حكايات 60 سنة صحافة الحلقة ـ 66
يوسف السباعى لحظات من العمر.. وحكايات على الهامش
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

فى ذكرياتى عن يوسف السباعى أنه كان لطيفًا مهذبًا.. وكان يتولى بنفسه رعايتنا نحن - الأدباء والصحفيين - الشبان فى دار أنشأها خصيصًا وأسماها: «دار الأدباء»، وهى فيلا فى شارع قصر العيني، كنا نستسهل الذهاب إليها بعد العمل فى «صباح الخير»... لقربها من المجلة حيث تقع على بعد خطوات.
وقد اكتشفناها بالصدفة فوقعنا فى حبها...
أولاً: لأنها يسّرت لنا لقاء يوسف السباعى الكاتب والأديب وسكرتير عام المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب.
وكنا نلتقيه كل يوم تقريبًا ونستمتع ببساطته ولطفه ورعايته لنا، ومن مظاهر هذه الرعاية أنه جعل دار الأدباء توفر وجبات فاخرة ومشروبات بسعر التكلفة، وهى قروش قليلة.. وكان هذا مدهشًا.

واستمر لعدة سنوات تحت إدارة سفرجى نوبى محبوب هو عم «دهب» الذى أوصاه الكاتب الشهير أن يكون فى خدمتنا ويرحب بنا.. دون حتى أن يعرف إذا كنا أدباء أم لا!
أقل واجب
فى أكثر من مناسبة أبدينا للأستاذ يوسف السباعى شخصيًا سعادتنا وترحيبنا بكل هذا.
ووجدناه يقول ما معناه أن هذا هو أقل واجب وأنه يتطلع لإبداعاتنا الأدبية ومشاركتنا فى مسابقات نادى القصة الذى يشرف عليه.

لكن بعد عدة سنوات توقفت هذه الرعاية فجأة ولم تعد دار الأدباء توفر أى طعام أو شراب، وكان من الطبيعى أن نتجه إلى «فلفلة» و«ريش» وغيرهما فى وسط القاهرة لنتغدى، ثم نعاود الذهاب للمجلة لكتابة ورسم موضوعاتنا.
ومع الوقت أصبحنا نفتقد صحبة يوسف السباعي.
فقلنا إنه ربما مشغول بمهامه المتعددة.
لكن أدباء آخرين شكوا أمامنا وسخطوا من تطورات يوسف السباعى وسوء معاملته، فكانت فرصة لأن نتبادل المعلومات عن هذا الرجل.
فعندما علمت أنه صاحب مبادرة نشر ثلاثية نجيب محفوظ مسلسلة فى مجلة «الرسالة الجديدة» التى كان يرأس تحريرها، وذلك قبل أن ينشرها سعيد جودة السحار فى ثلاثة كتب، أبديت إعجابى به.

وعندما علمت أنه استجاب لفكرة إنشاء المجلس الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية التى اقترحها عليه إحسان عبد القدوس، وأنه قام بعرض الفكرة على الرئيس جمال عبد الناصر فرحب بها بشرط أن يتولى يوسف السباعى بنفسه منصب السكرتير العام، أعجبني.
حيث كان السباعى يلقى تقدير الأدباء، أطلق نجيب محفوظ على السباعى لقب «جبرتى العصر» لأنه سجل بكتاباته الأدبية أحداث الثورة منذ قيامها حتى بشائر النصر فى حرب أكتوبر المجيدة عبر أعماله: رد قلبي، جفت الدموع، ليل له آخر، أقوى من الزمن، والعمر لحظة.

