الأربعاء 17 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من معرض الكتاب الكويتى..لإطلالة بانورامية من فوق الأبراج ـ الحلقة الثانية

«وايد روعة»

سوق المباركية
سوق المباركية

ضم معرض الكويت الدولى للكتاب فى دورته الثامنة والأربعين هذا العام فعاليات مهمة.



كان المقهى الثقافى من الأماكن المميزة، حيث استقبل عشرات الندوات والحوارات المهمة، ما بين أمسيات شعرية وورش سردية، وحلقات نقاشية وجلسات حوارية. وضم رواق الثقافة أيضًا عددًا من الموضوعات الشيقة والمهمة.

وتنوعت عناوين المحاضرات واختلفت، إذ شهد الرواق حضورًا كثيفًا فى عدد من فعالياته من مختلف الأعمار، كما ألقت الضوء على العلاقات الثقافية بين الكويت وعمان ضيف الشرف، فى عدد من الأوجه الثقافية المشتركة بينهما. وكانت الملابس العمانية وأغانى البحر فى كلا البلدين محورين فى ندوات اهتمت بالإرث الثقافى.

وسط هذا الزخم الثقافى والمحاضرات والنقاشات المتتالية، كان يشغل تفكيرى أمر واحد، وهو كيف يمكننى اقتطاع جزء من الوقت خلال الساعات المتبقية قبل العودة إلى القاهرة لزيارة أبراج الكويت والتنزه على شاطئ الخليج العربى.

فور عودتى إلى الفندق، تفاجأت بدعوة أنيقة معلقة على باب غرفتى من قبل المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، يدعوننى إلى غداء فى مطعم آفاق بالأبراج، ظهر اليوم التالى، على شرف ضيوف المعرض. شعرت بسعادة غامرة وراحة بعد شوق لرؤية هذا المعلم المهم الذى يعد رمزًا لدولة الكويت. ففى زيارتى الأولى للكويت قبل ثلاث سنوات، لم يتسع الوقت لزيارة الأبراج.

أما فى هذه الزيارة، فقد استمتعت بساعتين فى رحاب الأبراج، وتمكنت من الصعود إلى أعلى قمة البرج، وتناول الطعام بإطلالة بانورامية على مدينة الكويت والخليج العربى. كان المشهد من فوق «وايد روعة»!

 

 

 

المطعم بتصميم فخم جدًا، أما مشهد مياه الخليج الهادئة بلونها الفيروزى فيضفى جمالًا وبهاءً على المكان.

لكن ما قصة الأبراج؟

بدأت فكرة الأبراج عام 1963، ثم توقفت، قبل أن تعود بقوة عام 1968. نشأت بداية لتكون خزانات مياه، إذ تعود فكرة إنشائها إلى الشيخ جابر الأحمد الصباح عندما احتاجت وزارة الكهرباء والماء إلى بناء خزانات جديدة بديلة عن تلك الحديدية القديمة.

صمم الأبراج مكتب ليندستروم الهندسى فى السويد، ونفذت المشروع شركة إنيرجوبروجيكت اليوغوسلافية. شيدت الأبراج عام 1975، وافتتحت رسميا فى الأول من مارس 1979. يبلغ ارتفاع البرج الرئيسى 187 مترا، والبرج الثانى 147 مترا، وتبلغ سعته مليون جالون من المياه، أما البرج الثالث فيبلغ ارتفاعه 113 مترا، وأنشئ للتحكم فى توصيل الكهرباء للمنطقة، بالإضافة إلى إنارة الأبراج عبر كشافات مثبتة عليها.

يكسو الأبراج من الخارج خمسة وخمسون ألف صحن من الحديد المطلى الصيني، مكونة من ثمانية ألوان زاهية متداخلة، مستوحاة من السماء والبحر. وتعد من أبرز معالم العمارة الكويتية ورمزا من رموز نهضتها الحديثة. وقد فازت عام 1980 بجائزة آغا خان للعمارة الإسلامية.

 

حسن عسل
حسن عسل

 

ويكمن جمال الأبراج أنها مستوحاة من روح الكويت؛ فالبرج ذو الكرة الواحدة يشبه المرش المستخدم لنثر العطر، أما البرج الذى يضم المطعم فيشبه المبخرة. والبرج بلا كرات يشبه المكحلة. وبالنظر إلى حقبة السبعينيات، كانت الأبراج إنجازا معماريا غير مسبوق فى الخليج.

