السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

راقصة التانجو

راقصة التانجو
راقصة التانجو


صاخبة كرقصاتها.. دامية الشفاه كلون فستانها المشقوق جانبه الى أعلى ساقها، ليكشف عن روعة ما يخفيه هذا الستار الفستانى بأطرافه البراقة الثائرة.  
الآن وبعد أن انتهت فقرتها على المسرح اختفت خلف الستار تتمالك أنفاسها السريعة،  ثم تحركت بخطوات متمايلة راقصة على دقات كعب حذائها نحو غرفتها وصوت التصفيق ونظرات المعجبين تسكرها  أكثر من أكواب الخمر التى احتستها طوال تلك الليلة.
أفاقت هناء باسمة من حلمها البراق الذى صنعه خيالها الهارب دائما من لجام عقلها، وتنبهت إلى نومها على الكنبة أمام التليفزيون  ثم أفاقت تدريجيا من نشوة ذلك الحلم ، لتدخل غرفتها وتغلق الباب خلفها جيدا  لتجلس على سريرها ثم تستلقى على ظهرها  باسمة وعيناها ناظرتان إلى سقف حجرتها ويداها تتلمس جسدها فى خشوع وكأنها تعيد اكتشاف جزيرتها الأنثوية. ثم جلست معتدلة على طرف سريرها تتهيأ للوقوف وتحركت وهى تتجه صوب مرآتها متأملة  فى نشوة تفاصيل هذا الجسد المرمرى الذى يذكرها كثيرا فى معالمه بجسد أمها - السجينة - شعرها الفحمى الطويل وعينيها العسليتين وأنفها الدقيق وتلك الغمازة  التى تستقر بين ثنايا خدها الأيمن.
إلا أنه لم تكن ترضيها كل هذه الفتنة حتى تفننت فى سكب مزيد من الإثارة الأنثوية عليها ليرتوى عطشها الانتقامى الذى دام ثلاثين عاما.
هى سنوات عمرها التى كانت تحسبها جيدا عاما بعد عام كسجين يحلم بالخروج للحياة بعد أن تنتهى فترة اعتقاله؛ هكذا كانت حياتها وسط أسرة تعتنق العادات وتسبح بالتقاليد إلا أنها خرجت عن هذه الملة سرا وتمنت لو جاءتها الفرصة لتعلن ردتها على الملأ. عاشت بينهم وهى ليست منهم فهى مخلوقة للحياة الحقيقية وليست المزيفة التى كانوا يعيشونها بين مجاملة الأقارب والسؤال عن الغائب والاستسلام ليمر كل يوم كسابقه ولن يختلف كثيرا عن التالى له، فأمها الجميلة عبدة فى محراب والدها وكثيرا ما كرهت ضعفها وسكونها حتى سارت تفعل كل ما يناقضها خوفا من أن تصير يوما عبدة مثلها.
هى... غير ذلك تتنفس الحرية بصعوبة عبر حجابها التى ترتديه كرها، وكثيرا ما تعثرت خطواتها فى ردائها الفضفاض أملا فى الوفاء بنذور الاحترام المزيف، لذلك كانت  لها حياتها الخاصة فى غرفتها الصغيرة فلن تنسى يوما حذاء أمها العالى ولا فستان زفافها الذى أخذته سرا من دولابها لترتديه ولترى نفسها فيه كأنثى جميلة ناضجة، كانت تعشق الكعب العالى لأنه يرفعها عالية عن الارض، فهكذا كانت رغبتها فى التحليق بعيدا دون قيود، وتمنت لو تتركها الجاذبية الأرضية قليلا لتتحرك كريشة يداعبها الهواء فتلامس تلك الزهرة وتعود لتدور فى الهواء متراقصة وهكذا دون أن تسقط أو تلمسها يد بشرى !!
لذلك كانت تهوى رقص التانجو -الثائر -لأنها أحست به يقود ثورتها ويأخذها بعيدا عن دنياها المملة  فترقص وتستمر فى الرقص وحيدة على أنغام الموسيقى النابضة كصوت قلبها الصغير وأحيانا ما تشاركها وسادتها كحبيبها المنتظر00 حتى  أنها خصصت لرقصاتها فستانا لم تعد ترتديه بعد أن أعادت تهذيب شكله وأزالت عنه حشمته. فقصت أطرافه إلى فوق ركبتيها ومزقت أكمامه المتدلية فصارت بحق كراقصات التانجو  بعد أن أطلقت لشعرها  العنان وكشف الفستان عن مفاتنها التى أرضت غرورها كأنثى، وتراقصت على أنغام التانجو طيلة ليلتها كفاتنات الليل فى الأفلام دون أن يشعر بها أحد فكانت غرفتها فى آخر البيت ولم تصل نغمات جنونها إلى مسامع أحد.