وصدر ببيروت كتاب بعنوان «الفكر والفن فى أدب يوسف السباعي» وهو مجموعة مقالات نقدية بأقلام أجيال مختلفة على رأسهم طه حسين، وقد أشرف الكاتب غالى شكرى على تقديم هذا الكتاب وإعداده، وأعلن أن أدب يوسف السباعى فى مجمله ظاهرة اجتماعية.
أما توفيق الحكيم فيصف أسلوب السباعى بأنه سهل عذب باسم ساخر، ويحدد محور كتبه بقوله إنه يتناول بالرمز والسخرية بعض عيوب المجتمع المصري.
ويتفق فريد أبوحديد مع توفيق الحكيم فيعلن أن أسلوب السباعى سائغ عذب سهل سليم قوى متين.
ويعرض الناقد الكبير الدكتور محمد مندور لرواية «السقا مات»، فيعلن أن يوسف السباعى أديب من أدباء الحياة بل من أدباء السوق التى تعج بالحياة والأحياء وتزدحم بالأشخاص والمهن.
وتعرض بنت الشاطئ لرواية «أرض النفاق» فتعترف أن كثرة أخطاء يوسف السباعى اللغوية صدمتها فى أول الأمر فصرفتها عن قراءة مؤلفاته لكنها حين قرأت أرض النفاق اضطرت أن تغير رأيها.
عن أول أوبرا
كان السباعى وهو سكرتير عام المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب أعلى الأصوات المعارضة لأوبرا «حسن البصري»، أول أوبرا مصرية وضعها الموسيقار كامل الرمالي، خلال عرضها على مسرح قاعة «إيوارت»، بينما كان بحكم منصبه مطالبًا برعاية هذه التجربة، لكنه قاد حملة قاسية للإساءة لها.
وعندما بلغنى أنه فى عام 1956 كتب مقالًا سخر فيه من الأوبرا لم يعجبنى موقفه، وقد عارضه صلاح عبد الصبور وسامى داود و(....)، وعندما كشفا أنه لم يشاهد الأوبرا التى يسخر منها.. لم أكن معجبًا به.

واندهشت: هل هذا هو نفس الإنسان الذى كان يحتفل بنا فى دار الأدباء؟!
كان مشهورًا عن يوسف السباعى أنه خلال قيادته لمجلس الآداب والفنون كان يكتب روايات رومانسية تتحوّل فورًا إلى أفلام يقوم ببطولتها نجوم السينما.. لكنها على كثرتها قلت بعد خروجه من المنصب.
وفيما بعد قالت لى سيدة الشاشة فاتن حمامة إن يوسف السباعى يعتبر واحدًا ممن أثروا السينما المصرية برواياتهم.
لكن لما تداولت الحكايات وبعض الأقاويل أن يوسف السباعى الذى بادر إلى نشر ثلاثية نجيب محفوظ هو نفسه الذى أوقف نشر مقالات نجيب محفوظ فى «الأهرام» عندما كان رئيسًا للتحرير وذلك بطلب من الرئيس السادات.. لماذا؟.. لأن نجيب محفوظ كتب مقالًا، بعد تطبيق سياسة الانفتاح، قال فيه إن مصر أصبحت بلدين، واحدة للأغنياء والأخرى للفقراء.
لم يعد لدى مكان للإعجاب
وفى سنة 1964 عندما ثارت ضجة فى الصحافة والبرلمان ضد رواية «أنف وثلاث عيون» ومؤلفها إحسان عبد القدوس، بلغت حد مطالبة نائب فى البرلمان بتقديم إحسان ليحقق معه بوليس الآداب لأن الرواية تسيء للآداب العامة وتنشر الإباحية كما ادعى النائب الذى أعلن أنه لم يقرأ الرواية أصلًا، أعجبنى موقف الأستاذ يوسف السباعى الذى اتصل بالرئيس عبدالناصر، فأصدر الرئيس أمرًا بالكف عن إحسان فأعجبت بشدة بيوسف السباعي.
وأتذكر الآن حكاية رواها لى صديقى الكاتب الصحفى وكاتب أدب الرحلات حسين قدري، الذى يعتبر يوسف السباعى أحد أساتذته فى الصحافة، وهى أن حسين كان تلميذًا صغيرًا فى منتصف أربعينيات القرن الماضي، فاز فى مسابقة مجلة الأطفال «بلبل» التى يرأس تحريرها محمد عودة، فدعته صاحبة المجلة للعمل فى المجلة خلال عطلة الصيف، فكان يلاحظ أن ضابطًا شابًا كان يحضر يوميًا للمجلة بملابسه الرسمية، ويخلع الجاكيت المرصع بالعلامات والرتب المذهبة، ويجلس يكتب قصصًا.. ثم يذهب، ويكرّر هذا كل يوم.. وعرف حسين قدرى فيما بعد أن هذا الشاب الأديب هو يوسف السباعي.
وفيما بعد التقاه حسين وقد أصبح صحفيًا وأديبًا مشهورًا وتولى رئاسة تحرير مجلة «الحياة» التى كانت تصدر من مبنى «روز اليوسف» فتعلّم منه الكثير.
وأهم ما تعلمه هو الانضباط والحب والبساطة والتواضع والصدق، وأن الصحفى يجب أن يكون صحفيًا على مدى الـ 24 ساعة كل يوم.
وفى الأسبوع المقبل نواصل



