الأربعاء 10 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العشق فى فنجان بن

تتسارع الإيقاعات، وتتشابه الأزمنة، ويكاد الصباح يفقد ملامحه، وهنا تبحث الروح عن مساحة صغيرة تستعيد فيها هدوءها الأول، قبل أن تستسلم للضوضاء اليومية، وتراكم المهام التى تفقد الإنسان القدرة على التمييز بين أول ساعة وآخرها، ووسط كافة الطقوس التى نمارسها كل يوم، يظل هناك طقس صغير يقف فى مواجهة هذا الازدحام، بسيط لكنه الأكثر قدرة على إعادة تشكيل الداخل. وهذا الطقس هو «فنجان القهوة»، رغم كونها مشروبًا يبدو عاديًا فى الظاهر، فإنها تتحول لدى ملايين الأشخاص لـ«مفتاح بداية»، ودليلًا لانتقال العقل من السكون إلى الحركة، وتمهد الطريق أمام ساعات مليئة بالتحديات والانشغالات.



يستيقظ الإنسان فى وقت محدد، لكن وعيه لا يستيقظ معه فى اللحظة نفسها، فبين فتح العينين واستعادة التركيز مسافة زمنية قصيرة، لكنها حاسمة فى تحديد شكل اليوم، هنا تظهر القهوة كأول محطة يقف عندها العقل، كأنها إشارة البدء التى تمنح الحواس فرصة لاستعادة توازنها.

كثيرون لا يربطون مشروب الصباح بفكرة الاستيقاظ فقط، بل ببداية الوعى الحقيقي، فالرائحة التى تنبعث من الفنجان تمنح الذهن إمكانية كشف حالته الداخلية، إن كانت تميل للهدوء، أو توتر خفيف، أو رغبة فى العزلة، أو بداية تستحق الحماس، إنها لحظة صادقة لا يتزيف فيها الشعور، وتسمح للإنسان بأن يرى يومه بوضوح، قبل أن يسقط فى زحمة الأحداث.

تأثير الكافيين

وراء هذا الشعور بوادر الانتعاش، تتكون عملية دقيقة داخل الجسم، حيث يعمل الكافيين مباشرة على تعطيل إشارات التعب التى يرسلها «الأدينوزين» للخلايا العصبية، وهو مادة كيميائية مسئولة عن الإحساس بالنوم والتعب، فيتراجع الإحساس بالإرهاق، ويبدأ العقل فى استعادة حضوره.

 

ريشة: خضر حسن
ريشة: خضر حسن

 

ومع ذلك لا تتوقف العملية عند هذا الحد، حيث ترتفع نسبة الدوبامين بشكل خفيف، وهو ناقل عصبى يرتبط بالتركيز والتحفيز وتحسين المزاج، ما يخلق مزيجًا من التوازن والجاهزية، لذلك فالقهوة لا تنشط الحواس فقط، بل تعيد تشغيل مجموعة من الوظائف الذهنية المهمة، من بينها التركيز واتخاذ القرار وتنظيم الأفكار، وبذلك تمنح العقل قدرة أفضل على ترتيب الأولويات منذ اللحظة الأولى.

القهوة ليست بالضرورة استسلامًا لطقس يومي، بقدر ما هى مساحة قصيرة لإعادة ترتيب الداخل، حين يجلس الإنسان أمام فنجانه، يبدأ ما يشبه المشهد الداخلى الهادئ، وتظهر الأفكار المؤجلة على السطح، وتتقدم المهام التى تنتظر التنفيذ تدريجيًا، وتتضح المشاعر المختلطة التى خلفها اليوم السابق.

وحتى من لا يملك وقتًا كافيًا للراحة، يدرك أن القهوة تمنحه وقفة ذهنية تساعده على فرز ما هو مهم، وما يمكنه الانتظار، إنها لحظة صامتة، لكنها ذات أثر طويل، تملأ الفجوة بين الفوضى والتنظيم، وتسمح للإنسان بأن يستعيد سيطرته على يومه بطريقة هادئة وغير صدامية.

ذاكرة الرائحة

هناك رابط لا يمكن تجاهله بين الرائحة والذاكرة، ورائحة القهوة على وجه الخصوص تمتلك قدرة خاصة على استدعاء مشاهد كاملة من الماضي، قد تعيد صورة لمطبخ قديم، أو صباح مدرسى بعيد، أو جلسة قصيرة مع شخص لم يعد قريبًا كما كان، وقد تذكر برحلة دراسية، أو بداية عمل جديد، أو فترة حياتية كانت القهوة جزءًا منها بشكل يومي.

هذه الاستدعاءات لا تأتى عمدًا، ولا ترتبط دائمًا بالحنين، لكنها تخلق لحظة دفء يصعب وصفها، إنها تمس الذاكرة من دون أن تطلب إذنًا، وتمنح الإنسان شعورًا بأن يومه مرتبط بخط طويل من الذكريات، وأن بدايته الجديدة ليست معزولة عما سبق.

