الخميس 19 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

النقشبندى.. الشيخ الذى مازال يبهرنا!

النقشبندى.. الشيخ الذى مازال يبهرنا!
النقشبندى.. الشيخ الذى مازال يبهرنا!


استطاع الشيخ «سيد النقشبندى» أن يمتع الكثيرين من البشر فى مشارق الأرض ومغاربها، هام بصوته الكثير من البسطاء والرؤساء، فجاب الدول مبتهلا ومنشدا، فكان أبرز من ابتهلوا وأنشدوا التواشيح الدينية، فكان لصوته الندى الملائكى الخاشع أثر فى النفوس، حتى إنه أصبح صاحب مدرسة خاصة فى فن «الإنشاد الدينى» لما يتميز به من صوت عميق قوى حساس، وقدرة فائقة على اختيار أعذب الكلمات وأكثرها رقة وفصاحة، حتى إنه لقب بـ«كروان السماء، ومنشد الأرواح»، لدرجة أصبح بعدها من الصعب على أى منشد آخر أن ينشد أيا مما قاله «النقشبندى» والدليل ستلمسه عزيزى القارئ بنفسك عندما تستمع لكلمات «مولاى.. إنى ببابك قد بسطت يدى» من منشد آخر وتجد أنه أمر غير مقبول.
ونحن فى هذه الأيام المباركة التى لا تحلو إلا بابتهالات «النقشبندى» كان لزاما علينا أن نلقى الضوء من جديد على شيخ منشد ومبتهل بحجم «النقشبندى» الذى لا يعرف الناس عن حياته الكثير فالتقينا بابنه «أحمد النقشبندى» لنعرف منه ما لا نعرفه عن شيخ المداحين. والذى بدأ معنا بتعريف معنى كلمة «نقشبندى» موضحا أنها كلمة فارسية، وكان الجد يكثر من ذكر اسم الله سبحانه وتعالى، حتى إنه نقش اسم الجلالة على صدره، ومن هنا جاء اسم النقشبندى، وأصل العائلة من أذربيجان ، وتفرقت فروعها ما بين مصر والشام والعراق وإيران، ووالد الشيخ سيد، هو الشيخ محمد النقشبندى، كان واعظا دينيا، وله مريدوه فى شتى أنحاء القطر المصرى، وأينما حل التف حوله المريدون، يعظهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن منشدا ولا قارئا للقرآن. 
تاريخ ميلاده الصحيح كما سجله الشيخ هو12مارس من عام 1921، وهو ابن قرية «دميرة» بمحافظة الدقهلية، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة طهطا بصعيد مصر، وقبل أن يستكمل عامه الثامن أتم حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ «أحمد خليل»، وتعلم الإنشاد الدينى فى حلقات الذكر بين مريدى الطريقة النقشبندية، وحفظ الشعر الصوفى فى مدح الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ الإنشاد منذ نعومة أظفاره، وشجعه جدى على قراءة القرآن والإنشاد، حتى صدح بالإنشاد، وقضى طفولته فى الصعيد، مع والدته، فى طهطها، وجاب نجوع الصعيد، وفى عام 1955 استقر الشيخ سيد رحمه الله فى مدينة طنطا، مؤثرا المقام بجوار سيدى أحمد البدوى، رافضا أن يترك جواره، حتى بعد أن طرقت الشهرة أبوابه بقوة، وتستدعى منه الإقامة بالقاهرة.. ويقول النقشبندى الابن: حاولنا مرارا أن نثنيه عن الإقامة فى طنطا، أو على الأقل أن يمتلك شقة فى القاهرة بجوار الإذاعة والتليفزيون إلا أنه رفض، وقال لنا يوما «زارنى البدوى فى المنام وقال لى: لا تتركنى يا سيد»
• تسجيلات النقشبندى
