الخميس 4 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عبدالعزيز جمال الدين:من يكتب التاريخ الحقيقى لمصـر والمصرييـن؟

عبدالعزيز جمال الدين:من يكتب التاريخ الحقيقى  لمصـر والمصرييـن؟
عبدالعزيز جمال الدين:من يكتب التاريخ الحقيقى لمصـر والمصرييـن؟


من وثائق ومخطوطات الكنيسة المصرية أشرقت صفحات من تاريخ مصر تتجلى فيها علاقة المصريين بحكامهم وما قام به المصريون من ثورات وتمردات، وما تعرضت له مصر من فتن سياسية واقتصادية.
ومن أهم مخطوطات ووثائق الكنيسة المصرية ما جمعه ساويرس بن المقفع من تاريخ البطاركة (من بدايات القرن الأول الميلادى على وجه التقريب)، وتبعه من بعده، فى مخطوطة تعد الوحيدة التى تشمل تاريخ مصر منذ القرن الأول الميلادى وحتى عهد الملك فؤاد فى بدايات القرن العشرين. وتعد المخطوطة أكبر وثيقة تؤرخ لعشرين قرنا من تاريخ مصر.
فقد جمع ساويرس بن المقفع «تاريخ البطاركة» بتكليف من الخليفة الفاطمى المعز لدين الله رغبة منه فى معرفة أحوال المصريين الأقباط وتاريخهم.
«تاريخ البطاركة» حققه المؤرخ عبدالعزيز جمال الدين عاشق التاريخ الذى حقق العديد من الوثائق المهمة ومنها: تحقيق كتاب «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» للجبرتى.

سألته: من أين جمع ساويرس بن المقفع «تاريخ البطاركة» الذى ضم عشرين قرنا من تاريخ مصر؟

قال: جمعه من الكنائس والأديرة المصرية، خاصة دير «ناهيا» فى الجيزة، فقد كان ساويرس كاتبا فى ديوان الدولة فى عصر المعز لدين الفاطمي، وأحضر ساويرس المخطوطات القديمة عن البطاركة وترجمها هو ومن معه عن اليونانية والقبطية.
قلت له: كان ذلك جديدا.. أن يؤرخ لعصره بتاريخ البطاركة.
قال: لم يكن التأريخ بالسنوات معروفا فى ذلك الوقت، ولم يعرف التأريخ بالسنين إلا بعد الجبرتي.. فعرفه المقريزى وابن تغرى بردى واختار ساويرس أن يؤرخ بتتبع تاريخ البطاركة.

•  أول تحقيق من نوعه
سألته: وهل ما قمت به من تحقيق المخطوطة هو التحقيق الأول لها؟


قال: هو التحقيق الأول من نوعه أو بهذه الطريقة التى جمعت بين رؤيتين: واحدة لما سجله ساويرس والثانية لما جمعه المؤرخون المسلمون فى عصره بالإضافة إلى ملاحق الكتاب، أما ما سبق من محاولات فكان نشر أجزاء من الكتاب فى باريس، وما نشره المعهد القبطى فى مصر، وعندما ينشر من المخطوطة بعض الأجزاء يعد هذا تحقيقا حسب المدرسة القديمة لتحقيق المخطوطات، وبالنسبة ليّ فقد حققت المخطوطة نفسها، فقد كانت موجودة فى دار الكتب المصرية.

• عشرون قرنا من كتاب واحد
سألته: لماذا يعد كتاب «تاريخ البطاركة» لابن المقفع إنجازا علميا فى عصره؟

فقال: الكتاب يجمع تاريخ مصر خلال عشرين قرنا وهى أطول فترة تاريخية يجمعها كتاب واحد، مما يؤكد وحدة تاريخ مصر، فلم يقسم الكتاب إلى عصر رومانى أو عباسى أو مملوكى بل ينظر إلى تاريخ مصر بشكل كلي، والكتاب إنجاز بحثى لعدد من الكتّاب جمعهم ساويرس بن المقفع.