تقع الأبراج على الخليج العربى فى منطقة رأس عجوزة، وتوجد فى الكويت أيضا أبراج أخرى مثل برج التحرير، أحد أبرز المعالم الحديثة فى الكويت، ويُفتح أحيانًا للزوار فى المناسبات الوطنية. وهو برج اتصالات يضم مكاتب حكومية، وسُمّى بهذا الاسم تكريمًا لتحرير الكويت عام 1991.

 

 

 

روح الكويت القديمة 

من أبراج الكويت كان الذهاب إلى أسواق المباركية مقصدا لشراء التمور والعطور والاستمتاع بأجواء التراث. فمن لم يمش فى أروقة المباركية لم يدخل الكويت أصلا.

سوق المباركية هى سوق تراثية تقع فى وسط مدينة الكويت فى منطقة حيوية مليئة بالمطاعم، وأمامها ساحة واسعة مزودة بألعاب بسيطة للأطفال وأماكن للجلوس. للسوق عدة مداخل، وتتوفر فيها كل أنواع السلع: العطور، التمور، العسل، الملابس التراثية، البهارات، الشاى والقهوة العربية، التوابل، الأوشحة الكشميرية المطرزة، أدوات الزينة، المجوهرات والذهب، الحلويات، وحتى الأسماك واللحوم.

تقع السوق فى منطقة القبلة، وسميت نسبة إلى الشيخ مبارك الصباح، وتتميز بتصميمها المشابه للأسواق القديمة. نشأت على يد التجار الكويتيين الذين كانوا يجلبون بضائعهم من العراق والهند وإفريقيا عبر السفن، ويلتقون هنا لتبادل البضائع، فاكتسبت السوق شهرة واسعة فى الخليج.

السوق مسقوفة والمشى فيها مريح، وتحمل مداخلها أسماء الأقسام القديمة: سوق الصرافين، سوق السلاح، سوق البهارات والعطارة، سوق المسابيح، وسوق واقف. وتشتهر أيضا باسم سوق الحريم.

بسطة عسل 

استقبلنى بائع من السوق بملامح مصرية وابتسامة واسعة وهو يعرض علىَّ نوع شاى يسمى البطة. لم نحتج إلى كلمات لنعرف أننا من بلد واحد. هلل عندما علم أننى من مصر، وقال إنه كان يتمنى لو كنت من الإسكندرية، وحين سألته إن كان هو إسكندرانى ضحك قائلا لا، لكن يبدو أن الحنين إلى البحر وحده يشفع.

أجلسنى أمام «بسطته»، فهو لم يعد يستأجر محلا داخل السوق بسبب ارتفاع الإيجار، واكتفى ببسطة صغيرة يعرض عليها الشاى والقهوة.

أخبرنى أن مهنته الأساسية كانت بيع عسل النحل، بل يلقب بين التجار بـ«حسن عسل»، لكن الظروف تغيرت.

 

صورة لنساء الكويت قديما وهن ذاهبات إلى الخليج
صورة لنساء الكويت قديما وهن ذاهبات إلى الخليج

 

حدثنى عن أنواع الشاى التى يفضلها الكويتيون، ثم أصر أن يصنع لى كوبا من القهوة العربية. مد يده إلى برطمان صغير فيه زعفران أحمر، قائلا إنه من إيران وله فوائد كثيرة. سألته إن كانت السوق مقصد الزوار أم أهل الكويت أيضا، فأكد أنها شريان الكويت، وأنه يعمل فيها منذ اثنين وعشرين عاما. قال إن الأسعار معقولة، وإن السوق لا تغلق أبوابها طوال أيام الأسبوع، ولا حتى فى «الجُمع». وأضاف أن من يأتى إلى الكويت ولا يزور المباركية كأنه لم يأت.

وعندما سألته عن الحريق الذى التهم جزءا من السوق فى أواخر مارس 2022، قال إن جزءا منها تضرر ولا تزال التجديدات جارية، لكن بقية السوق بخير. وقد قرأت وقتها أن عملية الإعمار أسندت إلى خبراء متخصصين بالتراث لضمان الحفاظ على هوية المكان.

فى قلب السوق تقع ساحة الصفاة التى تضم مطاعم عديدة، كما توجد سوق المقاصيص الخاصة بالباعة المتجولين، وسوق البشوت، وهو الزى الأنيق الذى يرتديه الرجل الكويتى فى المناسبات. عندما يريد أن (يكشخ). 

