الصيوان

منى صلاح الدين
آلو... آلو... آلو ... واحد.. اتنين.. ثلاثة.. أربعة.. آلو.. الله... الله.. الله.. هكذا كان يتسلل الصوت ذو الخروشة، من ميكروفون فى أحد الشوارع المجاورة، لنجرى إلى البلكونة لنستطلع الأمر، أيكون فرح ابنة الجيران أم صيوان عزاء لأحد كبار المنطقة، لننقل الخبر إلى باقى أهل البيت والجيران.
نتطلع إلى مكان الصيوان الذى يأتى منه الصوت، لنراقب سيارة محل الفراشة المملوءة بعروق الخشب والحبال القماش والكراسى واللمبات وغيرها، والعمال وهم يغلقون الشارع تمهيدا لإقامة الصيوان.
لحظات لاتنسى تلك التى نتابع فيها عامل الفراشة وهو يتنقل برشاقة رابطا قدميه بسلم خشبى طويل، ليقيم الهيكل الخشبى للصيوان، ويربط عروق الخشب بواسطة حبال سميكة، ويكسوها بعد ذلك بقماش «الترك» مكونا الأسقف والجدران.
.. لكن حكايات الصيوانات الآن شىء آخر.. فلم تعد للفرح وللعزاء فقط، بل للامتحانات والدعايات الانتخابية، ولحفلات السفارات ومناسبات الحكومة، ولقاءات السيد الرئيس ولأشياء أخرى كثيرة.
∎ تاريخ عريق
الفراشة مهنة قديمة تميزت بها مصر، كما يوضح الحاج محمد فوزى صاحب أشهر محل فراشة فى منطقة عابدين ورئيس مجلس إدارة الرابطة العامة لمقاولى أعمال الفراشة بالجمهورية، ورئيس شعبة أصحاب محلات الفراشة بالغرفة التجارية.
عدد أعضاء الرابطة يقدر بثلاثة آلاف، لكن عدد العاملين فى المجال أكثر من ذلك بكثير بحسب فوزى، لكنهم لم يشتركوا فى الرابطة بعد وفاة رئيسها السابق الحاج منصور نصار منذ71عاما.. فى محل فراشة الحاج محمد تلفت نظرك صورته مع والده الذى كان يعمل فى الخاصة الملكية، ويمتلك محل فراشة بعابدين، ورثه عنه كما ورث عنه المهنة.
يتذكر رئيس الرابطة شكل الصيوان أيام الملكية، الذى يتزين بالأعلام المصرية «الهلال والنجمة» والتاج الملكى والزخارف الإسلامية، المنقوشة على ''التروك'' بلونها الأحمر، والمطرزة يدويا، بينما يجلس المدعوون على دكك من الخشب أو كراسى من الخشب الخرازان وأمامهم الصوانى المحمولة على كراسى من المعدن.
أما قارئ القرآن الكريم فيجلس على كرسى مذهب، فيما يفرش الصيوان بالسجاد المصنوع من الصوف، وتنيره كلوبات الجاز.
ويشير فوزى إلي أن الكثير من الفراشين لايزالون يحتفظون ببعض أدوات الفراشة القديمة، والتى يطلبها بعض الزبائن.
وكان من أشهر أصحاب محلات الفراشة الذين يذكرهم فوزى، عباس الصافى فى حى شبرا ووهدان فى عابدين ومنصور نصار فى السيدة زينب ورجب المدنى فى العباسية.
يعود الصيوان إلى خيام البدو، فهو مكان ''يصون لقاء مجموعة من الناس فى مكان واحد''، ليدعم فكرة توحد الجماعة المحدودة بحدود معينة من المبادئ والقيم التى يتفق عليها المجتمع، كما يقول أستاذ الأدب الشعبى بأكاديمية الفنون، فارس خضر.. ومن أشهر الصيوانات التى عرفتها مصر ، ذلك الذى أقامه الإسكندر الأكبر، وفسطاط عمرو بن العاص من بعده.. أما أشهر الصيوانات التاريخية فكان عند افتتاح قناة السويس 9681، بحضور الخديو إسماعيل وعدد من ملوك أوروبا، وخلال افتتاح المتحفين المصرى 1091، والإسلامى 3091، فى عهد الخديوى عباس حلمى.
