الخميس 18 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

3 قرون جدل فقهى على هل تجوز القهوة

خمرة الصالحين

على أعتاب متعة متكررة، يجلس «مصطفى» على مقهى يحتسى قهوته المفضلة «سادة بن غامق».. يتابع بهدوء وجوه البشر ويستمتع بأول رشفة فى فنجانه.



لم يتخيل أحمد صاحب الثلاثين عامًا أن قهوته المفضلة كانت حرامًا.. والمقهى الذى يجلس عليه كان محرمًا هو الآخر.

 

 

 

لم يفكر «مصطفى» للحظة واحدة وهو يستمتع برشفة آخر قطرة فى فنجانه.. أن مشروبه ثار حوله الكثير من الجدل الفقهى العنيف بين علماء الدين لثلاثة قرون من الزمان.. «فالقهوة» أفتى بعض فقهاء الدين بحرمتها حرمة قطعية، وقالوا مستحلها كافر حلال الدم، ومنهم من قال بحلها، بل أطلق عليها اسم «خمرة الصالحين» نكاية فى من يحرمون شربها.

قبل أن أحكى لكم حكاية تحريم القهوة والعودة فى الفتوى ثم التحريم والعودة مرة أخرى.. دعونى أقل لكم كيف دخلت القهوة مصر؟

«القهوة» اكتشفها رجل صوفى من اليمن هو على بن عمر بن إبراهيم الشاذلى فى العام 828 للهجرة، وقطف قشرة البن وتناولها ليسهر ذاكرًا لله تعالى..وانتشرت بين مريدى الطريقة الشاذلية إحدى الطرق الصوفية تدريجيًا، وحالما وصلت «الشاذلية» إلى مكة المكرمة تم تحريمها حيث قيل بأنها «خمرة مسكرة»، ما استدعى الأمر إلى جلد بائعها وطابخها وشاربها.

وتعاطى بعض الناس القهوة فى أقبية البيوت متخفين عن المحتسبين آنذاك، وروى فيما مضى أنه كانت هنالك مقاهٍ تبدو كالخمارات ويجتمع عليها رجال ونساء مصحوبين بالدف والرباب وغير ذلك من الآلات الموسيقية، ما قاد مجموعة من العلماء إلى تحريمها، ويوزعون العيون لاصطياد المرتادين من محبى «القهوة الشاذلية».

ودخلت القهوة مصر من بلاد اليمن عن طريق البحر إلى السويس ثم إلى القاهرة، وذلك فى القرن السادس عشر ميلادى، حين لاحظ طلبة الأزهر المصريون أن زملاءهم المغتربين من اليمن يتناولون مشروبًا أثناء الليل للمذاكرة، وبدأوا فى تذوقها واعتمدوا عليها فى المذاكرة، عونًا لهم على السهر، وبدأ الأمر ينتشر فى مصر شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى البيوت والمقاهى. 

 

 

 

وانقسم المجتمع المصرى حولها حينذاك بين مؤيد ومعارض، ولم يتقبلها إلا بعد جدال عنيف بين العلماء.. جاء أبرزه عندما أفتى الشيخ أحمد بن عبد الحق السنباطى وهو أول من تولى مشيخة الأزهر فى عهد الاحتلال العثمانى سنة 945، بأن القهوة مسكرة تغيب العقل وشربها حرام.. وقاد الحملة ضد القهوة بشراسة.. وتعصب جماعة من العوام لما سمعوا فتوى الشيخ السنباطى، وخرجوا إلى بيوت القهوة فكسروا أوانيها.. وأرسل تجار البن وفدًا منهم إلى الشيخ السنباطى يرجونه العدول عن الفتوى حتى تخمد الفتنة فرفض قائلًا: ما دامت القهوة تؤثر فى العقل فهى حرام.

وقامت معركة كبيرة بين مؤيدى السنباطى والتجار ومعهم أصحاب المقاهى، وقتل واحد من مؤيدى التجار وجرح آخرون، ومات منهم واحد آخر، فهرب الشيخ السنباطى ومن معه داخل المسجد، فحاصر التجار وأهالى القتلى المسجد وأقاموا سرادقًا ليقيهم البرد، وقاموا بصنع القهوة وتوزيعها ساخنة بدون سكر «سادة».. ومن يومها صار تقديم القهوة السادة فى سرادقات العزاء تقليدًا ومن العادات المصرية الأصيلة.

