عرض مسرحى استمر 73 سنة
الوقوع فى «مصيدة» أجاثا كريستى
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة. فى لندن قبل عدة سنوات ذهبت لمشاهدة مسرحية «المصيدة» للكاتبة الإنجليزية الشهيرة والقديرة أجاثا كريستى.
لم يكن ما يشغلنى وأنا أشاهد هذه المسرحية البوليسية سؤال: من القاتل؟..
كنت مهتمًا أكثر بأن أعرف إجابة سؤال آخر أهم: ما سر استمرار عرض «مصيدة الفئران» كل هذه السنين منذ قدمت لأول مرة على المسرح سنة 1952 (ولا تزال تقدم حتى الآن 2025)؟
وقتها عندما شاهدتها سنة 2016 أقيم احتفال شارك فيه كل من ساهم فى إنتاج وتقديم المسرحية بإحياء الذكرى الرابعة والستين لإطلاقها (تمر الآن الذكرى الثالثة والسبعون) واحتفل معهم الجمهور أيضًا. ومنذ سنوات طويلة تزيد على الربع قرن وأنا أنوى أن أذهب إلى المسرح لمشاهدة هذه المسرحية الظاهرة، لكن شيئًا ما كان يأخذنى عن ذلك، أحيانًا أفكر فى أنها مسرحية تجارية لا تستدعى الاهتمام. وأحيانًا أقول إن مرور كل هذه السنين على «مصيدة الفئران» يعنى من زاوية نظر معينة أنها مسرحية عتيقة تجاوزها الزمن ولا بد أنها تقدم بلغة وفن مسرحى ينتسب للخمسينيات من القرن العشرين فهل أذهب لمشاهدة مسرحية متحفية؟
ولعل هذه الهواجس هى التى كانت تحول بينى وبين الوقوع فى «المصيدة» خصوصًا أننى شاهدت مسرحيات كثيرة، منها التقليدى، ومنها الحداثى، ومنها أيضًا العروض التى تجمع بين التمثيل والموسيقى والغناء والرقص والمسماة «ميوزيكال» وحضرت أيضًا عروضًا للأوبرا والباليه، فما بالى أتجاهل أو أتحاشى أو أتناسى مصيدة أجاثا كريستى التى ضربت بامتداد عروضها طوال كل هذه السنوات الرقم القياسى لطول مدة واستمرارية العرض المتواصل دون انقطاع؟

مع أننى ممن يستمزجون أدب أجاثا كريستى وقرأت لها روايات عدة بلغتها الأصلية الإنجليزية، حتى أننى أقتنى مجموعة مجلدات أعمالها الروائية الكاملة (66 رواية ) وأعرف أنها كتبت أيضًا 150 قصة قصيرة و19 مسرحية، وأعتبرها فى بعض هذه الروايات من كتاب روائع الأدب الإنسانى ولا يعيبها أنها كاتبة جريمة أو أنها رائدة الأدب البوليسى. وبالمناسبة فقد لاحظت أن «مصيدة الفئران» ليست محسوبة ولا موجودة فى هذه المجلدات، إذ أن المؤلفة نفسها لم تكن تعتبرها عملًا جديرًا بأن تضمه إلى أعمالها الكاملة.
لم تكن مسرحية!
والحقيقة أن هذه المسرحية لم تكن رواية مثل رواياتها الأخرى.. كما أنها لم تكتب فى الأصل كمسرحية، فقد كتبتها سنة 1947 كقصة قصيرة، وكانت تطلق عليها «ثلاثة فئران عمياء» ثم أعدتها كتمثيلية لتقدم فى الإذاعة لمرة واحدة بناء على رغبة عبرت عنها الملكة مارى. واستجابت لها أجاثا كريستى. وعندما لاقت نجاحًا طلب أحد منتجى المسرح البريطانى أن يشترى حق تحويل التمثيلية الإذاعية إلى مسرحية ولم تمانع المؤلفة وكتبتها للمرة الثالثة كمسرحية وطلبت ألا تنشر القصة القصيرة وألا تحوّل إلى فيلم سينمائى طوال زمن عرض المسرحية. ومنحت مستحقاتها المالية عن المسرحية هدية عيد ميلاد لأحد أحفادها.. وظنت أنها ستكون مسرحية متواضعة قصيرة العمر.
