عن ضوابط عقوبة المرتد كفراً أو حداً بما يحقق التوازن بين حق المرتد وبين حق العدالة. فاتفقوا على اشتراط التكليف والاختيار للمرتد، وذهب الجمهور إلى أن موجب الردة متعلق بولى الأمر «السلطة الحاكمة»، خلافا للشيعة الإمامية والإباضية الذين قالوا إن موجب الردة بالقتل حق لكل من سمع ذلك من المسلمين.
واختلف الفقهاء فى حق إمهال المرتد للتوبة قبل عقوبته بالقتل بحسب اختلاف نوعى الردة من الكفر والزندقة، أما ردة الكفر فالجمهور على وجوب إمهاله قبل قتله، وذهب أكثر الحنفية والأظهر عند الشافعية ورواية للحنابلة إلى استحباب هذا الإمهال، ويرى البلخى من الحنفية منع إمهال المرتد بحال.
وأما ردة الزندقة فليس فيها إمهال للتوبة باتفاق القائلين بوجوب الحد فيها، ولكن هل تقبل توبته لإسقاط حد الزندقة؟ فى ذلك ثلاثة أقوال: 1ــ المذهب عند الشافعية ورواية للحنابلة: نعم تقبل توبة المرتد بالزندقة قياسًا على المرتد بالكفر. 2ــ الجمهور من الحنفية فى رواية وعليه الفتوى عندهم، وهو المشهور عند المالكية وهو وجه عند الشافعية والحنابلة: تقبل توبة الزنديق إن كانت قبل الاطلاع عليه، أما بعد الإطلاع عليه فلا توبة له.
3ــ بعض الحنفية ووجه للشافعية والحنابلة: لا تقبل توبة الزنديق مطلقا، سواء كانت التوبة قبل الإطلاع عليه أو بعده.
ويجب أن يكون من ضوابط عقوبة الردة: أن يكون المُكَفِّر ظاهرا، حتى لا يؤاخذ الناس بضمائرهم، إلا أن الفقهاء لم يبرزوا هذا الضابط بسبب أن حد الزندقة حد مطاط غير منضبط.
وقد راق لحكام الدولة الأموية اختيار عقوبة القتل للمرتد ذ  وهو ما سرى فى ظل الدولة العباسية - لملاحقة الخصوم السياسيين باسم الدين، حتى ابتُدع حد بالقتل لا يقبل التوبة ولا الشفاعة لم يعرف فى الخلافة الراشدة، وهو «حد الزندقة»، وكانت الزندقة مرادفة للنفاق ثم استقلت بجريمة حدية.
وكان من أوائل من أقيم عليه حد الزندقة: «الجعد بن درهم» على يد «خالد القسرى» ذبحا يوم عيد الأضحى فى العراق سنة 124هـ أو 128هـ فى أواخر الدولة الأموية، ثم كثر تطبيق هذا الحد فى الدولة العباسية فى عهد أبى جعفر المنصور ثانى خلفاء بنى العباس بعد السفاح.
ثانيًا: نتائج الدراسة
1ــ أنه قد حان الوقت فى ظل الحرية السياسية المشهودة أن يعيد الفقهاء دراسة الموجب الشرعى للردة من دون التأثر بما جرى عليه العمل فى حقبة كان لها ظروف خاصة حتى يتمكن ولاة الأمور فى الدولة المعاصرة من الاختيار الفقهى المناسب لحاضرهم، كما اختار ولاة الأمور السابقون المناسب لأوضاعهم، وحتى نعبد الله عز وجل برؤينا الفقهية لا برؤية من لم يروا حالنا ممن لو قدر لهم البقاء فى زماننا لكانت لهم اختيارات فقهية أخرى، والمعروف أن الإسلام متجدد بصلاحية فهومه فى كل زمان وفى كل مكان.
2ــ أن الفقه هو الحل لقضايا المجتمع ومسائله الشائكة خاصة فى قضية الردة، وإذا كان الفقه قد تعددت رؤاه فى موجب الردة بحسب النظر فى الأدلة التى يجيد الفقهاء فهمها فإن ولى الأمر المتمثل فى السلطة التشريعية له أن يختار من بين تلك الرؤى بحسب السياسة الشرعية التى يجيد حكمتها ما يراه مناسباً.