لا يشرب الجميع القهوة للسبب ذاته، فهناك تنوّع وهو ما يجعل القهوة واحدة من أكثر السلوكيات اليومية تعبيرًا عن اختلاف البشر، فهناك من يشربها بحثًا عن تركيز يساعده على أداء المهام العقلية المعقدة، وهؤلاء غالبًا ما ينتمون إلى المهن التى تحتاج إلى حسابات دقيقة، أو إنتاج ذهنى متواصل.

 

 

 

وهناك من يتعامل معها كعلامة اجتماعية، حيث تمنحهم فرصة لفتح حوار أو تخفيف توتر اللقاء الأول، ولفئة أخرى، تمثل القهوة وسيلة لضبط المزاج، إذ يربطون طعمها بشعور داخلى من الاتساق والهدوء.

وهناك من يشربها بدافع الاعتياد، ارتباطًا برائحة معينة أو ذكريات تخص مرحلة محددة من العمر، وفى المقابل، يلجأ كثيرون إليها للحفاظ على اليقظة خلال دراسة مطولة أو مناوبة ليلية، هذه الأنماط المختلفة تؤكد أنها تتجاوز كونها مشروبًا واحدًَا، لتصبح تجربة تختلف باختلاف صاحبها.

قبل الزحمة

قبل أن يسقط الإنسان فى دوامة الرسائل والمهام، تأتى لحظة القهوة كحاجز يفصل بين السكون والحركة، هذه اللحظة تمنع الانزلاق المباشر إلى الفوضى، وتمنح صاحبها مساحة زمنية قصيرة تساعد على تنظيم الوعى واستيعاب ما ينتظر.

فى تلك الدقائق، يصبح الفنجان إطارًا ذهنيًا يعيد للعقل قدرته على التفكير الواضح، كثير ممن يعملون فى المكاتب المفتوحة، أو البيئات السريعة يتخذون قراراتهم الأولى خلال هذه الدقائق، لأنها الفترة التى يتراجع فيها الالتباس، وتظهر فيها العناوين الرئيسية لليوم دون ضوضاء.

طقس القهوة يحمل كذلك بعدًا يتعلق بالحضور الإنساني، فهناك من يفضل احتساءها وحيدًا، معتبرًا أن هذه اللحظة ملك شخصى لا يقبل المشاركة، فى هذه العزلة القصيرة يجد الإنسان فرصة للتأمل ولمواجهة نفسه بوضوح، لا توفره أى لحظة أخرى فى اليوم.

على الجانب الآخر، هناك من يرى فى القهوة مساحة للرفقة الهادئة، حيث تمنحهم فرصة للتواصل من دون مجهود يذكر، وجود شخص آخر فى اللحظة نفسها يضيف دفئًا لا يحتاج إلى كلمات، لهذا يمكن القول إن القهوة تصنع نوعين من الأجواء، عزلة مريحة، أو صحبة لطيفة، وكلاهما يمنح التجربة نكهة خاصة.

تسارع الحياة جعل القهوة جزءًا من بنى اليوم الرئيسية، لم تعد ترفًا أو عادة اختيارية، بل محطة ضرورية وسط زحام المواعيد، ففى عالم مليء بالمشتتات، تتحول القهوة إلى نقطة توقف تمنح العقل القدرة على إعادة التشغيل، هذا الدور لم يعد مقتصرًا على بدايات اليوم، بل يمتد إلى لحظات كثيرة خلال العمل أو الدراسة أو الانتقال من مهمة لأخرى، انتشار الأكواب الورقية فى شوارع المدن ليس مشهدًا عابرًا، بل انعكاسًا لحاجة عامة لتثبيت الإيقاع وسط هذا التسارع.

ركن الطوارئ

فى بعض أماكن العمل، يظهر ركن القهوة بوصفه جزءًا ضروريًا من دورة اليوم، حيث تحولت الطاولة الصغيرة التى تجمع ماكينة القهوة والأكواب إلى ما يشبه نقطة الإسعاف الأولى، هنا يبدأ كثير من العاملين يومهم.

وهنا أيضًا يستعيدون تركيزهم خلال لحظات الضغط، وتشيع بين العاملين عبارة ساخرة تقول إن «الكافيين أهم من الأوتوكلاف» وهو جهاز طبى متطور، فى إشارة إلى أن القدرة على التركيز هى شرط مسبق لتشغيل أى شيء آخر، هذه الطقوس ليست عادة، بقدر ما هى جزء من إدارة الطاقة اليومية، التى يحتاجها الأشخاص لمواجهة إيقاع العمل السريع.

رغم اختلاف طرق تناول القهوة، وتباين أسباب اللجوء إليها، لكن يظل حضورها ثابتًا فى حياة الإنسان.. إنها ليست مشروبًا فقط، بل لحظة تشكيل جديد للعقل قبل أن يدخل سباق اليوم، فى عالم يزداد سرعة، وتقل فيه المساحات التى يمكن للإنسان أن يلتقط فيها أنفاسه، تظل القهوة نقطة التوازن الوحيدة التى تجمع بين الهدوء والتركيز، وبين الحضور والذكريات، وبين الاستعداد والعمل، وربما لهذا السبب تستمر القهوة فى لعب دورها اليومي، كأنها إعلان بأن الإنسان ما زال يملك قدرة على ضبط إيقاعه، مهما اشتدت سرعة الزمن من حوله.