ويكشخ بمعنى يتأنق بملابس فخمة، وهناك أيضا كشك الشيخ مبارك، متحف صغير لم أعلم بوجوده إلا بعد مغادرة السوق. كان الكشك مقرا لإدارة شئون الدولة، ويضم اليوم وثائق وصورا ذات قيمة تاريخية للكويتيين.

نكهات بين الهند والكويت 

العطارة فى السوق ألوان وروائح، والكارى الهندى يشكل أساسا لعدة أطباق. وكنت قد لاحظت فى مصر افتتاح مطاعم بطابع خليجى تضع عبارة مأكولات هندية إلى جانب مأكولات كويتية. توقعت أن العمالة الهندية الكثيفة فى الكويت نقلت طعامها إليها، كما جلب السوريون إلينا الشاورما والكبيبة لكن يبدو أن الأمر أعمق، فالمطبخ الهندى جزء أصيل من المطبخ الكويتى منذ زمن بعيد، عبر التبادل التجارى القديم.

فالكويت كانت مركزا تجاريا مهما، وكانت السفن تذهب إلى الهند وزنجبار والبصرة ومسقط باستمرار، وعاد التجار معهم بالبهارات والوصفات التى أصبحت جزءا من المطبخ المحلى.

المأكولات الكويتية مصدر اعتزاز للكويتيين، فهم يرون أن مائدتهم جمعت نكهات من دول عديدة واحتفظت بأجمل ما فيها من بهارات، مما منح المطبخ الكويتى طابعا مميزا. منها المجبوس لحم أو دجاج

أشهر الأطباق الكويتية، ويتكون من أرز مطبوخ مع اللحم أو الدجاج مع خليط من البهارات مثل الهيل والزعفران، ويقدم عادة مع شاى اللومي. واللومى هو الليمون الأسود.

المطبق..وهو يطلق على كل طبق يحتوى على السمك، ومن أشهر أنواعه مطبق زبيدي. والزبيدى هو واحد من أشهر أنواع الأسماك فى الكويت والخليج.

الروبيان الجمبرى.. له مكانة خاصة فى المطبخ الكويتي، ويقدم مشويا أو مقليا أو مع مرق يشبه الكاري، وقد يطهى مع الأرز فى طبق يسمى مجبوس روبيان.

الهريس.. من أقدم الأكلات التراثية، يطبخ لساعات طويلة من القمح الكامل واللحم.

المموش.. أكلة تراثية من الأرز مع الروبيان المجفف، اليابس ظهرت قديما من الروبيان الصغير الذى يجمع من شباك الصيادين. وكان الفقراء يملحونه ويجففونه ليبقى صالحا لعدة أيام .. وإلى الآن تعتبر وجبة شعبية لذيذة.

محروق صبع.. طبق يطهى بمرق اللحم أو الدجاج. من الدجاج والخضروات. 

موربيان.. طبق من الأرز مع الروبيان، يركز على نكهة الأرز.

الجبوط.. عجينة محشوة بالبهارات، كانت تتناولها النساء بعد الولادة. لتنظيف الرحم من الدماء. 

ألعاب شعبية

وكما أن الأسواق والطعام إرث ثقافى يشى بتاريخ أى بلدة، فإن الحرف التراثية والألعاب الشعبية تحمل القيمة ذاتها. ففى فعاليات المعرض تألق فريق اكسبو 965 للمعارض.

وقد رأيت هذا الفريق سابقا فى مصر أثناء مشاركتهم فى الاحتفالات الرسمية الخاصة بأعياد الكويت. أجريت حوارات مع بعض أعضائه، بينهم فنان يرسم على البيض وآخر يعمل بقطع الزجاج. الفريق مسجل لدى وزارة الشئون الاجتماعية وعضو فى المجلس الوطنى العالمى للحرف. وهو أول وأكبر تجمع تراثى وحرفى فى الشرق الأوسط، يضم مؤرخين وباحثين وحرفيين وأصحاب متاحف خاصة.

وفى المعرض لفتتنى مشغولاتهم المميزة، ولاحظت ازدحام الزوار حول جناحهم. وأثناء جولتى، تجمع الأعضاء حول وزير الشباب والإعلام الكويتى عبدالرحمن بداح المطيرى وبدأوا فى أداء أغانٍ وسط إعجاب الحضور. لم أفهم الكلمات، لكننى أيقنت أنها من التراث الكويتى الأصيل.

