من الفراعنة إلى البريد المصرى مرورا بالبوسطة الخديوية!

صباح الخير
هذه الأيام تحتفل مصر بالبريد.
رحلة طويلة عمرها150سنة، قطعها «الجواب المصرى» من أيام الخديوية وحتى الآن.. إلا أن حكاية الجواب فى مصر بدأت قبل ذلك بآلاف السنين .. وهذه الصفحات تستعيد ذكريات بداية الرحلة وحتى الآن.. نحتفل فيها بالبريد المصرى الذى يعيش أزهى عصوره.
فى عام 1865 أصدر خديوى مصر إسماعيل باشا مرسوما بدمج البريد الحكومى بالبريد الأوروبى فيما عرف باسم «البوسطة الخديوية»، ومن يومها عرفت مصر شكل البريد الحديث، ولكن ليس معنى ذلك أنها لم تعرف البريد قبل هذا التاريخ.. فهى رحلة طويلة ممتعة ربما تمتد إلى عصر الفراعنة.
من العام 1865 إلى الآن والبوسطة المصرية تتطور وتشكل تاريخا طويلا يسجل حكايات وبطولات وإنجازات.. «صباح الخير» تحتفل مع البريد المصرى بمرور 150 سنة على البداية الحديثة.. عرفت مصر البريد منذ أقدم العصور، فقد قام الفراعنة بتنظيم نقل البريد خارجيًا وداخليًا، وكانوا يستخدمون سعاة يسيرون على الأقدام لنقل الرسائل فى أنحاء القطر المصرى، حيث قامت فى عهد الفراعنة حكومات منظمة ذات (إدارات، مكاتب، وموظفين، وجيوش، وأساطيل) يتصل ملوكها برعاياهم فى الأقاليم وفى البلاد التى قاموا بفتحها، فضلا عن وجود رسائل متبادلة بين فراعنة مصر وحكام البلاد المجاورة التى كانت تربطهم بهم صلات تجارية وسياسية، وأول وثيقة جاء بها ذكر «البريد» يرجع تاريخها إلى عهد الأسرة الثانية عشرة (حوالي2000ق.م.)، وهو وصية كاتب لوالده يطلعه فيها على أهمية صناعة الكتابة والمستقبل المجيد الذى ينتظره فى وظائف الحكومة، وقال فى رسالته: «أما ساعى البريد فإنه يحمل أثقالا فادحة ويكتب وصيته قبل أن ينطلق فى مهمته توقعا لما قد يصيبه من الوحوش والآسيويين».. ويوضح كتاب «البريد فى بر مصر» للباحث عبدالوهاب شاكر، والصادر عن إدارة المشروعات الخاصة بمكتبة الإسكندرية، أن البريد فى عهد البطالمة انقسم إلى قسمين؛ البريد السريع لنقل بريد الملك ووزيره وموظفى الدولة وكان يستخدم فى نقله الجياد السريعة، والبريد البطيء لنقل البريد بين الموظفين فى داخل البلاد.. ويتناول الكتاب البريد فى العصر العربى، حيث اهتم العرب بالبريد واستخدموه فى نقل أخبار الدولة والتجسس على الولاة ونقل الأخبار إلى الخليفة، وساروا على نفس النظام الذى وضعه الفرس والبطالمة من قبل، ويقال إن معاوية بن أبى سفيان أول من نظم البريد فى الإسلام، وفى ولاية «عبدالعزيز بن مروان» على مصر وصل البريد المصرى إلى درجة عظيمة، فلم يكن مقصوراً على النواحى السياسية فحسب، بل كان إلى جانب تلك الأغراض يخدم النواحى العلمية أيضاً.. وقد عرف نظام البريد فى عهد المماليك أنواعاً، منها البريد بواسطة الخيل، وهو ما عرف بخيل البريد، وكان موجوداً فى عهد الفاطميين بين مصر والشام، ولكن فى عهد بيبرس وخلفائه نظم تنظيماً دقيقاً.
• البداية الحقيقية
وعن البريد فى عهد محمد على باشا، يقول الباحث إنه لم يكن للبريد فى مصر وجود بالمعنى الصحيح قبل ظهور محمد على باشا الذى لاحظ عند قيامه بوضع الأسس والنظم الحديثة فى جميع فروع الدولة وجود خلل فى الاتصال بين مختلف المؤسسات الحكومية بعضها ببعض، ومن هنا نشأت فكرة البريد الحكومى للاتصال بين الجهاز الإدارى المركزى الموجود وقتئذ بالقلعة فى القاهرة وجميع الجهات فى الصعيد والوجه البحرى، وأصبح ذلك نواة نظام البريد الحكومى فى مصر.