ففى مذكراتها التى نشرت بعد وفاتها فى سنة 1976 بسنة، أشارت إلى محادثة جرت بينها وبين أول منتج للمسرحية «بيتر سوندرز» الذى قال لها أنه لا يتوقع أن يدوم عرضها أكثر من 14 شهرًا.. لكنها راجعته بالقول: «هذا كثير.. أعتقد أنها لن تستمر لأكثر من ثمانية أشهر».
لكن توقعاتهما لم تكن صحيحة. ولم يكن ممكنًا لهما ولا لأى أحد أن يتوقع أن تمر حتى الآن 73 سنة ولا تزال المسرحية معروضة منذ إطلاقها سنة 1952.. ليس هذا فقط بل إن هناك طاقمًا مسرحيًا آخر يقوم يعرضها على مدار العام فى مدن وأقاليم بريطانيا وفى بلدان أخرى حول العالم.
لكن المسرحية لم تعرض تحت الاسم القديم «ثلاثة فئران عمياء» لأن مسرحية بهذا الاسم ظهرت وعرضت قبل الحرب العالمية الثانية، واقترح الاسم الجديد واحد من عائلة المؤلفة هو زوج ابنتها الوحيدة. وقد اختاره من مشهد فى مسرحية «هاملت» الشهيرة لشكسبير.

وقبل أن تعرض «المصيدة» فى لندن، كانت قد عرضت لأول مرة على المسرح فى مدينة نوتنجهام، ثم تجولت فى عدة مدن بريطانية أخرى، قبل أن يشاهدها جمهور العاصمة لندن على مسرح «امباسادور» فى حى المسارح «وست إند» واستمر العرض حتى سنة 1974 لينتقل إلى مسرح أكبر ملاصق له هو «سان مارتن» الذى شاهدتها عليه.
المسرحية المتحفية
وصفت إحدى الناقدات البارزات مشاهدتها لمسرحية «مصيدة الفئران» منذ سنوات، بأنها أشبه بزيارة متحف!.. فالجو العام عتيق والديكور والملابس التى يرتديها الممثلون والممثلات تعود إلى أكثر من نصف قرن. والحبكة محكمة طبعًا والجو بوليسى تمامًا. والطريف أنك طوال العرض حتى المشهد قبل الأخير لا تعرف ولا يمكنك أن تتيقن من يكون القاتل بين كل هؤلاء. والحكاية بسيطة لكنها تنطوى على غموض مثير تفننت فيه أجاثا كريستى وأبدعت فى رواياتها العديدة، ومن الطريف أن نعرف أن مادة القصة التى تشكلت منها المسرحية مستمدة من واقعة حقيقية لمقتل طفل اسمه «دينيس أونيل» بينما كان يتبناه مزارع فى ريف «شوربشاير» البريطانى وزوجته فنحن نشاهد على المسرح زوجين شابين – قام بالدورين فى الموسم الأول عام 1952 الفنان الشهير الذى تحوّل إلى مخرج سينمائى بارز «ريتشارد اتنبره» وزوجته «شيلا سيم» – يرتبان اليوم الأول لمشروع صممت عليه الزوجة واضطر الزوج لمجاراتها فيه وهو فندق صغير فى منطقة ريفية منعزلة وزادها عزلة هبوط الجليد، ونتابع مع توالى فصول المسرحية حلول الشخصيات ووصولها للإقامة فى هذا المنزل، ولكل منها أسبابه لكننا نفاجأ بأن هناك قاتلاً هاربًا وأنه أحد هذه الشخصيات! وهذه هى العلامة المميزة لفن أجاثا كريستى.. تجميع الشخصيات فى مكان واحد، ووجود القاتل بينها.. فمن القاتل؟

تمضى أحداث «المصيدة» لنتعرف على الشخصيات وأسرارها وملامحها ونبدأ فى الشك، ومن بين الشخصيات مفتش بوليس يجرى التحريات التى تزيد شكوكنا لكنها لا ترشدنا إلى القاتل.. وهكذا الغموض والشكوك والإيهام وتوزيع الاتهام على هذه أو هذا أو تلك أو ذاك من شخوص تحوم حولها جميعًا الشبهات.