قلت: تقصد أن ساويرس بن المقفع كان رئيس مركز أبحاث فى عصره؟

قال: «فعلا»، ساويرس كان منسقا وكاتبا ومحللا لتاريخ البطاركة حتى القرن العاشر الميلادي، أما ما كتب بعد ذلك فهو من كتّاب آخرين، وقد جمعته الكنيسة القبطية المصرية، والكتاب نفسه مهم جدا فى عصره وفى العصور التى تليه وحتى الآن، ويرجع ذلك إلى ندرة الكتاب بين يدى القراء والدارسين بسبب تصور أنه كتاب عن تاريخ الكنيسة فقط، ولكنه يحتوى على معلومات تاريخية مهمة جدا استفاد منها الكتّاب والمؤرخون القدامى من أمثال ابن مماتي، وابن العميد، والمقريزي، والجبرتى.
وبالنسبة لى كانت بداية اهتمامى بكتاب «تاريخ البطاركة» بعد أن قرأت كتاب: «مصر فى عصر الولاة» للدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف، الذى استعانت فيه بمخطوط ساويرس بن المقفع، واستعنت فى ذلك بنسخة طبعت فى فرنسا 1914.

• الصراع على السلطة:
قلت له: كتاب «تاريخ البطاركة» كما ذكرت لى يضم 700 صفحة، ولكن الملاحق التى ألحقتها به تبلغ أضعاف الكتاب.. لماذا؟؟

فأجاب: تحتوى الملاحق التى وضعتها على عرض تاريخى من عام 216م إلى 1235م، بالإضافة إلى ملاحق عن ولاة مصر منذ عمرو بن العاص حتى نهاية السلطنة العثمانية، وملحق عن ممالك النوبة والحبشة، وملاحق عن الفتن مثل فتنة «افرنج أحمد»، وفتنة «باب الغرب»، وفتنة «محمد جركس»، وفتنة «القاسمية والفقارية» وكانت كلها تمردات على الوالى العثماني، وقيمة هذه الملاحق أنها تفسير لما خفى فى نص المخطوط».
قلت: وماذا خفى من أخبار تلك الفتن؟ وماذا كان موقف المصريين منها؟
فأجاب: استنتجت من تاريخ الفتن الطبيعة الدموية للصراع على السلطة فى مصر منذ الاحتلال اليونانى والرومانى والفارسي، وكان المصريون فى الغالب يؤثرون السلامة، ويبتعدون عنها، وكانت معظمها تمردات من عناصر أجنبية ولكنها تتستر بفتاوى دينية من عدة شيوخ لم يلاحظوا التناقض القائم بينها سواء على مستوى المتصارعين أو المبررات الدينية.

• الفتاوى الدينية ودعم السلطة
قلت: حتى العناصر الأجنبية حينذاك كانت تتستر بفتاوى دينية؟

قال: «كل احتلال كان يستند إلى فتاوى دينية لدعم مشروعيته، الاحتلال اليونانى عام 300 ق.م اعتمد على دعم من كهنة آمون عندما دخل الإسكندر مصر، والاحتلال الرومانى اعتمد على دعم من بعض رجال الدين المسيحى المصريين خاصة فى فترة الإمبراطورية الرومانية.
الوجود العربى اعتمد على دعم الكنيسة القبطية فى البداية، واعتمد على فقهاء المذاهب الأربعة السنية «ابن حنبل، والشافعي، وأبوحنيفة، ومالك» فى العصر العباسى اعتمادا على رؤية خاصة بهم بأن التمرد على الخليفة وإلغاء الخلافة يعنى نهاية العالم.
وهم يكفرون كل من يثور على الحاكم الظالم والخلافة فى رأيهم تحفظ الكون وبدونها يفسد العالم.
قلت له: الصراع على السلطة، والفتاوى الدينية، والتبرير للحاكم الظالم ودخول الأجنبي.. من الذى يصنع التاريخ؟!
قال: حركات الشعوب الساعية للتقدم ضد القوى التى تحاول منعها من ذلك هنا نحصل على تاريخ حقيقى وليس تاريخا للملوك والحكام.

• ثورات المصريين
قلت: ذكرت أن ساويرس بن المقفع قدم فى كتابه إضاءات حول حكم العرب المسلمين للمصريين الأقباط.