وكانت العمليات الحربية التى قامت بها مصر فى الشام سبباً رئيسياً فى أن تقوم الحكومة بإنشاء خطوط بريدية تربط بين القاهرة وبلاد الشام حتى يستطيع الباشا متابعة أخبار المعارك الدائرة هناك، وحملت خيل البريد عينات المعادن التى عثر عليها المختصون بالتعدين فى بلاد الشام لتحليلها فى مصر، وتحديد مدى أهميتها، ومن ثم صلاحيتها للاستغلال الاقتصادى، وحمل البريد مراسلات رجال الإدارة المصرية والجنود مع ذويهم ولكن فى نطاق ضيق، وكانت تصل مع بريد الجيش إلى إبراهيم باشا.
ولما زاد حجم المراسلات مع زيادة حجم التجارة بين الغرب والشرق اتجه تفكير محمد على باشا إلى إحياء الطريق القديم بين ميناءى الإسكندرية والسويس، فقام بإصلاح الطريق وتنظيمه فعادت إليه الحياة، وتم فى عهده توصيل البريد بين الشرق والغرب وبالعكس عن طريق القطر المصرى.
• بين الشرق والغرب
وفى عام 1835 وصلت شركة الهند الشرقية الإنجليزية إلى اتفاق مع الحكومة المصرية على نقل البضائع والبريد بين إنجلترا وأوروبا والشرق عبر مصر، وعندما تم مد القسم الأول من الخط الحديدى بين الإسكندرية والقاهرة فى سنة 1855 أصبح بريد الهند ينقل من الإسكندرية إلى كفر الزيات بواسطة السكك الحديدية، ثم من كفر الزيات إلى القاهرة بالقوارب البخارية، ومن القاهرة إلى السويس بالإبل.. ويبين الكتاب كيف أنشأ أحد الإيطاليين من ليفورنو ويدعى «كارلو ميراتى» بريداً لحسابه الخاص بالإسكندرية لاستلام وتصدير المراسلات من وإلى البلاد الأجنبية، ونظراً لما لقيه من إقبال، أنشأ مكتباً للبريد بالإسكندرية وكان نجاحه فى ذلك مدعاة لتنظيم وتوسيع نطاق أعماله فقام بتنظيم نقل الرسائل بين القاهرة والإسكندرية والعكس.
وعندما توفى «ميراتى» خلفه ابن أخيه «تيتوتشينى» فى إدارة شركته للبريد التى عرفت بإسم «البريد الأوروبى»، وقد أشرك الأخوان «تشينى» معهما «جاكوموتسى» فى إدارة البريد، وقد أصبح موتسى المسيطر الوحيد على البوسطة الأوروبية منذ عام 1864 وذلك عقب وفاة مسيو تشينى، وقد حققت هذه الشركة أرباحاً كبيرة من أسعارها المرتفعة ومن إقبال العامة على التعامل معها.
• طموح الخديوى إسماعيل
ويشير كتاب «البريد فى بر مصر» إلى أن طموح الخديوى إسماعيل كان كبيرا لتحديث مصر وجعلها قطعة من أوروبا، فعمل على إدخال النظم الأوروبية إلى جميع مرافق الدولة، ونظرا لأن المواصلات البريدية كانت من أهم وسائل تقدم الشئون التجارية والاجتماعية، فقد اهتم إسماعيل بالبريد اهتماما ملحوظا، وأدرك الخديوى إسماعيل أهمية تمصير مرفق البريد، وفى 25 ديسمبر 1865 تم رسمياً دمج «البريد الحكومى بالبريد الأوروبى» فيما عرف باسم «البوسطة الخديوية»، وبعدها استطاعت مصر أن تسترد سيطرتها على جزء مهم وحيوى من مرافقها، وأيضا تسترد مصدرا مهما من مصادر الدخل للحكومة المصرية.. ويتطرق الكتاب إلى طوابع البريد المصرية، حيث كان نظام البريد يعتمد على أخذ أجور نقل المراسلات نقداً وسلفاً على أساس التعريفة التى كان تضعها البوسطة الأوروبية، وبعد إدارة الحكومة للبريد ظلت تتبع ذلك المنهاج لفترة من الوقت، حتى صدر الأمر بتكليف «موتسى بك» بالسفر إلى أوروبا للتوصية على طبع طوابع البريد لاستعمالها فى التخليص على المراسلات أسوة بما يحدث فى أوروبا، وقد اعتبرت هذه الطوابع كالعملة النقدية وكانت لها قيمة مقررة، وقد سلمت تلك الطوابع إلى المالية فور وصولها إلى القاهرة لتحفظ بها تمهيداً لطرحها فى الأسواق.