وكانت أول تسجيلات الابتهالات للشيخ سيد النقشبندى تحمل تاريخ 1957، وكانت فى سوريا، حيث إنه فى عام 1956 كان الشيخ سيد فى المدينة المنورة، يؤدى مناسك الحج، وفى مدينة الرسول التقى بمجموعة من السوريين، من بينهم الشيخ الجليل «محمد على المراد»، وتعرف عليهم الشيخ، وحينما عاد إلى مصر دعاه الشيخ «المراد» إلى زيارة سوريا، وفى العام التالى، لبى الشيخ الدعوة، وأقام فى مدينة حماة، وصدح فيها بصوته بأناشيد وابتهالات، سيطرت على عقول السوريين وقلوبهم، فأحبه السوريون حبا جما، ومن سوريا استقل الطائرة لأداء مناسك الحج للمرة الثانية، ومن الحجاز طار إلى الدوحة، يشدو فيها بأعذب الابتهالات، حتى عاد إلى القاهرة .  ويقول النقشبندى الابن: كانت الفترة التى قضاها الشيخ بسوريا كافية لكى تخلب قلوب السوريين، ويعشقون صوته ، فقام هناك بتسجيل العديد من الأشرطة، وحتى الآن يأتينا من سوريا تراث للنقشبندى لم نسمع به من قبل.. أما فى مصر؛ فقد بدأت شهرته الحقيقية مع دخوله الإذاعة عام 1966، وكان النقشبندى الأب وقتها يحيى ليلة مولد سيدنا الحسين، فسمعه أحد المخرجين، واسمه «مصطفى صادق»، والأستاذ «أحمد فراج»، فكانا سببا فى عرضه على الإذاعة والتليفزيون، وكانت أول أعماله ابتهالات رمضان الشهيرة، ويقول ابنه «رغم شهرة النقشبندى كمنشد ومبتهل، فإن له قراءات قرآنية، بلغ فيها من الروعة والجمال مبلغا، إلا أنه لم يقرأ القرآن كاملا»، ويفسر النقشبندى الابن ذلك بأنه لم تتح لوالده الفرصة لتلاوة القرآن كاملا لكثرة أعماله».
• مكتبة النقشبندى
مكتبة الشيخ سيد النقشبندى، ليست مكتبة دينية كما يتوقع المرء مع شيخ يمارس الابتهال والإنشاد، ولكنها مكتبة متنوعة، فيها شوقيات أحمد شوقى، وديوان حافظ إبراهيم، وكتابات العقاد، وطه حسين، والمنفلوطى، ورحلات أحمد حسين رئيس الديوان الملكى فى عهد الملك فاروق، كما أنه كان مغرما بالشعر، حتى إنه حفظ أكثر من 10 آلاف بيت شعر، لكنه نادرا ما كان يكتب ابتهالاته بنفسه، وإنما أنشد للعديد من الشعراء، ولتذوقه الكلمات كان يعدل فى بعض الألفاظ، ومن الشعراء الذين تعامل معهم النقشبندى الشاعر «عبدالفتاح مصطفى»، وهو الذى كتب الأغانى الدينية للفنان «عبد الحليم حافظ»، وكتب كذلك للنقشبندى عدة أناشيد موسيقية، لحنها بليغ حمدى، منها «مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى، أقول أمتى.. يا رب أمتى، ما أعظم الذكرى.. فى بدر الكبرى، رباه يا من أناجى.. فى كل هذا الوجود»، كما تمتلئ كراسات تركها الشيخ النقشبندى بالعديد من الأبيات الشعرية الجميلة، والخواطر الفكرية التى تدل على ذوقه الرفيع، ونهمه للشعر الصوفى الرقيق.
• حياته
وصفه ابنه «أحمد» بأنه كان شخصًا جليلاً، تربى على القرآن الكريم والإنشاد، فاستقام لسانه، وقلبه، وكل جوارحه من هذا النبع الصافى الجليل، فتخلق بخلق الصالحين، ويقول: لم أشاهده يوما يضرب أحد أولاده، وإنما ينهرنا فى أدب جليل، حليما على أخطائنا، محبا للفقراء، لدرجة أن طبيعة عمله كانت تجبره على السهر والاستيقاظ ظهرا، فكان استيقاظه الساعة الثامنة صعبا للغاية، لكن كان لأى رجل فقير، مهما كان حاله أن يوقظه صباحا، ويذهب معه إلى أى مصلحة حكومية أو وزارة يقضى معه مصلحته، وكان الشيخ «النقشبندى» يسجل يومياته يوما بيوم، يسجل فيها «فى أى قرية ينشد، وأى اجتماع حضر، وأى خاطرة ترد على عقله»، ويقول ابنه جمعت له ثلاثًا وثلاثين مذكرة، تغطى ما كتبه الشيخ منذ عام 1943 وحتى عام وفاته 1976.
