السبت 27 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قارئ الملوك القادم من ميت غزال

رئيس دولة التلاوة

ريشة: هبة المعداوى
ريشة: هبة المعداوى

أجمع على حبه القراء والموسيقيون والمستمعون، فذاع صيته وانتشر حتى لُقِّب بـ(رئيس دولة التلاوة)، بل تسابق إلى حبه رجال الحكم وعامة الناس، لدرجة أنه أول القراء الذين سُجلوا فى الإذاعة من دون اختبار، وحصل أيضا على لقب (قارئ الملوك والرؤساء)، فما السر فى تلك المكانة التى بلغها الشيخ مصطفى إسماعيل منذ صغره.



إنها ببساطة.. فطرته، فهو صاحب طريقة مميزة وأسلوب خاص فى التلاوة، وينتقل بسلاسة من نغمة إلى أخرى مع كل آية، حتى استطاع أن يمزج بين علم القراءات وأحكام التلاوة وعلم التفسير وعلم المقامات، فينتقل بالمستمعين من الواقع إلى عالم تسوده الروحانيات والفيوضات الإلهية، بفضل استشعاره جلال المعنى القرآنى. 

 

ولد مصطفى محمد المرسى إسماعيل فى يونيو 1905، بقرية (ميت غزال) بمحافظة الغربية، وينتمى لأسرة لها مكانتها فى قريته وحظ من الثراء، كان جده الحاج المرسى إسماعيل أول من حرر موهبته الفطرية فى تلاوة القرآن الكريم.

ألحقه والده بالكُتّاب ليحفظ القرآن ويتعلم القراءة والكتابة، فكان طفلًا عنيدًا يميل أحيانًا إلى اعتزال الناس والانفراد بنفسه فى ظل شجرة، فإذا خلا له المكان رفع صوته الجميل بتلاوة القرآن الكريم، وسرعان ما اجتذب الناس ليجتمعوا حوله، كما كان يتسلل إلى الموالد ويمشى وراء الباعة الجائلين ليستمع إلى نداءاتهم، فكانت أصواتهم تجتذب الطفل بداخله فيمضى وراءهم حتى يضل طريق العودة إلى المنزل. 

 

مصطفى إسماعيل مع رابطة القراء أمام قصر عابدين
مصطفى إسماعيل مع رابطة القراء أمام قصر عابدين

 

ظل إسماعيل فى كُتّاب الشيخ عبدالرحمن أبوالعينين عامين، تعلم فيهما القراءة والكتابة وحفظ ربع القرآن الكريم، ثم التحق بكتاب الشيخ عبدالله شحاتة ليتم حفظ القرآن كاملا ويجيد الخط ويتقن القراءة والكتابة.

واندفع مصطفى فى طفولته لتلاوة القرآن حتى صارت له شهرة فى التلاوة وهو فى سن العاشرة، حتى سمعته جدته لوالده وهو يتلو القرآن فى منزل الأسرة ذات يوم فخرجت من حجرتها تطلق (زغرودة)، واستحلفت والده أن يبذل ما فى وسعه ليتم مصطفى دراسة القرآن وعلومه وتجويده، ولم يتردد الوالد، فأرسل فى طلب الشيخين: محمد أبوحشيش وإدريس فاخر، وهما من رجال الدين وأساتذة علم التجويد فى القرية.

كان الشيخ إدريس يشغل وظيفة مفتش كتاتيب بالحكومة، فعقد الشيخان جلسة لسماع الصبى، فأعجبهما دقة حفظه وراقهما أداؤه وصوته الذى كان بادى الجمال والحلاوة، فقالا إنهما يرحبان بتعليمه تجويد القرآن وتلقينه علوم القراءات. 

بعد كتاب الشيخ محمد أبوحشيش، انتقل الشيخ مصطفى إلى دراسة التجويد وعلم القراءات على يد الشيخ إدريس فاخر، حتى أتم تلاوة وتجويد القرآن ومراجعته على يده ثلاثين مرة. 

ذات يوم، اصطحبه جده إلى طنطا لزيارة مريض، وبعد الانتهاء من الزيارة ذهب الجد والحفيد إلى الصلاة فى مسجد (عطيفة) بميدان الساعة وقال الجد لحفيده اقرأ ربعًا يا مصطفى، فقرأ واستمتع الناس وذُهلوا من موهبته مع صغر سنه، فنصح أحد المصلين الجد بأن يلحقة بالأزهر.