• المجموعة الأولي
وقد بدأ استخدام طوابع البريد لأول مرة فى يناير سنة 1866. وعرفت هذه المجموعة باسم «المجموعة الأولى» تمييزاً لها عن عدة مجموعات لاحقة، وقامت بطبع تلك المجموعة مطبعة أخوان «بيلاسى» بجنوا فى إيطاليا، وعندما قاربت طوابع الطبعة الأولى على الانتهاء، كلفت الحكومة المصرية مطبعة «بناسون» بالإسكندرية بطبع كمية جديدة، وقد جاء هذا الطابع يحمل صورة الأهرام وأمامه أبوالهول وعلى اليمين مسلة كليوباترا وعلى اليسار عامود السوارى، وبأعلاه وبأسفله كتابة باللغة التركية وفى الركنين العلويين والسفليين كتابة باللغة الإيطالية.
وعندما استقال موتسى من إدارة مصلحة البريد فى عام 1876 عين الخديوى إسماعيل خلفا له المستر «كليار» الإنجليزى، الذى أخذ ينشئ مكاتب جديدة حتى بلغ عددها مائتى مكتب وعشرة يعمل بها ثمانمائة وثلاثون موظفًا، وجعل توزيع المراسلات يوميًا بين القاهرة والإسكندرية وجميع الجهات المهمة بعد أن كان أسبوعيا.
وفى عام 1873 اشترى الخديوى إسماعيل أسهم شركة الملاحة البحرية بالبواخر «الشركة العزيزية»، وحولها إلى مصلحة حكومية عرفت باسم «وابورات البوستة الخديوية» فاتسع نطاق مصلحة البريد، وهكذا توسعت خدمة البريد فأصبح للبريد المصرى عدة مكاتب فى «استانبول، وجدة، وأزمير، وغاليبولى، وبيروت، وقوله، وسالونيك».. ونظرًا لتعذر وصول البريد إلى الأماكن البعيدة عن خطوط السكك الحديدية، أنشئ فى أول مايو عام 1899 نظام الخطوط الطوافة، فكان يتم تكليف شخص يسمى الطواف بتوصيل البريد إلى المناطق النائية سيرًا على الأقدام، وكانت تقدر عدد هذه الخطوط بـ 384 خطا، وقد بلغ عدد المحطات الواقعة على هذه الخطوط 3164 محطة.
وفى أغسطس عام 1921 أنشئ أول بريد لنقل المراسلات العادية بالطائرات من القاهرة إلى بغداد، وكانت تتولى نقله فرقة الطيران الملكية البريطانية، وكان البريد الجوى يسافر من مدينة هليوبوليس مرة كل أسبوعين، وفى ديسمبر سنة 1926 حلت شركة الطرق الجوية الإمبراطورية محل فرقة الطيران الملكية البريطانية.
وقد ألحقت مصلحة البريد فى أول أمرها بنظارة الأشغال ثم نقلت تبعيتها بعد ذلك لعدة نظارات، وفى ديسمبر 1865 تم إلحاقها بديوان عام المالية، وفى عام 1919 صدر القانون رقم 7 بإنشاء وزارة المواصلات التى تشمل السكك الحديدية والتلغرافات والتليفونات ومصلحة البريد ومصلحة الموانى والطرق والنقل الجوى.
• إلى العتبة
وفى عام 1931 صدر قانون شامل تناول جميع رسوم نقل البريد، وقد تم فى هذا العام نقل مقر إدارة البريد من الإسكندرية إلى القاهرة واستقرت بمبناها الحالى بميدان العتبة، وفى عام 1957 صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 710 بإنشاء هيئة البريد المصرية لكى تحل محل مصلحة البريد، وفى عام 1959 تم العمل بنظام الخدمات الأهلية «مكاتب بريد أهلية - ووكالات بريدية»، وفى عام 1961 تم إنشاء أول مدرسة ثانوية للبريد، وعام 1965 تم إنشاء المعهد العالى للشئون البريدية، وتم ضمه إلى كلية التجارة جامعة حلوان عام 1975 وفى عام 1966 صدر قرار رئيس الجمهورية بإنشاء الهيئة العامة للبريد لتحل محل هيئة البريد، وفى عام 1970 صدر القانون رقم 16 للعمل بنظام البريد المصرى، وفى 1982 صدر قانون بإنشاء الهيئة القومية للبريد لتحل محل الهيئة العامة للبريد وتتبع وزارة المواصلات، وفى عام 1999 أنشئت وزارة الاتصالات والمعلومات لتتولى الإشراف على الهيئة القومية للبريد والشركة المصرية للاتصالات والمعهد القومى للاتصالات. •