وكان عقدا الخمسينيات والستينيات العصر الذهبى لمهنة الفراشة، حيث أقيمت الصيوانات العملاقة التى اتسع بعضها لـ 04 ألف شخص، خلال إحياء حكومة الثورة لاحتفالات أعياد العمال و32 يوليو، إضافة للعروض العسكرية.
∎ الحكومة تكسب
يفضل رئيس رابطة الفراشة إقامة صوانات وبوابات وفرش كراسى للوزارات الحكومية ولقاءات رئيس الجمهورية والسفارات والمدارس الشهيرة بدلاعن إقامة سرادقات عزاء أوصوانات أفراح، حسبما تؤكد مجموعة شهادات التقدير والدروع التى تزين مكتبه.
«الحكومة تكسب، الزبائن العاديون لا يلتزمون فى الكثير من الأحيان بدفع مقابل الصيوان المتفق علية متحججين بما تكبدوه من أموال فى علاج المتوفى أو تجهيز العروس وكلمتهم الشهيرة دائما هو موت وخراب ديار» يقول الحاج محمد فوزى.
لكنه لا يمانع فى إقامة سرادقات الأفراح أوالعزاء فى الفلل أو فى بعض المناطق الجديدة كالشيخ زايد أوالتجمع الخامس، حتى يضمن سلامة عدته وأدواته، مثل الفرح الذى أقامه لأحد أبناء عائلة سراج الدين، فى فيلتهم بالدقى.
∎ كرسى فى الكلوب
وحتى لا تنشب معارك الأفراح خاصة، ويخسر صاحب الفراشة معداته مع انطلاق أول كرسى يضرب كلوب الجاز معلناً بدء المعركة، بدأت ظاهرة استئجار البودى جارد، كما يقول زاهر سمير من أبناء حى الخليفة، الذى يتولى إقامة السرادقات لعائلته وجيرانه فى المناسبات السارة والحزينة.
ويقول زاهر فى العادة العزاء أقل تكلفة من الفرح، وتبدأ الأسعار من ألف جنيه للعزاء، على أقل تقدير، لتصل إلى 001 ألف جنيه فى بعض الأفراح.
∎ شطة لمساطيل الفرح
لا ينكر الحاج محمد فوزى رواج سوق الفراشة فى رمضان الماضى مع العودة الكبيرة لموائد الرحمن لأول مرة منذ اندلاع ثورة 52 يناير.
فى المقابل لا يتوقع أن يدر موسم الدعاية الانتخابية القادم دخلا كبيرا على أصحاب مهنة الفراشة، فهو وغيره من أهل المهنة قد يقيمون الصوانات كهدية أومجاملة لمرشح الدائرة أملا فى مساعدته للدائرة بعد نجاحه فى الانتخابات، خاصة فى الوقت الذى تنافس فيه البنرات «اليفط الدعائية المصنوعة بالكمبيوتر» سوق الفراشة.
ويتذكر منسق الصوانات فى عائلة أمين بالمعادى، شوكت مختار ما حدث مع مرشحى رئاسة الجمهورية خلال انتخابات عام 5002 عندما سقطت المنصة بالمرشح أيمن نور أثناء حديثه للحضور داخل السرادق، واكتشف فيما بعد أن البعض قد قام بكسر أرجل المنصة.
يتذكر مختار أيضا بعض المواقف الطريفة التى تحدث أثناء أداء الراقصة لرقصتها داخل صوان الفرح، حيث يقوم البعض بوضع الشطة أعلى الفحم المتوهج بأسفل منصة الرقص، لمضايقة «مساطيل الفرح»، كما يستخدم الأطفال الصغار فى وضع بعض المواد المشتعلة فى سرادق الدعاية الانتخابية للمرشح المنافس فى انتخابات مجلس الشعب لحرق خيمته الدعائية.