وظلت ترقص ونغمات الموسيقى تدق حتى وصلت الى نشوة الحرية وكسرت فى كل حركة قيدا وفى كل همسة قانونا وطافت فوق خيالاتها وفاقتها حتى سكنت موسيقى الغرفة وترنمت موسيقاها الخاصة فحلقت معها فى سمائها، وتمنت لو ظلت معلقة هكذا معها حتى تصير طيفا من أطيافها السبعة!  
ثم جاءت اللحظة الصادمة عندما دقت الساعة  الثانية عشرة حين رأتها أمها فجأة وهى تقتحم غرفتها - بعد أن جذبتها أنوار الحجرة المضاءة فى تلك الساعة المتأخرة فقد اعتاد الجميع على النوم فى الساعة التاسعة - بينما  تقف هناء فوق السرير بالثوب المشقوق والشعر المرسل كفتيات الليل.. هكذا وصفتها  أمها  قبل أن تمسكها من شعرها وتسحبها من فوق السرير لتدفعها إلى ركن الغرفة مستجوبة إياها عما كانت تفعل؟
حاولت هناء استعطافها معللة فعلها بأنها كانت ترقص كما شاهدت الممثلاث فى أحد الأفلام، ووعدتها ألا يتكرر الأمر شرط ألا تخبر والدها -ضابط الجيش المتقاعد الذى علمته حياة العسكرية القسوة أكثر مما تعلم عن الانضباط - ولكن الوالدة أرادت لابنتها أن تتعلم الدرس جيدا وعلى الطريقة العسكرية. كما أنها لم تتجرأ يوما  أن تخفى شيئا عن زوجها فأخبرته بما شاهدت من ابنتها - هناء- التى وقفت ليلتها تتلصص أمام باب غرفة والديها لتعلم ماذا يعدان لها،  وقبل أن يقام السرادق العقابى الذى سمعت بعضا من تفاصيله حتى انكمشت أمعاؤها  وتسارعت دقات قلبها، وتساءلت بنات أفكارها، أين المفر؟!
دارت بها الدنيا ووقفت فى الصالة حائرة الخطى ينهش عقلها التفكير، وقد أحاط بها ملاك وشيطان، ينصحها أحدهما بأن تعود وتعتذر وتتلقى عقابها فى سكون، بينما يغويها بالآخر بالتمرد والهروب والانطلاق بلا حدود أو سؤال. حتى انها قررت فى لحظة عابثة الخلاص من هذا الجحيم الى الأبد،  ففتحت الباب ووقفت أمامه ساكنة تتنسم هواءً باردا يشجعها هو الآخر (فى خلسة) على الهروب، ثم تحركت خطوة.. ولكن إلى الداخل بعد أن سمعت لكليهما وقد ابتسمت ابتسامة ماكرة لما قررت. وبعد أن اختمرت الفكرة بعقلها توجهت نحو حجرتها وأحضرت ورقة كتبت عليها بعض الكلمات بخط مرتعش وأخذت نفسا عميقا ثم صرخت بصوت زلزل سكون هذا البيت وسقطت مغشيا عليها !!
خرجت أمها مسرعة مضطربة من الغرفة تنظر حولها باحثة عن مصدر الصوت. لتجد ابنتها ترتمى على الأرض شاحبة وكأن الدماء قد هربت منها جميعها، وبيدها الورقة التى كتبتها تقول فيها  (كان هذا هو سرى الكبير... أمى لم تكن أنا تلك الراقصة ولكنها قرينتى من العالم الآخر).
احتضنت الأم ابنتها بقوة وكأنها تحميها من قوى خفية تحاول اختطافها، وهى لا تتحرك وتجيد تمثيل دورها بأنفاس متقطعة وأطراف هامدة،  ولسان حالها الساكن يقول لأمها وأبيها هازئا (أهلا بكم فى عالم الضلال) ثم ضاحكا ماكرا يقول: (وأهلا بى مع قرينتى الجديدة هائمة فى سمائنا الراقصة بلا حدود)0 •