تحدثت مع عبداللطيف الشطي، حرفى المجسمات الفخارية والموزاييك، الذى أخبرنى أن اللوحة الواحدة التى يرسمها قد تضم أكثر من ألفين وخمسمئة قطعة سيراميك وتستغرق عشرين يوما. ثم اصطحبنى بين المعروضات وتوقف عند لوحات تحكى جماليات من الماضى، منها لوحة لسيدات متجهات للبحر يحملن ملابسهن المتسخة فى «البوكشة» بهدف غسلها فى المياه. 

كما عرض صورا لرحلات صيد اللؤلؤ إلى الهند وزنجبار، وكيف كان الغواصون يحتفظون باللؤلؤ فى الفطام.

ثم قدم لى علبة مناديل خشبية نقش على جوانبها أربعة رسومات لأشياء تقليدية كانت تستخدم قديما: باب كويتى قديم، والروشن المشابه للنيش فى مصر، والدلة، والمرش المستخدم للطيب، إضافة إلى الصندوق المبيت الذى توضع فيه الدزة، وهى جهاز العروس.

أما الحرفى أبوبكر الكندرى فتحدث عن الحرف التراثية القديمة فى الكويت والتى يعمل الفريق على إحيائها وتعريف الشباب بها، مثل صناعة السفن، والألعاب الشعبية القديمة، وأبرزها الدوامة أو النحلة كما نسميها فى مصر، والنباطة لصيد الطيور، والأفخ. وأضاف أن من أقدم الألعاب الشعبية لعبة الدرباخة..

(باص باص باصينة

لِسِن لِسِن لِسينة

يوم العيد اتعشّينا

اتعشّينا فاصوليا

واللّحمة المشويّة …)

هذه الكلمات هى جزء من لعبة تراثية 

قديمة كان يلعبها الأطفال فى أنحاء الكويت ولها امتداد فى بلدان عربية. 

الألعاب الشعبية ثقافة قائمة بحد ذاتها؛ ذكرى لا تفارق أرواحنا، تستوطن ذاكرتنا، وتخبرنا عن ملامح ذواتنا الأولى. فهى تراث واسع يصعب حصره، ولكل بلد إرثه الخاص منه.

التقيت لطيفة بطي، أول من دشّن طباعة ونشر كتب الأطفال فى الكويت عبر مشروع سيدان ميديا. لفتت انتباهى مطبوعاتها التى تستخدم مفردات تراثية قد تكون اليوم شبه مهجورة، لكنها تصر على حمل هذا الإرث وحمايته.

تقول لطيفة إن التراث ظلم فى الأجيال السابقة، وإنها أخذت على عاتقها مسئولية حمايته وتعريف الأجيال به. فهى كاتبة وناشرة أعادت كتابة عشرات الحكايات الشعبية الكويتية وقدمتها للأطفال فى صورة مناسبة، كما أصدرت عشرات القصص الإبداعية للأطفال والناشئة، بالإضافة إلى مجموعتين للكبار.

وقدمت العديد  من ورش القراءة للأطفال، وشاركت فى قراءة ورواية قصصها فى المدارس والمعارض والمهرجانات فى الكويت والإمارات وسلطنة عمان وتونس والمغرب.

وتشير إلى أن التراث يتكون من الحكايات الشعبية والأمثال والتعاجيز الشعبية، وتذكر من أشهر الألعاب فى الكويت قديما: طاق طاقية، رن رن جرس، شبرة قمرة، نط الحبل، بر بحر، وصبحكم بالخير المشابهة لبريلا بريلا.

تتحدث بحماس وكأنها تعود طفلة. تغنى وتقلد ما كان يفعله الأطفال. 

 تحكى وتكتب وتسمى إصداراتها بأسماء تراثية من البيئة .. لا كتاب شبه الآخر .. جولة ماتعة بين أروقة الماضي.

وعندما سألتها عن سر ولعها بالتراث، قالت إنها لم تدرسه أكاديميا، لكنها تحفظ كل ما تقع عليه يدها من تراث أى بلد. وأوضحت أن المدارس قديما ضمت جنسيات مختلفة، وكانت الألعاب تنتقل من بلد لآخر، مثل لعبة فتحى يا وردة سكرى يا وردة المصرية.

كما تحدثت عن القصص الصامتة التى توسع خيال الطفل.

لطيفة بطى حائزة على  جائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2017 عن قصتها «بلا قبعات» التى ترجمت إلى لغات عديدة. وقالت إنها كانت تخشى فى بداياتها أن يعتبر الأطفال قصص التراث قديمة ولا يقبلون عليها، لكنها اليوم أصبحت من أهم مؤلفى هذا المجال.