الخميس 8 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الشيخ محمد رفعت.. قيثارة السماء الذى وهب صوته للإسلام

الشيخ محمد رفعت.. قيثارة السماء الذى وهب صوته للإسلام
الشيخ محمد رفعت.. قيثارة السماء الذى وهب صوته للإسلام


الشيخ محمد رفعت أعظم صوت قرأ القرآن، استطاع بصوته العذب الخاشع أن يغزو القلوب والوجدان فى قراءة عذبة خاشعة، فصوته يشرح الآيات، ويجمع بين الخشوع وقوة التأثير، وهو ما أسهم فى أن يكون له أسلوبه الفريد فى القراءة والتلاوة، ولذا أطلق عليه أسماء كثيرة منها «قيثارة السماء، وصاحب الصوت الرخيم»، ولد الشيخ محمد رفعت فى حى المغربلين فى مايو عام 1882 وعند سن سنتين أصيب بمرض فى بصره فأصبح كفيفا، وبعدها وهبه والده لخدمة القرآن الكريم فحفظه على يد شيخه فى كتاب بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، وأتم حفظ القرآن وتجويده قبل أن يصل للعاشرة، ولم يكتف الطفل الكفيف بذلك بل درس علوم القراءات والتفسير، ثم المقامات الموسيقية على أيدى شيوخ عصره.