• النقشبندى والرؤساء
يقول الشيخ أحمد النقشبندى إن والده لم تكن له علاقة خاصة بالرئيس عبدالناصر، ولكن افتتح له بعض المؤتمرات، لكن حبال العلاقة القوية امتدت مع الرئيس السادات، وحينما تقابل الاثنان لأول مرة، قال له السادات إنه من عشاقه، وأنه حينما كان مسافرا ذات مرة إلى السويس، تصادف مولد سيدى الغريب، فاستمع السادات للنقشبندى، ولم يغادر مكانه إلا مع نهاية الإنشاد، وبعد أن تولى السادات الرئاسة، كان يتصل بطبيبه الخاص الدكتور محمود جامع، والذى كان يقيم فى طنطا، ليأتى له بالنقشبندى، إلى قرية ميت أبوالكوم، وهناك ينشد النقشبندى.
• الأيام الأخيرة فى حياته
يقول الابن أحمد النقشبندى إن والده الشيخ كان لديه تسجيل فى التليفزيون لصلاة الجمعة 13 فبراير 1976، فسافر يوم الخميس من طنطا، ليبيت عند أخيه سعد فى العباسية، وفجأة طلب من أخيه سعد ورقة وقلما، وكتب فيها وصيته، وأعطاها لأخيه وأوصاه ألا يفتحها إلا بعد الوفاة، ولم يستطع الشيخ ليلتها النوم لشدة الألم فى صدره، وفى صباح الجمعة، حاول الاتصال بالتليفزيون للاعتذار، لكنه لم يتمكن، فتوجه إلى المسجد، وأدى القراءة وهو مرهق، وسجل الأذان بصوته للمرة الأولى، وهو الأذان الذى نسمعه حتى اليوم، وبعد التسجيل زار الشيخ معظم أهله فى القاهرة كأنه يودعهم، وكذلك زار أهله فى طنطا التى وصلها عند المغرب،  وفى صباح السبت 14 فبراير 1976 استيقظ من نومه، وطلب طبيبه، وذهب إلى مستشفى المبرة لإجراء بعض الفحوصات، وقبل أن يبدأها نطق الشهادتين، وفاضت روحه الكريمة إلى بارئها، وفتح أخوه «سعد» الوصية، وكان فيها «الدفن بجوار الوالدة بالقاهرة مهما كانت الظروف، لا داعى للمآتم إطلاقا، ويكفى النعى بالجرائد»، ومن جامع «السيد البدوى» بطنطا، خرج جثمانه يشيعه الآلاف من محبيه وعاشقيه، فى طريقه إلى القاهرة، ليدفن بجوار قبر والدته حسب وصيته قبل وفاته.. رحل النقشبندى عن عمر يناهز الخامسة والخمسين إلا شهراً، لكنه مازال يبهرنا بتراثه الثمين، ويقول النقشبندى الابن: رغم كل تلك السنوات مازال الشيخ يبهرنا بما نعثر عليه من ثرات له، سواء فى سوريا، أو داخل مكتبة الإذاعة المصرية، وكم أسعد حينما أجد الشباب الصغار متعلقين بصوت النقشبندى، وتتردد ابتهالاته فى كل الأماكن.
• تراث النقشبندى
وفى صوت يملؤه الأسى قال الشيخ «أحمد النقشبندى» إن مختلف الإذاعات، والقنوات الفضائية، وشركات الإنتاج، تستخدم تسجيلات «النقشبندى» وتطبع منها كل يوم ملايين النسخ وهو ما يدر عليها ربحا وفيرا، دون أى تعويض مادى لأبنائه، ولذا أناشد المسئولين بأن يصرف لورثة النقشبندى «حق الأداء العلنى» ليساعد ورثته على أعباء الحياة.. ونحن بالطبع فى «صباح الخير» نضم صوتنا لصوت ورثة الشيخ «النقشبندى» فى هذا الحق، فالشيخ الذى أمتع الملايين فى مشارق الأرض ومغاربها لم يترك ميراثا من العقارات والأطيان لأبنائه، ولكنه ترك ما هو أثمن وأضخم، ولذا على المسئولين تعويض أبناء الشيخ «النقشبندى» بشىء قليل مما تركه والدهم من ثروة  ثمينة.•