وفى اللحظة التى يكون قد غلبنا فيها شعور عدم اليقين، تفاجئنا ملكة أدب الجريمة بالكشف عن القاتل، الذى يصدم ذكاء المشاهد باعتراف صريح ودون أن يستجوبه أحد!
جمهور عالمي
عندما تدخل مبنى المسرح ستلاحظ أن الجمهور القادم لمشاهدة «المصيدة» ليس كله من البريطانيين. الأغلبية هم سياح مندهشون وتكللهم علامة الاستفهام التى اجتذبتنى، لماذا استمرت هذه المسرحية كل هذا الزمن وما زالت مستمرة؟.. لماذا وقع الجميع وهم بالملايين فى «مصيدة» أجاثا كريستي؟ ..ما السر وراء هذا الإقبال؟
محاولات الإجابة عن هذا السؤال على مر السنين وردت بشكل أو آخر فى مقالات ودراسات يمكن أن تملأ مجلدات، ومع ذلك ليست هناك إجابة واضحة ومؤكدة، هل هى الحبكة؟ هل لعب الغموض دوره وتأثيره السحري؟ هل هو «التويست» الانقلاب فى مسار الأحداث وأسرار الشخصيات؟..هل هى النهاية غير المتوقعة» هل هو اسم أجاثا كريستى وشهرتها العالمية التى تحققت من خلال رواياتها المترجمة إلى لغات العالم والمنتجة فى أفلام ودراما تليفزيونية يشاهدها الناس فى أنحاء الدنيا؟.. هل هو الاتفاق غير المكتوب والذى يلتزم به كل الأطراف من المنتج والفنيين والفنانين والعاملين فى المسرح.. وكذلك النقاد والجمهور. كم حجم هذا الجمهور على مدى 73 عامًا من العروض المتواصلة؟..ملايين طبعًا.. كل هؤلاء يتفقون وطاقم العرض ويستجيبون لطلبهم الذى يقفون جميعًا على خشبة المسرح بعد انتهاء المسرحية وتلقيهم التحية، ماطلبهم؟

«نرجوكم.. رجاء حارًا.. لا تقولوا لأحد .. لا تكشفوا.. لاتجيبوا عن سؤال من القاتل؟.. كلنا شركاء فى الجريمة، قولوا لمن يسألكم أنكم وعدتم بكتمان السر وعلى من يريد إجابة أن يأتى بنفسه ويشاهد العرض القادم!».
فهل يكون هذا التعهد - الذى أجد نفسى بسبب طرافته - ملتزمًا به أيضًا، هو سر هذه المسرحية العتيقة؟ أم أنها تكشف عن أعماق النفس البشرية.. وعن أن البراءة الظاهرة ليست بالضرورة براءة بقدر ما هى خداع أو قناع؟
المسرحية بسيطة ومسلية والشخصيات فى معظمها نمطية، هكذا رأيتها، ولست أدعى أننى ناقد مسرحى، لكن حبى للمسرح يعود لقراءة كتب المسرح لتوفيق الحكيم فى وقت مبكر، ومصاحبتى لكتاب ونقاد وفنانين مصريين خلال كتابة وتحضير وبروفات وتقديم ونقد بعض المسرحيات فى منتصف الستينيات من القرن العشرين. لكن بعد مشاهدتها بقى السؤال معلقًا: ما سر استمرار عرض «مصيدة الفئران» كل ليلة طوال كل هذه السنين؟
زادت حيرتى لكننى استسلمت لفكرة أنه سحر «أجاثا كريستي» التى تتمتع بأعلى قراءة لأعمالها حول العالم بأكثر من 100 لغة.
وفى الأسبوع المقبل نواصل