 

 

 

ووأدًا للفتنة أحال السلطان الأمر لقاضى القضاة محمـد بن إلياس الحنفى، وبعد مناقشات أفتى بعدم تحريم القهوة.. وتولى حكم مصر خسرو باشا، وفى زمنه كثر شرب القهوة والقهاوى... لكن بعد ربع قرن جاء فرمان سلطانى مفاجئ إلى القاهرة فى مطلع شعبان 968 هـ يقضى بمنع المنكرات والمسكرات والمحرمات ويغلق أبواب الحانات والخانات ومنع استعمال القهوة، والتجاهر بشربها وهدم كوانينها وكسر أوانيها.. ونفذ العسس الأمر السلطانى بقسوة.

وتكرر الأمر نفسه فى مكة المكرمة.. وقتها كانت مصر متحكمة تمامًا فى طرق الذهاب والعودة إلى رحلة الحج، وفى أثناء عودة الأمير المملوكى «خاير بك» حاكم مكة إلى القاهرة فى عهد السلطان قنصوة الغورى، شاهد جمعًا من الناس قد انتحوا جانبًا من المسجد الحرام مستغرقين فى كؤوس الشراب، وما إن شاهدوه حتى قاموا بإطفاء الفوانيس مما زاد من شكوكه.

بدأ الأمير فى السؤال عن شرابهم أجيب بأنها القهوة التى جلبت حبوبها من اليمن والتى انتشر تناولها فى مكة المكرمة فى أماكن يرتادها الرجال وأحيانًا النساء، وحينها قرر خاير بك سؤال كبار فقهاء مكة، فأفتوه بأن شرب القهوة حرام.

 

 

 

المثير أن خاير بك هذا كان أيضًا أول حاكم لمصر فى عصر الاحتلال العثمانى ويسجل التاريخ أنه من خان طومان باى فى معركة الريدانية وسلم القاهرة للمحتل وظل المصريون يطلقون عليه خاين بك حتى مات وعاقبوه بعدم الصلاة فى المسجد الذى بناه فى القاهرة.. وما زال المصريون عند موقفهم من الصلاة فى هذا المسجد حتى اليوم فلا تقام فيه صلاة.

المثير أيضًا أن القهوة التى تم تحريمها وقطع رأس من يشربها حماية لشرع اللـه فى زمن قديم، أصبحت هى المشروب الرسمى وواجب الضيافة فى مجالس الملوك والأمراء، والمشروب الوحيد المسموح به غير ماء زمزم فى إفطارالصائمين بالكعبة المشرفة والمسجد النبوى.. فمن حالفه الحظ بزيارة البيت الحرام والمسجد النبوى فى شهر رمضان، وحضر تناول طعام الإفطار داخل جنباتهما، حيث تتكفل به المملكة السعودية فمن غير المسموح جلب الأطعمة والأشربة داخل الحرمين سيعيش لحظات سعادة غامرة وبهجة للنفوس عامرة، يحمله فيها عبق روائح ذكية عندما تفوح رائحة القهوة العربية الممزوجة بكثير من حبات الهيل «الحبهان»، بعطرها الساحر العبقرى فى هواء المسجدين.

 

 

 

بل إن القهوة العربية هى المشروب الوحيد الذى يسمح للزائر باصطحابه داخل الحرمين فى أى وقت من العام.. ناهيك عن أن القهوة هى مشروب الضيافة الأول فى عموم بلاد العرب، وترى الفناجين والدلة أدوات صناعة وشرب القهوة فى كثير من لوحات الفن التشكيلى وتماثيل الميادين كرمز سياحى وطنى يشهد على الأصالة والعراقة.

الخلاصة.. القهوة بعد 3 قرون من التحريم صارت من أهم وأشد نوع من أنواع الواجب وكرم الضيافة.. وتقدم فى كافة المناسبات، (سادة فى المآتم) حيث يعتبر الحزن هو السمة المميزة لها، ويتناولها الأشخاص كنوع من احترام نفسية وحالة ووجدان أهل المتوفى.

وباتت القهوة تحتل مكانة بارزة ومتميزة فى ثقافة البشر لما يزيد على 15 قرنًا، ويعتبر الكافيين هو المكون التنشيطى الرئيسى فى القهوة، كما أنه أكثر المواد المنشطة للذاكرة استهلاكًا فى العالم.

وتأتى القهوة من ثمار نبات البن العربى، ومنشؤها الأساسى فى إثيوبيا، ويتم إنتاج أكثر من 90% من القهوة فى بلاد نامية، مثل أمريكا الجنوبية، فيتنام وإندونيسيا، بينما يُستهلك معظم هذا الإنتاج فى الدول الصناعية.