∎ صيوان الشيخ الشعراوى
تختلف أدوات الصيوان الآن عما كانت عليه فى الماضى، فقماش الصيوان أصبح يصنع بطريقة الطبع بدلا من التطريز، وأشهر مصانع إنتاجه الآن، مصنع محمد شرف وإخوته بالإسكندرية، أما الكراسى فمن الإستانلس المبطن بالقطيفة.
ومن تقاليع الصوانات الآن كسوة الصيوان بأقمشة زرقاء وأخرى سوداء وثالثة بأشرطة بيضاء يعلوها صور للشيخ الشعراوى أو الكعبة المشرفة أو آيات قرآنية فى صوانات العزاء، وفى صوانات الأفراح تعلق لمبات زينة ملونة وقد يستخدم قماش من الستان الملون الذى يضفى بهجة على المكان.
∎ الخيامية
والتروك إحدى منتجات حرفة الخيامية التى يقوم الصانع فيها بتصنيع الخيام وخياطتها وتزيينها، بإضافة قطع نسيج ملون وخياطتها بغرزة إبرة صغيرة تسمى الغرزة السحرية، وتصنع «تروك الفراشة» من أقمشة الخيام ويتم تخريمها وتبطينها ووضع كباسين وشرائط الجلد بها، والتى عن طريقها يتم إيصال التروك ببعضها بواسطة الحبال.
والترك الواحد عبارة قطعة من قماش «التيل الثقيل» يكون فى طبقة واحدة أو طبقتين يعلوه قماش بزخارف إسلامية يغلب عليها اللون الأزرق أو الأحمر بارتفاع 5,5 متر وعرض 3 أمتار، ويباع المطرز منه يدويا لأصحاب الفراشة بـ002 جنيه والمصنوع بواسطة ماكينة الخياطة و بـ051 جنيها.. ويقول «محمود» إنه نتيجة لإقبال أصحاب الفراشة على استخدام التروك المصنعة بالماكينات، لانخفاض أسعارها بالمقارنة باليدوى، انصرف الكثير من صناع الخيامية عن عمل تروك الفراشة، إلى الاهتمام بعمل وحدات مطرزة «تبلوهات» تحمل صورا طبيعية لطيور أوحيوانات أو آيات قرآنية بأشكال متعددة كرجل ساجد، أو آثار فرعونية أوإسلامية لبيعها للسائحين.
ويؤكد محمود على أن القماش المصنوع بطريقة الطبع والذى يحمل رسومات فنية ذات طابع إسلامى هو الأكثر استخداما الآن فى الفراشة الخيامية.. ويعتقد البعض أن فن الخيامية نشأ عن التتار وانتقل إلى الهند وجاء إلى مصر مع الفاطميين خاصة أنهم سكنوا الخيام عند مجيئهم إلى مصر ثم بلغ ذروة تألقه فى عصر المماليك.. لكن الدكتور مختار الكسبانى أستاذ الفنون والآثار بجامعة القاهرة، يرجع تاريخ الرسومات والزخارف الموجودة على أقمشة الخيامية والفراشة إلى العصر العباسى وتحديدا الدولة الطولونية فى مصر، تلك الزخارف التى تسمى بطراز «سامراء» وهو عبارة عن زخارف نباتية تجريدية، والتى يوجد بعض نماذج لها فى متحف الفن الإسلامى بالقاهرة وهى من نسيج القطن الملون.
ويفرق الكسبانى بين نسيج الخيامية ونسيج كسوة الكعبة المشرفة المصنوع من الحرير الثقيل المطرز بأسلوب السيرما، الذى طوره الأتراك واستخدموا فيه خيوط الذهب والأحجار الكريمة.