عندما توفى والده محمود رفعت وهو فى التاسعة من عمره وجد نفسه مسئولا عن أسرته، بعد أن أصبح عائلها الوحيد فلجأ إلى القرآن، وتولى القراءة بمسجد فاضل باشا بحى السيدة زينب وهو فى الخامسة عشرة من عمره، فبلغ شهرة ونال محبة الناس، حتى إنه افتتح بث الإذاعة المصرية عام 1934 وذلك بعد أن استفتى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتى له بجواز ذلك، فافتتحها بأول سورة الفتح «إنا فتحنا لك فتحا مبينا»، وبعدها تنافست إذاعات العالم الكبرى مثل برلين ولندن وباريس لتستهل افتتاحها بصوت الشيخ محمد رفعت إلا أنه رفض، كما عرض عليه عام 1935 أن يذهب إلى الهند مقابل خمسة عشر ألف جنيه مصرى لتسجيل القرآن فرفضها واعتذر، فضاعفوا له المبلغ حتى خمسة وأربعين ألفا، ولكنه أصر على اعتذاره، وقال «أنا لا أبحث عن المال»، فهو كان يخاف من تسجيل القرآن خوفا من أن يمسه جنب أو سكران.
• تسجيلات
وتقول حفيدته هناء حسين محمد رفعت: لم أر الشيخ رفعت، ولكنى عشت مع والدى الذى ظل يبحث ويستمع وينصت لصوت جدى الشيخ بعد وفاته، حتى إن والدى تحول بعد وفاة جدى إلى مجنون الشيخ رفعت، فأخذ يعمل على تجميع التسجيلات والشرائط التى طبعت بصوته، وأضافت حفيدة «قيثارة السماء» أن لديها عددا مهولا من الأسطوانات الأصلية بصوت الشيخ محمد رفعت، التى تزيد على الثلاثين ساعة، إلى جانب العديد من التسجيلات التى أهداها «زكريا باشا مهران» للأسرة، حيث إن الشيخ لم يسجل أيا من قراءاته، وكان يقوم بتسجيلها زكريا باشا من الإذاعة على اسطونات مدة الواحدة منها دقيقتان ونصف الدقيقة، وعندما علم باحتباس صوت الشيخ وأنه لا توجد لديه أى تسجيلات قام بتقديم ما لديه من تسجيلات له على سبيل الهدية، وقمنا بدورنا بإهداء هذه التسجيلات إلى الإذاعة المصرية، بعد أن أجمعت الأسرة كلها على ذلك، وبعد أن تم الاتفاق مع رئيسة الإذاعة على إذاعة هذه التسجيلات بعد إتمام عملية المونتاج وتنقية الصوت بها.
وعن علاقتها بالشيخ محمد رفعت، قالت علاقتى به بدأت بعد وفاة والدى، فوالدى اكتشف الشيخ رفعت بعد وفاة الشيخ، وأنا اكتشفت الشيخ بعد وفاة والدى لارتباطى الشديد بوالدى، ولذا دخلت حجرته بعد وفاته وأخذت أبحث فى أوراقه ومقتنياته الخاصة فقرأت مذكرات والدى عن جدى، وبدأت أتحسس الاسطوانات الموجودة وبدأت أسمعها بأذن جديدة غير التى كنت أسمعها بها من قبل ومن فرحتى بصوته كنت أبكى فرحا، وتذكرت بكاء والدى وبحثه عن تراث الشيخ رفعت وحماسه ودفاعه عن هذا التراث، فورثت عنه هذا البحث والحماس والدفاع، وهو حق يستحق.  
وقالت «هناء» حفيدة الشيخ الراحل محمد رفعت إن جدها كان مستمعا جيدا للموسيقى بأنواعها، وخاصة الموسيقى الكلاسيك التى كان محبا لها، فكان يستمع دائما إلى موسيقى «شوبان وموزارت وباخ وبيتهوفن ومحمد عبدالوهاب، واسطوانات منيرة المهدية، وبعض الاسطوانات التركية»، ومازالت تلك الاسطوانات التى كان يستمع إليها موجودة بمكتبته حتى الآن.
• حب أمك
أضافت أن الشيخ «محمد رفعت» كان صديقا للشيخ «على محمود»، حيث كان الأخير يرفض تلاوة القرآن الكريم فى حضور الشيخ رفعت، ويفضل الاستماع له نظرا لإعجابه الشديد بصوته، مؤكدة أن الشيخ «رفعت» كانت لديه إجازة بالقراءات السبع للقرآن وكان مهتما بمخارج الحروف، وذكرت حفيدة الشيخ أنه كان رحيماً، رقيقا، ذا مشاعر جياشة، عطوفاً على الفقراء والمحتاجين، فهو رجل «خشع قلبه فخشع صوته»، لدرجة أنه كان له فرس يطمئن عليه كل يوم ويوصى بإطعامه، كما كان يتميز بحنانه الشديد، حتى إنه كان يقول لأبنائه عندما يخبره أحدهم أنه يحبه، يقول له حب «أمك»، فهى أهم منى، وتحتاج حبك أكثر، وقالت من شدة رقته وحنانه «إنه زار صديقا له قبل موته فقال له صديقه، من يرعى فتاتى بعد موتى؟ فتأثر بذلك وفى اليوم التالى وهو يقرأ القرآن من سورة الضحى حتى وصل إلى قوله تعالى «وأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر»، فتذكر الفتاة وانهال فى البكاء بشدة، وبعدها خصص مبلغا من المال لهذه الفتاة حتى تزوجت .
• ابتلاء
وأوضحت حفيدة «قيثارة السماء» أن الله ابتلى الشيخ بابتلاءين، حيث فقد بصره وهو صغير لم يتجاوز العامين من عمره، ويقال إن الليلة التى سبقت فقده البصر رأته امرأة فقالت إن هذا الطفل لا يكون إلا ابن ملوك ويظهر ذلك فى عينيه وفى اليوم التالى استيقظ من نومه على ألم فى عينيه وعدم قدرته على الإبصار، كما أصيب بمرض الفواق «الزغطة» الذى منعه من تلاوة القرآن تماما، بل من الكلام أيضا، حيث تعرض فى السنوات الثمانى الأخيرة من عمره لسرطان الحنجرة الذى أفقده صوته تماما، فلم يقرأ بعدها فى الإذاعة، ولكنه ظل جالسا على دكته التى ما زالت موجودة حتى الآن فى مسجد «فاضل باشا» بدرب الجماميز قارئا فى المسجد للبسطاء والمصلين، وكانت أزمة «الزغطة» عندما تأتيه تستمر معه بالساعات، وأضافت أن الشيخ «رفعت» لم يتكسب طوال حياته من قراءة القرآن حتى عندما أصابه المرض، ولذا قام محبوه بعمل اكتتاب شعبى له وجمعوا له مبلغا من المال وصل إلى خمسين ألف جنيه وذهبوا إليه ليعطوه المبلغ لكنه رفض، وقال لهم «من أمرضنى قادر على شفائى» ردوا الأموال إلى أصحابها، كما رفض طلب العديد من الملوك والرؤساء بعلاجه على نفقتهم، خاصة مع ارتفاع تكاليف العلاج، وكان يقول دائمًا «قارئ القرآن لا يهان» وظل طريح الفراش حتى توفاه الله يوم 9 مايو عام 1950وهو نفس يوم مولده عن ثمانية وستين عاما.
• ثروته
وعن ثروته تقول حفيدته «هناء» كان لا يملك من حطام الدنيا إلا بيته فى حى البغالة بالسيدة زينب المكون من ثلاثة طوابق الذى قام بتأجير أحدهما، ويوم أن اضطر إلى تأجير الطابق الثانى ليستعين بالإيجار على مطالب العيش والعلاج لازم غرفة نومه أسبوعا كاملا أمضاه فى البكاء، ويوم أن أضطر إلى تأجير الطابق الأرضى كان الحزن يملأ حياته، كما كان يمتلك قطعة أرض بشارع المنيرة التى اضطر إلى بيعها للإنفاق على علاجه.
• قالوا عنه
قال عنه الشيخ محمد متولى الشعراوى: إذا أردت أن تستمع إلى الصوت الجميل فاستمع إلى الشيخ عبدالباسط عبدالصمد فصوته حلو، وإذا أردت أن تستمع إلى فنون التلاوة فاستمع إلى الشيخ مصطفى إسماعيل، وإذا أردت أن تتعلم تلاوته فاستمع إلى صوت الشيخ الحصرى، وإذا أردت أن تستمع إلى كل هؤلاء فاستمع إلى صوت الشيخ محمد رفعت.
وقال عنه الأديب الراحل أنيس منصور: «لا يزال الشيخ محمد رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال صوت الشيخ أنه فريد فى معدنه، وأن هذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس مثل أى صوت آخر»، أما الأديب محمد السيد المويلحى فى مجلة الرسالة فقد وصف الشيخ رفعت بأنه سيد قراء هذا الزمن، موسيقى بفطرته وطبيعته، وقال: «إنه يزجى إلى نفوسنا أرفع أنواعها، وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا»، ووصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت الشيخ رفعت بأنه صوت ملائكى يأتى من السماء.
ومن أجمل ما قيل فى رثاء الشيخ محمد رفعت ذلك النعى الذى بثته الإذاعة المصرية يوم وفاته: «أيها المسلمون.. فقَدنا اليوم علما من أعلام الإسلام»، وقالت الإذاعة السورية فى نعيها على لسان مفتى سوريا «لقد مات المقرئ الذى وهب صوته للإسلام». •