قال: فى ظل الخلافة الفاطمية خاصة فى فترة حكم المعز لدين الله الفاطمى (332هـ - 365هـ) (973م - 975م) كانت تقام مناظرات فى مجلسه بين أصحاب الديانات الشائعة فى مصر وقتها «اليهودية والمسيحية والإسلام» وكانت تتسم بروح التسامح والتفاهم، وقد حضر ساويرس بن المقفع بعض هذه المجالس وشارك فيها، كما أنه عندما تكلم عن الحروب الصليبية باعتبارها حروبا استعمارية وليست حروبا بين الإسلام والمسيحية حتى إنه يعلق على امتلاك الصليبيين وقتها لبيت المقدس بأن الأقباط اليعاقبة سوف لا يستطيعون الحج لبيت المقدس لاختلافهم والصليبيين فى المذهب الديني، وفى تناوله لسيرة صلاح الدين الأيوبى  ذكر الكثير من إصلاحاته المهمة بالنسبة للمصريين الأقباط، ولعل من الأمور التى انفرد بها ساويرس كمؤرخ ما كتبه عن المصريين فى ظل السلطة الإسلامية من الناحية الاجتماعية ومدى تمتعهم بالحرية الدينية والاحتفال بأعيادهم وبناء أو تجديد كنائسهم، كما أفاض فى شرح الأسباب التى دعت إلى تمرد المصريين وثوراتهم على الحكام العرب وأعنفها ثورة البشمور بسبب فداحة الجزية والضرائب.
قلت: ولكن ما هو الإنجاز الفكرى الحقيقى لساويرس وقد وصفته فى الكتاب بأن عقليته تمثل عقلية العصور الوسطى وكان يعتقد بالخرافات والكرامات؟
قال: أولا تناوله لفكرة الحروب الصليبية بمعناها الاستعمارى وليس الدينى وهذا إنجاز، ثانيا: أوضح لنا حقيقة وضع المجاعات التى حدثت فى مصر مثل «الشدة  المستنصرية التى حدثت أيام الخليفة المستنصر بالله الفاطمى فى القرن العاشر الميلادي، وذكر المؤرخون من أمثال ابن ميسر، والمقريزي، وابن تغرى بردى «إن الشدة المستنصرية كان سببها انخفاض مياه النيل وانتشار الأوبئة فى مصر، ولكن ساويرس فى كتابه «تاريخ البطاركة» يبين أثر القلاقل والفتن فى إيجاد هذه الشدة.. فرآها فتنة سياسية» أى أن ساويرس تميز بقدرته على التحليل السياسى والاقتصادى عن سابقيه.

• منطق التاريخ
قلت: استكملت تاريخ البطاركة فما الذى يتميز به تدوينك لتاريخ البطاركة عما كتبه السابقون؟

قال: أرخت لخمسة وثمانين عاما من تاريخ البطاركة  من أوائل القرن العشرين.. فرجعت إلى ما كتبه السابقون، والتزمت بالمادة العلمية دون أى إضافات فليس لدى ذكر للكرامات وغيرها مما حفلت به التدوينات السابقة فمنطق التاريخ يرفض الإيمان بالكثير من الكرامات.
قلت: طريقة كتابتك لتحقيق كتاب تاريخ البطارك مميزة جدا.. فيحتوى المتن على الكتاب، والنصف الآخر للمتن يحتوى على كتابات المؤرخين عن نفس الفترة.
قال: بالفعل القسم العلوى من الكتاب يشمل المخطوطة وتحقيقها، والقسم الآخر يحتوى على كتابات المؤرخين المسلمين عن نفس الفترة التى يتناولها مخطوط تاريخ البطاركة حتى يتاح لأى باحث أن يرى وجهتى النظر، وكل ما كتب عن تاريخ مصر من الأقباط والمسلمين، وأتمنى أن يتم تداول الكتاب بشكل أوسع حتى يتعرف المصريون إلى تاريخهم بشكل أدق، بل وأرى أن تدرس المرحلة المسيحية فى مصر بشكل واسع فى المدارس المصرية إلى جانب المرحلة الفرعونية والإسلامية بدلا من الاكتفاء بدراسة الدين فقط، دون دراسة تاريخ مصر فى هذه الفترة، وأشير إلى أن وزارة المعارف العمومية فى أوائل القرن العشرين كانت تقرر كتابا باسم «تاريخ الأمة القبطية» على المدارس العمومية وذلك فى أعقاب ثورة 1919.

• التاريخ الحقيقى
سألته: تقول إن هناك فترات وأحداثا من تاريخنا لم يكشف عنها بعد.. فهل تحقيق المخطوطات يمكنه أن يجلو أحداث هذه الفترات؟

قال: «بالطبع فلو تم توفير المخطوطات خاصة الموجودة فى المكتبات الأجنبية عن تاريخ مصر لأمكن دراسة مراحل عديدة من تاريخنا، وكشف ما خفى منها مثل الفترة العثمانية، والمقدونية، والرومانية، والبيزنطية».
قلت: ومن سيكتب التاريخ الحقيقى لمصر والمصريين؟
قال: «المجتهدون، وإتاحة المراجع للناس والباحثين ليقدموا لنا تاريخا أدق مما نقرؤه، وأن يحكم فى النهاية عقلية المصريين تاريخ حقيقى لا ينحاز للفتاوى الدينية ولا للصراعات السياسية. •