أحببت هذا التيس

فوزي إبراهيم وريشة محسن رفعت
مساحة كبيرة من الحنين تسكنها ذكريات الطفولة.
ومساحة كبيرة من ذكريات الطفولة تسكنها ذكريات جدتى. ومساحة كبيرة من ذكريات جدتى يسكنها ذلك «التيس» الذى تعرفت عليه وأحببته هناك فى قريتنا بالشرقية، وكانت ذكرياتى مع صديقى حبيبى «التيس» من أجمل الذكريات، بل كانت المعانى التى تعلمتها منه من أعظم المعانى، لقد كان هذا «التيس» هو الكائن الأرحم والأكرم الذى تعلمت منه معنى العطاء والرحمة والكبرياء أيضا.
كان هذا التيس هو العائل الوحيد لصديقة جدتى لأمى وجارتها العجوز الحاجة «أم صباح» هكذا كانوا ينادونها وهكذا عرفتها وأحببتها وكانت سيدة مسنة لكنها كانت عفية وضحوك وكان نور الطيبة والسماحة يشع من بشرتها السمراء ونظرتها الحنون ولم يكن لها دخل أو مصدر رزق سوى ما يدره لها «التيس» مما تتقاضاه من أهل القرية مقابل معاشرته للماعز، حيث كانت له تسعيرة محددة كى يعاشر و«يعشر» العنزة أو «المعزة» عبارة عن عدد من أكواز الذرة وعيدان «الخف»، وهى عيدان الذرة الغضة الصغيرة، بالإضافة لمبلغ من المال، أى أنه يحصل على ما يتقوت به وما تتقوت به صاحبته العجوز «أم صباح»، وكثيرا ما كان يروق لى أن أشارك ستى «أم صباح»- هكذا كان كل أطفال الحارة ينادونها- ففى الأرياف كل من هى فى سن ستى نقول لها ستى فلانة، وكان يحلو لى أنا وحفيدها الذى يكبرنى بسنوات «محمد» أن نقدم الذرة والخف للباشا «التيس» المدلل من كل أهل القرية والذى لم يعرف الغرور يوما رغم هيبته وفحولته، وكان ودودا جدا معى على عكس باقى الأطفال بل أنى كنت أشعر فى عيونه أنه أحبنى مثلما أحببته لدرجة أننى كنت الوحيد الذى يُسمح له أن يشارك ستى «أم صباح» فى تنظيفه وحمومه أيضا، حيث كان الحفيد محمد لا يحب ذلك ويذهب لأمه التى فرض عليها الزواج أن تترك أمها وحيدة.
وربما كانت ستى أم صباح أول من علمنى أهمية النظافة، فقد كانت شديدة النظافة وكثيرة الوضوء، وكذلك كانت شديدة الحرص على أن يظل «التيس» فى كامل بهائه، بل كانت العلاقة بينها وبين ربيعها وعائلها الوحيد «التيس» غنية بالمعانى التى يمكن أن يلتقطها طفل فى سنى، على عكس ما توارثنا من صورة ذهنية ظالمة عن «التيس» ولا أعرف من هو الظالم ابن الظالم الذى جعله فى موروثنا الشعبى رمزا للدياسة وربط بينه وبين «الديوس» فلم أجده يوما ديوسا، بل رأيته غيورا على إناثه وقادرا على فرض هيبته وسطوته، ليس على الماعز فقط بل عليهم وعلى اللى جابوهم وعلى أهل القرية كلها، ولابد لى أن أعترف أنه كان أول من علمنى وعلم أطفال جارتنا أول دروس الثقافة الجنسية وأول من جعلنى أضحك على هؤلاء المتخوفين من تعليم الثقافة الجنسية فى مصر، وأشعر أنهم فى عالم ثانٍ، فالطفل فى أرياف مصر لديه من الثقافة الجنسية ما يعلم به المتخوفين والمطالبين معا بتعليم الثقافة الجنسية بفضل أمثال هذا «التيس» وكل ذكور الحيوانات فى القرية حيث المعاشرة فى العلن وفى الساحات، بل أن هناك من العادات ما يجعل صاحب المعزة أو البقرة والجاموسة أن يحن على الأطفال وخاصة اليتامى أمثال حضرتى ببعض من النقود إذا ما تمت المعاشرة والتلقيح بنجاح، وهو ما كان يدفعنا إلى الالتفاف حول الذكر والأنثى نتابع بشغف منتظرين نجاحها.
وأعود لصديقى «التيس» وأقول كم يأخذنى الحنين إليك وإلى كرمك وعطائك يا أنبل ذكور الحيوانات ويا أجمل من كثير من ذكور البشر. •