 

الشيخ مصطفى إسماعيل وعائلته
الشيخ مصطفى إسماعيل وعائلته

 

واستجاب الجد وألحق حفيده بالمعهد الأزهرى بطنطا، فكان الطفل مصطفى إسماعيل يسافر يوميا من قريته إلى طنطا، وبسبب الإرهاق.. قرر جده أن يستأجر مسكنا له بطنطا. فكان الحفيد يحرص على الالتزام بالزى الأزهرى (العمامة والجبة والقفطان)، بل كان الطالب الوحيد الذى يرتدى الزى كاملا كأنه شيخ كبير. 

لم يكمل الشيخ الموهوب دراسته بالمعهد الأزهرى.. وتفرغ للقراءة، فقابل فى المسجد الأحمدى (السيد البدوى)، الذى كان يضج بعمالقة القراءات فى العالم الإسلامى، الشيخ إبراهيم سلام، الذى استفاد منه مصطفى كثيرا، بل كان له فضل أيضًا على الشيخين: الحصرى والبنا، حتى إن الثلاثة مصطفى والحصرى والبنا اجتمعوا فى ذكرى وفاة الشيخ سلام وأحيوها بقراءة القرآن وفاء له. 

أبواب مفتوحة

كانت المناسبة التى فتحت أمام الشيخ مصطفى إسماعيل أبواب الشهرة فى ربوع مصر، هى حين توفى حسين بك القصبى فى اسطنبول، وكان من أعيان القطر المصرى وعضوًا فى مجلس الشيوخ، وأعيد إلى الإسكندرية على الباخرة، ونقل من الإسكندرية إلى طنطا بالقطار، وخرجت الناس تستقبل الجثمان فى المحطة، إذ كانت عائلة القصبى من العائلات الشهيرة هناك. 

فخرج الشيخ مصطفى مع الآخرين ليستقبل الجثمان، ويوم العزاء دعاه أحد أقارب القصبى للقراءة بالعزاء، فذهب إلى السرادق الضخم المقام لاستقبال الأمير محمد على، وسعد باشا زغلول وعمر باشا طوسون وأعيان مصر وأعضاء من الأسرة المالكة فى ذلك الوقت، ليسمع السرادق كله صوته، وعندما انتهى أول القراء الشيخ سالم هزاع، قفز الشيخ مصطفى على الدكة وجلس، وفجأة نادى قارئ (الشيخ حسن صبح) قائلا: انزل يا ولد.. هو شغل عيال. 

فحضر أحد أقارب القصبى وقال له هذا قارئ مدعو للقراءة، فقرأ وأبهر الحضور بتلاوته ومنهم الشيخ صبح، وخاطبه بعد انتهاء التلاوة: جدع يا وله.

وبقى لليوم الثالث، فتقاضى عن تلك الليالى 10 جنيهات، وبذلك انتقل أجره من 70 قرشًا إلى 10 جنيهات. 

 

فاروق يستمع إلى إسماعيل والفشنى
فاروق يستمع إلى إسماعيل والفشنى

 

 ولم يمض إلا وقت قصير حتى دعاه البعض لإحياء ثلاث ليال فى مأتم بحى الداودية بالقاهرة، وأخبروه أن الشيخ محمد سلامة سيشاركه فى القراءة (وكان من عادته ألا يترك لغيره من القراء سوى دقائق معدودات).

فمرت الليلة الأولى ولم يقرأ الشيخ مصطفى، وفى الليلة الثانية، ظل الشيخ سلامة يقرأ من الثامنة إلى الثانية عشرة من منتصف الليل فى فصل الشتاء، وعندما انتهى.. غادر معه أغلب الحضور.

فلم ييأس الشيخ مصطفى من هذا الموقف المحرج وجلس على الدكة وبدأ فى القراءة، واجتذبت الآيات الأولى أسماع من كانوا ينوون الانصراف، فعادوا إلى كراسيهم، وتوقف آخرون خارج السرادق، وعندما رنت فى أسماعهم نبرات صوته عادوا للجلوس، حتى توافد إلى السرادق جمهور جديد فامتلأ كما كان فى أول الليلة، حتى الساعة الرابعة صباحا بين استحسان الحاضرين وتشجيعهم.

وكان من الحضور الشيخ درويش الحريرى (عالم المقامات الشهير)، الذى أتى خصيصا لسماع الموهبة الربانية الجديدة، فتقدم إليه مهنئا على أدائه الرائع وبشره بمستقبل باهر، وسأله: أين تعلمت كل هذه المقامات.. ومن علمك إياها؟ فرد الشيخ مصطفى: لم أتعلم المقامات قط، فقال الحريرى: فطرتك أقوى وأصح من كل الدراسات، ولا يمكن لمعهد فنى بأكمله أن يصل إلى ما وصلت إليه فطرتك التى هى موهبة من الله تبارك وتعالى. 