3ــ من الرؤى الفقهية صحيحة النظر فى ذاتها: ما ذهب إليه النخعى والثورى، وروى عن عمر بن الخطاب، أن موجب الردة هو التعزير بغير القتل. ولعل ما يرجح تلك الرؤية الفقهية فى هذا العصر: هو الخوف أن نكون سببا فى الصد عن دين الله، وذلك فى حال اتخاذ أصحاب الديانات الأخرى عقوبة القتل للمرتدين منهم معاملة بالمثل عند المسلمين، كما يكون الصد عن دين الله بإخافة غير المسلمين أن يدخلوا الإسلام إذا علموا أن الخروج منه يعنى الخروج من الحياة.   
4ــ أن الاستقواء بالحجة والعقل والبرهان هو السبيل لنشر الإسلام وحمايته وليس الاستقواء بالسيف والسلطان.
5ــ إن تصحيح المفاهيم الشرعية بشأن موجب الردة المناسب لهذا العصر ومعطياته سيأخذ وقتاً كبيراً بسبب ما جرى عليه العمل وشاع فى الأعراف المختلفة دعوى «حد الردة»، وهى دعوى لا تتفق مع طبيعة الحدود الشرعية من حيث قطعية الثبوت، وعدم قبول التوبة أو الاستمهال فيها.
6ــ أنه يجب التوازن فى تلقى الأحكام من النصوص المتساوية، فقول النبى: «من بدل دينه فاقتلوه». جاء على ميزان قوله: «من أحيا أرضًا ميتة فهى له»، وإذا كان الفقهاء قد تكلموا فى وجوب إذن الحاكم فى إحياء الموات، فإن القياس يستوجب ذلك فى قتل المرتد، بل أولى.
7ــ أن ما يسمى بحد الزندقة الذى لا توبة فيه ولا شفاعة بدعة ليس له أصل فى كتاب أو سنة، وهو استحداث راق لبنى أمية وبنى العباس لملاحقة الخصوم السياسيين وإذا كانت الحدود من العبادات التوقيفية فكيف يشاع هذا الحد ونشارك فى ترويجه.
يقول الشوكانى: «الردة تكون بالكفر لا بالبغى والابتداع ونحوهما، فإنه وإن كان فى ذلك مخالفة للجماعة فليس فيه ترك للدين، إذ المراد: الترك الكلى ولا يكون إلا بالكفر لا مجرد ما يصدق عليه اسم الترك وإن كان لخصلة من خصال الدين، للإجماع على أنه لا يجوز قتل العاصى بترك أى خصلة من خصال الإسلام، اللهم إلا أن يراد أنه يجوز قتل الباغى ونحوه دفعاً لا قصداً».
ثالثاً: التوصيات
1ــ  أن نقدم الاعتذار للفقه الإسلامى الزاخر والراقى أن أدخل فيه ما يسىء إليه مما يعرف عند الدمويين بحد الزندقة، والذى هو بدعة وضلالة.
2ــ عدم الأخذ بما يسمى «حد الزندقة»، فإذا كان الفقه يقبل مصطلح «حد الردة» كقول فقهى بارز من بين أقوال فقهية معتبرة ذ سبق بيانها فى الموجب الشرعى للردة - إلا أن أصول الفقه وقواعده لا يحتمل اسم «حد الزندقة» الشائع فى فقه المذاهب الإسلامية السنية والشيعية.
3ــ أن تتولى وسائل الإعلام المختلفة إنارة الرأى العام فى قضية الردة من وجهة نظر الفقهاء المختصين على اختلاف مذاهبهم دون تسويد مذهب على مذهب، ليختار عامة الناس ما يروق لهم بحسب فطرهم السوية، وذلك من بين مذاهب أهل الاجتهاد المعروفين بعلمهم، وأن ولى الأمر المتمثل فى السلطة التشريعية المختصة عندما يختار مذهبا من بين تلك المذاهب الفقهية المعتبرة يكون قد حسم الخلاف فترة ولايته، فتبقى المذاهب الأخرى فى الفقه، ويسود المذهب المختار فى القضاء إلى حين يأتى ولى أمر آخر فلعله يختار وجهاً فقهياً آخر يراه مناسباً لعصره ويترك ما كان قد جرى عليه العمل فى زمن سابق، هنا يوصف ولى الأمر بالتجديد المحمود لا بالإحداث المذموم، لأنه لم يخرج عن الأوجه الفقهية الشرعية المحتملة فى القضية. •