الخميس 18 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الحقيقة الغامضة!

الحقيقة الغامضة!

فى عالم تتشابك فيه طرق السفر، من رحلات خطوط الطيران التى جعلت السماء مزدحمة، إلى البحار المفتوحة والسكك الحديدية التى تشق اليابسة، يرافق كل رحلة رفيق صامت لا يلفت النظر. لا يطلب مقعدًا، ولا يحتاج جواز سفر. له مهمة واحدة لا تتبدل وهى «أن يتذكر».



وفقًا لتقارير «الاتحاد الدولى للنقل الجوى»، تجاوز عدد المسافرين سنويًا المليارات.. ومع هذا الزخم، يبقى ذلك «الصندوق البرتقالى»، الذى يسميه العالم «الصندوق الأسود»، أحد أعمدة الثقة التى تقوم عليها سلامة سفر الإنسان فى العصر الحديث.

إلا أن قصة هذا الجهاز ليست حكاية لجان أو مؤسسات، بل حكاية رجل واحد… فقد بدأت القصة بخسارة شخصية، وانتهت بصوت لا يموت.

وُلِد «ديفيد رونالد دى مى وارن» عام 1925 فى جزيرة «جروت آيلاند» شمال أستراليا. ففى طفولته أهداه والده جهاز راديو بسيطًا، فاشتعل فى قلب الصبى فضول عميق تجاه الإلكترونيات والموجات والأصوات المختبئة فى الهواء. لكن هذه البدايات المبهجة انكسرت مبكرًا.

ففى عام 1934، فقد والده فى حادث تحطم طائرة خلال عبورها مضيق «باس» الذى يقع بين «جزيرة تسمانيا» والبر الرئيسى الأسترالى. لم ينجُ أحد فى هذا الحادث. لم يُعرف السبب، ولم يكن هناك أى تقنية تساعد على فهم ما حدث. 

ظل هذا الصمت المروع يسكن عقل الطفل، تاركًا سؤالًا لا يفارقه مهما مر الزمن.. لماذا تختفى الحقيقة مع سقوط الطائرات؟

ومرت السنوات، وكبر ديفيد، ودرس العلوم فى سيدنى،  ثم أكمل دراسة الدكتوراه فى لندن، قبل أن ينضم عام 1952 إلى «معامل البحوث الجوية» فى مدينة «ملبورن» فى الجنوب الشرقى لأستراليا. فقد كان العالم -آنذاك- يدخل عصر الطائرات النفاثة؛ عصر مبهر، ولكنه مخيف فى آن واحد.

وجاءت الفرصة فى عام 1953، حين تحطمت إحدى الطائرات من طراز «دى هافيلاند كوميت» - وهى أول طائرات الركاب النفاثة - فى الجو. فكان ديفيد ضمن فريق المحققين الذين وقفوا أمام الحطام مكتوفى الأيدى حيث إنه لا يوجد دليل واحد يفيد بما حدث فعلًا للطائرة فى لحظتها الأخيرة.

وبحسب تقارير المتاحف الوطنية الأسترالية، أن ديفيد أدرك حينها أن هناك شيئًا ينقص هذه التحقيقات، فلم يكن أحد يعرف ما دار فى قمرة القيادة فى تلك اللحظات الأخيرة.

ومن رحم هذا الإحباط وُلدت الفكرة. تخيل جهازًا صغيرًا، قويًا، يتحمل الكوارث، يسجل أصوات الطيارين وبيانات الطائرة بدقة، ويستمر فى تسجيل الدقائق الحاسمة مهما حدث.

وفى عام 1954، كتب اقتراحه الأول، ثم استطاع عام 1956، أن يصنع النموذج الأول لجهاز يسجل صوت القمرة وبيانات الرحلة على شريطٍ مغناطيسى.

ولكن الطريق لم يكن سهلًا. فقد خشى بعض الطيارين من أن يتحول التسجيل إلى وسيلة رقابة تقوض حريتهم داخل قمرة القيادة، كما سخر آخرون من الفكرة معتبرين أنها غير عملية.

ظل ديفيد مؤمنًا بأن الحقيقة تستحق الحماية. فقد وثقت مصادر «وزارة الدفاع» الأسترالية، أن الفكرة استمرت لسنوات تواجه المقاومة إلى أن حدث تحول غير متوقع، حيث شاهد أحد كبار مسئولى السلامة الجوية البريطانية الجهاز، أثناء إحدى زياراته لأستراليا، فأدرك أهميته، وفتح له أبوابًا دولية.

ولكن فى عام 1960، جاء الحسم من الداخل، فبعد حادث تحطم طائرة شركة «ترانس أستراليا»، أوصت لجنة التحقيق -آنذاك- بضرورة تركيب أجهزة تسجيل صوت وبيانات فى الطائرات المدنية. واتخذت الحكومة الأسترالية قرارًا تاريخيًا بجعل هذا الجهاز إلزاميًا.

وبذلك أصبحت أستراليا أول دولة فى العالم تفرض تركيب «الصندوق الأسود»، ليصبح الابتكار محميًا بقوة القانون، ومنه انطلق إلى طائرات العالم كله.

وبمرور الزمن، لم يظل «الصندوق الأسود» حكرًا على الطائرات. فوفقًا للمعايير الدولية «للمنظمة البحرية الدولية»، تم اعتماد مسجلات بيانات الرحلات البحرية على السفن، كما اعتمدت السكك الحديدية أجهزة تسجيل خاصة بها.

وفى نفس السياق، طورت صناعة السيارات وحدات لحفظ بيانات الحوادث. وحتى المستشفيات والمنشآت الصناعية الكبرى بدأت تستلهم الفكرة ذاتها بتسجيل الحقيقة لحماية الأرواح.

ظل ديفيد يعمل بهدوء وتواضع فى مجال البحوث الجوية حتى تقاعده عام 1983.

وبحسب سجلات «الاتحاد الدولى للنقل الجوى» نال ديفيد أعلى تكريم فى عالم الطيران بحصوله على جائزة «إدوارد وارنر» تقديرًا لإسهامه الجذرى فى سلامة الطيران.

أما الآن، فتحتفظ المتاحف الأسترالية بنماذج جهازه الأول، شاهدةً على بساطة الفكرة وعظمة أثرها.

علم ديفيد العالم أن التكنولوجيا ليست مجرد آلات، بل امتدادًا لإنسانية الإنسان.