ارتحل الشيخ مصطفى إسماعيل فى بداية الأربعينيات إلى القاهرة.. ليطرق باب الشهرة، وفى طريقه لمح لافتة كتب عليها (رابطة تضامن القراء)، فدخلها لينضم إليها، وعندما هم بدفع رسم الاشتراك، توقف أحد الشيوخ وسأله: أنت مصطفى إسماعيل اللى بيحكوا عنك.. اقرأ لى، فقرأ وأجاد، ثم اصطحبه الشيخ نفسه إلى القراءة فى مسجد الحسين، ويشاء القدر أن تنقل هذه القراءة على الهواء فى الإذاعة المصرية مباشرة، وكان من المفترض أن يحيى تلك الليلة الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى الذى اعتذر لمرضه. 

فجاءت الفرصة مواتية لمصطفى إسماعيل، فسمعه الملك فاروق الذى طلب من سكرتيره الخاص محمد بك سالم أن يدعو الشيخ لإحياء ليالى رمضان فى القصر الملكى.

 

ريشة: كريم عبدالملاك
ريشة: كريم عبدالملاك

 

وبدأت نجاحات مصطفى إسماعيل تعلو وتزداد فى سماء المقرئين، فأصبحت له مكانة وشعبية كبرى بين المصريين، بل امتد هذا النجاح إلى جماهير الأمة الإسلامية والعربية، حيث ارتفع صوته عبر الإذاعة المصرية يطرق أسماع المسلمين فى كل أرجاء المعمورة. 

قارئ الأزهر

أصبح إسماعيل قارئ الجامع الأزهر ثلاثين عاما من 1947 وحتى وفاته، وقد ظل يرفض التعامل مع الإذاعة حتى عام 1948، بعدما ذهب إليها من قبل بدعوة من رئيس الإذاعة وقتها، ولكنه لم يحسن استقباله بما يليق بقارئ للقرآن الكريم، فرفض التعامل مع الإذاعة، ثم انهالت الشكاوى على الإذاعة المصرية من كل مكان لعدم إذاعة صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وكتبت الصحافة فى هذا الشأن وأنحت باللائمة على الإذاعة التى لم تعرف كيف تتفق مع الشيخ، وبعد مفاوضات وضغوط من القصر الملكى وافق إسماعيل على القراءة فى الإذاعة. 

الشيخ مصطفى إسماعيل أبرز من أتقن المقامات وقرأ القرآن بأكثر من 19 مقامًا بفروعها وبصوت عذب وأداء قوى وقد عُرف عنه أنه صاحب نَفَس طويل فى القراءة التجويدية، سجَّل بصوته تلاوة القرآن الكريم كاملًا مرتلًا، وترك وراءه 1300 تلاوة لا تزال تبث عبر إذاعات القرآن الكريم.

وكان الرئيس محمد أنور السادات من المحبين له، حتى إنه كان يقلد طريقته فى التلاوة عندما كان مسجونًا. كما اختاره ضمن الوفد الرسمى لدى زيارته للقدس سنة 1977، وهناك قرأ القرآن الكريم مرة ثانية فى المسجد الأقصى. 

وفى الساعة التاسعة من صباح 22 ديسمبر 1978، غادر الشيخ إسماعيل عزبته فى قرية ميت غزال مودعا ابنته متجها إلى دمياط للقراءة فى افتتاح جامع البحر فى حضور الرئيس محمد أنور السادات. 

 

 

 

وهناك قرأ تلاوته الأخيرة وبعدها طلب إلى السائق الرجوع إلى قريته، وعند مفترق الطريق بين طنطا والمحلة الكبرى طلب منه التوجه إلى الإسكندرية.

وتوجهت السيارة إلى فيللته بحى رشدى، وطلب من سائقه أن يضع المشمع فوق السيارة فتعجب السائق لهذا الطلب لأن الشيخ كان يمنعه دائما من فعل ذلك خشية أن يتلف لونها، ولما أبدى السائق دهشته قال له بالحرف الواحد (أنا مش طالع تانى يا سيدى).

وداخل البيت أصابته علامات الاحتضار، وتوفى صباح الثلاثاء 26 ديسمبر 1978.

 

 

خلال إحدى جولاته الخارجية فى فرنسا
خلال إحدى جولاته الخارجية فى فرنسا